“أشعر أنني كنتُ المتحدثة الوحيدة اليوم. ربما لأنني رأيتك بعد زمن طويل فغلبتني العاطفة. في المرة القادمة، دعني أستمع إلى قصتك.”
“…….”
صمت كليف لحظةً قبل أن يجيب بنبرة مقتضبة: “حسناً.”
ذلك الصمت الذي سبق جوابه لم يكن قصيراً، وقد أثار في نفس روزالين شعوراً بالغرابة، لكنها لم ترَ ضرورة لأن تفصح عنه.
“روزالين.”
“نعم.”
“أنوي السعي لإبرام اتفاق سلام مع إفـرون. وأريد أن يكون دوقية ماكايزان الجسر الذي يربط بيننا.”
في لحظة، تجمّد الهواء الذي كان سائلاً من حولهما.
“فلنؤجل هذا الحديث إلى وقت آخر.”
“إنه معاهدة عدم اعتداء، تضمن السلام لعشرين عاماً قادمة بين إفـرون وماكايزان وهايتس. وفي المقابل… أود استعادة إقليم لويزن.”
تحجّر وجه روزالين، كما لو صار صخرة قاسية.
“سأعتبر أنك لا تتحدث بعقلك.”
“روز.”
ارتجفت حين ناداها بالاسم الذي لم تسمعه منذ زمن بعيد. ذلك اللقب الحميمي الذي اندثر مع مذبحة آل مور. لم يبقَ أحدٌ من أسرتها ليمنحها ذلك النداء، ولم يكن غامضاً عليها لماذا يستحضره كليف الآن بالذات.
“اللعنة… لم يكن ينبغي أن ألتقيك في هذا الظرف. يبدو أنني انجرفتُ وراء وهم القرابة. كليف، هل تدرك حقاً ما الذي تطلبه مني الآن؟”
“إنني أطلب شراكةً نافعة للطرفين. الحرب في هذا التوقيت ستجلب الخسائر أكثر مما ستمنح المكاسب، وأنت تعلمين ذلك.”
“فتطلب مني أن نعيد لكم إقليم لويزن؟! وعلى أي ثقة؟! على ثقة أن هايتس، أنتم الذين خرجتم منتصرين من حرب القارة الكبرى، لن تستخدموا ذلك الإقليم لتضربونا به بعد حين؟!”
“هناك ما ينبغي أن أحميه.”
توقّفت روزالين، وقد كانت تهمّ بتعداد فظائع هايتس وما خلّفته في الحرب، ثم حدّقت فيه بارتباك.
“ماذا قلت؟”
“أريد أن أحمي شيئاً. ولأجل ذلك… أحتاج إلى هذه المعاهدة.”
“ما الذي تقصده بالضبط؟”
مالت برأسها في حيرة، وكأنها لا تستوعب كلماته. عندها أطبق كليف صوته، كما لو يوجه رجاءً أخيراً:
كليف لم يكن يوماً رجلاً يطلب العون. هو الذي فضّل أن يتحمل كل عبء وحده حتى لو قاده إلى حتفه، على أن يتفوّه بكلمة استجداء. كانت تعرف عزته وأنفته أكثر من أي أحد.
“إذن أنت تدرك أن هذه المعاهدة لن تكون ممكنة دون دعم ماكايزان… وأنها ضربٌ من الجنون بدوننا.”
وبملامحها الرفيعة التي أضناها الإرهاق وهي تعبث بخصلاتها، بدت وكأنها تشبهه في تلك اللحظة أكثر من أي وقت مضى.
“حسناً. فهمت. سأبحث عن وسيلة.”
* * *
في هايتس بدأت شائعة تتناقلها الألسنة:
“سمعتَ الخبر؟”
“أي خبر؟ آه… تقصد أن ماركيز مور صار يتردد إلى قصر دوق ماكايزان بانتظام؟”
“يُقال إن بين معاوني الدوق امرأة، عينها بلون ماء البحيرات، وجمالها فاتن إلى حدٍّ عجيب. حتى إن الدوق نفسه بدا مرتبكاً من كثرة ملازمتها له.”
“أليست غير متزوجة؟”
“إذاً فما الذي يدفعه لطرق أبواب القصر يوماً بعد يوم؟”
“كنتُ أظن أن العلاقة بينه وبين زوجته تحسنت بعدما دافعت عنه في الحفل الملكي وجابهت اللورد مالكوم… لكن يبدو أن الأمر لم يكن إلا وهماً.”
“كيف يعقل أن تتحول علاقة باردة لسنوات، إلى مودة حقيقية في زمن قصير؟! لا، أراها مسرحية. ألسنا نعلم جميعاً كيف نال ماركيز مور سيل الشتائم حين عُيّن قائداً للفرسان؟ لقد كان بأمس الحاجة ليُظهر للناس صورة الأسرة المتماسكة.”
وكما تفعل الألسنة دوماً، مضت الشائعة بلا أقدام حتى بلغت مسامع أيزن.
“سيدتي، لا تكترثي لتلك الأقاويل الباطلة.”
قالها ليور وهو يرمقها بحذر، يحاول أن يواسيها. لكن هاردين، الذي كان بجواره، وخزه بنظرة حادة وكأنها تقول: “ما الذي حملك على فتح هذا الموضوع أصلاً؟”
تردّد ليور لحظة، ثم اقترب منها بخطوات مترددة، كمن وجد الفرصة ليعترف بما خبّأه طويلاً.
“سيدتي… هناك أمر… أرغب في أن أبوح به.”
* * *
جثا ليور على ركبتيه، معترفاً بأنّه هو من ألقى بالكورساج. ارتسمت على وجهه الرجولي الكثّ اللحية أمارات خجل صادق، وكأن خشونة ملامحه لا تمنعه من الانكسار حين يحين وقت الاعتراف بالذنب. حتى في لحظة إقراره، بدا ذلك الرجل الصلب كقطعة حجر وهو يواجه خطيئته على طريقته.
قال بصوت خفيض:
“إن كان وجودي يزعج سيدتي، فسأترك الفِرسان.”
كان الجرح الذي تركه منظر الكورساج الملقى لا يزال طرياً في قلبها، فلم تستطع بعد أن تسامحه. ومع ذلك، لم تكن راغبة في أن يغادر فرسان الظل. وحين سمع جوابها، قال بثبات: “إذن، سأبقى إلى جانب سيدتي أكفّر عن خطئي.”
بعد أن غادر، بقيت أيزين تنظر من النافذة. بدا الميدان الذي ظلّ فارغاً لأيام وكأن وحشةً غلّفته.
(مستحيل… كليف لا يمكن أن يلتقي امرأة أخرى.)
رفض عقلها الفكرة رفضاً قاطعاً. ومع ذلك، فإن الرجل الذي يمكنه أن يبدّد تلك الشائعة، لم يظهر له أثر. بل ازداد انشغال كليف يوماً بعد يوم. صار غيابه عن البيت حتى في ساعات متأخرة من الليل أمراً مألوفاً، وكأن لقاءه بها بات ضرباً من البعد المستحيل. لم تعرف السبب، غير أنّه بدا مشغولاً بالتنقل بين القصر الإمبراطوري وقصر دوق ماكايزان. لم يعد أمامها حتى فرصة لتسأله عن حقيقة ما يتردّد من أقاويل، وهي بالكاد ترى ملامحه.
(أهو مشغول إلى حدّ لا يجد فيه وقتاً ليمرّ بالبيت؟ أم أنّه لم يَعُد يرغب حتى برؤية وجهي؟)
تذكّرت أنهما افترقا في المرة الأخيرة على خلاف، وقد غادرت وهي غاضبة. ترى، هل ما زال يحمل شيئاً من ذلك الغضب؟
تمتمت بحزم:
“يجب أن أراه… يجب أن أرى كليف.”
ورغم كل شيء، ظلت في داخلها مساحة صغيرة للإيمان به. لم تكن تصدق أن ما يتناقله الناس يمكن أن يكون صحيحاً. كانت تعرف أنه لم يكن هو من ألقى بالكورساج. وما زالت تستشعر على جفنيها بقايا تلك القبلة الرقيقة التي وضعها قرب عينيها.
(لكن… من تكون تلك المرأة؟)
غير أن فضولها لم يكن فضولاً بريئاً فقط، بل كان يحمل معه بذرة شكّ ثقيل أخذ ينمو شيئاً فشيئاً.
* * *
وجدت أيزين نفسها في صالون الفارس الشهير، الكونت ساتشينكوس. كان حفل شاي يجمع أعلاماً من عالم التجارة والبحث العلمي. قيل لها إن كليف سيحضر هذا اللقاء، ولهذا جاءت. وبما أنّ الكونت يدير أعمالاً واسعة في دوقية ماكايزان، فقد كان معظم الحضور من أهلها.
“زوجة الماركيز مور؟ آه… ما الذي جاء بك إلى هنا…؟”
شهقت الكونتيسة، زوجة المضيف، حين لمحتها. قرأت أيزين في ارتباك صوتها ما لم يُقَل: دهشةٌ وربما شيء من القلق.
(لِمَ ترتبك هكذا؟)
ابتسمت أيزين وقالت بهدوء: “لقد سمعت عنكِ.”
فأجابت الكونتيسة بسرعة، محاولة استعادة هدوئها:
“كم أنا شاكرة لكِ أنك تفضّلتِ بالحضور رغم كل شيء. صدقيني، شكراً جزيلاً لكِ يا سيدتي.”
ثم أخذتها من يدها برفق، كما لو تخشى أن تقع عليها أنظار الآخرين، وقادتها بنفسها إلى غرفة جانبية بعيدة عن القاعة. كان تصرفاً غريباً من مضيفةٍ مشغولة، بل أكثر من مجرد مجاملة. وفوق ذلك، شدّت على يدها وربّتت عليها كأنها تواسيها، مرددةً:
“أنا أفهم ما تشعرين به جيداً. كأن النار تلتهمك من الداخل… وتودّين لو استطعتِ أن تقطعي رقابهم جميعاً بيديك.”
“ماذا؟ ما الذي تعنينه؟” سألت أيزين بدهشة.
ابتسمت الكونتيسة بحزن وقالت:
“لكن عليكِ أن تصبري قليلاً. نزوات الرجال عابرة. إنهم، بحماقتهم، يلهثون خلف كل ما هو خارج البيت. لكنهم في النهاية… يعودون دائماً، خائبين منكسرين.”
لم تفهم أيزين كلماتها إلا بعد دقائق قليلة. فقد رأته.
رأت كليف. هناك، في عمق القاعة، واقفاً إلى جانب امرأة.
في البداية لم تصدّق عينيها، حتى إنها مسحتهما بيدها. كان مستنداً إلى الجدار، والمرأة أمامه تتحدث بلا توقف. وقد عقد ذراعيه أمام صدره، يصغي إليها باهتمام، يهز رأسه بين حين وآخر. وأحياناً يقطب حاجبيه أو يومئ بالنفي على ما تقول.
تلك البساطة في الحركات، والألفة المريحة التي تنسجها تعابيرهما، جعلت قلب أيزين يذوب ارتباكاً. شعرت وكأن قدميها مسمّرتا بالأرض بمسامير فولاذية، لا تستطيع التقدم ولا حتى التراجع.
“انظري… إنها زوجة الماركيز مور.”
“أجل، لقد جاءت بنفسها.”
بدأ الهمس يتصاعد من حولها، وراحت العيون تتنقل بينها وبين كليف وتلك المرأة الغريبة.
وكأن كليف سمع الهمهمة، فرفع رأسه بغير اكتراث. وفي اللحظة التي التقت عيناه بعينيها، اتسعت حدقتاه لحظة خاطفة. أدركت أيزين في الحال أنّ المفاجأة ارتسمت على وجهه لأنه لم يتوقع وجودها هنا.
(لِمَ يتفاجأ؟)
انطلقت في رأسها أسئلة حادة كالسكاكين، لكنها لم تحِد بنظرها عنه. بل تقدمت نحوه بخطوات ثابتة.
“كليف.”
التفتت المرأة أيضاً، وقد ارتسمت على وجهها الدهشة من دخول أيزين المفاجئ في حديثهما.
“أيزين.”
“لقد مضى وقت طويل، أليس كذلك؟ كم يوم مرّ؟ أسبوعان؟”
انطلقت الكلمات من فمها مضطربة، تخبطت في عبارات لم تكن لتقولها في العادة. وكان الصمت من جانبه أشدّ وقعاً من أي رد.
“أيزين… ما الذي جاء بك إلى هنا…؟”
قطع كلماته فجأة، ثم خفّض بصره، متجنباً لقاء عينيها. تمتم بصوت خافت:
“لنخرج لنتحدث.”
حتى رأسه مال جانباً، بعيداً عنها.
لم تصدّق ما يحدث. كأن حجراً ثقيلاً ارتطم مباشرة بجمجمتها.
“ومن تكون هذه؟”
صوت المرأة اخترق اللحظة، رقيقاً عذباً حدّ الإفتتان. صوتٌ لا يمكن مقاومته.
أجاب كليف بعد تردد قصير:
“……إنها زوجتي.”
“زوجتك؟!”
اتسعت عينا المرأة بذهول، وتألقتا كبركة ماء زُرعت فيها نجوم. حدّقت بهما معاً بصدمة بالغة، حتى فمها الذي انفلت من ذهوله بدا لوحة كاملة الجمال.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 70"