فوجئ حرس الدوق بذلك الضيف الوقح الذي اقتحم القصر ذات يوم بلا موعد ولا استئذان. ولشدّة إصراره، ارتبكوا في أمره، ثم انتهوا إلى أن يأذنوا له بالدخول.
ـ “انتظر هنا قليلًا، سأستأذن مولاي الدوق.”
قال الشيخ المسنّ وهو ينحني احترامًا قبل أن ينسحب من القاعة.
بقي كليف وحده في صالة استقبال واسعة، وما إن أُغلقت الأبواب خلف العجوز حتى انطلقت عيناه الحادتان تمسحان أرجاء المكان بدقة. ثم تحسّس سيفه وما يحمله من أسلحة ليتأكد من جاهزيته. لقد جاء متعجّلًا، عازمًا على لقاء الدوق وعقد الاتفاق معه في أقرب وقت، لكنه كان يدرك في الوقت نفسه أنّ هذا الموقف يمنح خصمه فرصة مثالية لاغتياله من حيث لا يدري أحد.
فالمرحلة كانت أخطر ما يكون: أشبه بطلائع حرب لم تندلع بعد، حيث يترقّب الجميع لحظة الانقضاض على رقاب الآخرين.
دار المقبض، وانفتح الباب ببطء. لم يتحرّك كليف قيد أنملة، غير أنّ يده انزلقت آليًا إلى سيفه.
ـ “أأنتَ كليف مور؟”
لم يكن القادم الدوق. بل امرأة طويلة القامة، بشعر حالك السواد، ترتدي بنطالًا بدل الفستان، وتكمل هيأتها بزيّ رسمي صارم يبرز خطوطه الحادة وياقته المرفوعة.
لم تكن تبدو كفارس من فرسان الدوق، ولا كإحدى نسائه، بل كان لها حضور محكم، مغلق على نفسه كأن الهواء لا ينفذ إليه.
ـ “يبدو أن أسد هايتس الأسود ما زال يظنّ أن هذه الأرض ساحة معركة. لا قانون ولا آداب تراعيها إذن؟”
كان في نبرتها ما يوحي بألفة غامضة، فأصغى كليف بانتباه.
ـ “إن كان في تصرّفي إساءة فسأعتذر لاحقًا. إنما جئت لمقابلة الدوق.”
ـ “أتعلم أنّ مولاي ليس رجلًا يُقابل بهذه الفجاجة؟”
ـ “لهذا بعثت إليه رسائل، لكنه لم يُجب.”
قهقهت باستخفاف:
ـ “أوَظننتَ أنه كبائع سوق، يكفي أن تُرسل إليه طلبًا ليُلبّيه؟”
رنت كلماتها بنبرة ساخرة، غير أنها لم تكن إلا امتحانًا مبطنًا.
لم يرَ كليف داعيًا لمزيد من الجدال، فأعاد قوله بحزم:
ـ “جئت لأقابل الدوق.”
قالت بنبرة تنضح بالمعرفة:
ـ “ما زلت لا تصغي إلى أحد، كعادتك يا كليف مور.”
جمدت ملامحه، فلم يُبدِ أثرًا للتعجب.
اقتربت خطوة، وعيناها الزرقاوان تحدّقان فيه بثبات:
ـ “أما زلت لا تعرفني يا كليف؟”
ابتسمت، فانقشعت عن وجهها البرودة، ولم يبقَ فيه سوى فرح صافٍ ودفء صادق.
ظلّ يواجه نظرتها بجمود، لكن شيئًا ما تزلزل داخله؛ عيناه ارتجفتا ارتعاشة خفيفة، نادرة الحدوث. وحدها أيزين استطاعت أن تثير فيه مثل هذا الاضطراب من قبل.
تمتم أخيرًا، كمن يستخرج اسمًا من أعماق منسيّة:
ـ “… روزالين.”
ابتسمت والدموع تتلألأ في عينيها الزرقاوين المشابهتين لعينيه:
ـ “نعم، أنا.”
انفتحت ذراعاها، واحتوته بعناق.
أدرك كليف بعقله أنها ليست عدوة، لكنه بقي متصلّبًا، جسده يرفض الدفء الغريب. كانت حرارة جسدها غريبة عليه، تثير في داخله رفضًا غريزيًا، فذلك العناق لم يأتِ من أيزين.
كيف له أن يتقبّل فجأة حضور من ظنّها منذ زمن بعيد قد غابت إلى الأبد عن هذا العالم؟
ـ “لقد نجوتِ… يا ابنة عمي العزيزة.”
قالها أخيرًا، فيما هي تبكي وتضحك في آن، غير واعية لحيرته، ممزوجة ملامحها بمزيج من الحزن والفرح.
* * *
ـ “سمعتُ إشاعة بأنك حي، لكن أن أراك بعيني… فهذا لا يُصدَّق.”
قالت روزالين وهي ترفع فنجان الشاي الذي يتصاعد منه البخار. بعد ذلك اللقاء العاطفي المرهق، عادت إليها بعض برودة الرصانة.
كانت متراخية على كرسيها، ساقاها متباعدتان قليلًا، جلستها أقرب إلى جلسة رجل واثق منها إلى وقار سيدة. على النقيض تمامًا جلس كليف، منتصبًا كجذع شجرة، يزيد صلابته من تباينها.
لاحظت نظراته فابتسمت:
ـ “آه، هذا؟ أعلم أنني لا أشبه تلك الفتاة الهادئة التي تتذكرها. في عملي أرتدي مثل هذا. أحب الفساتين حقًا، لكنني لو اكتفيت بارتداء التنورة، لظنّ بعض الحمقى أنني مجرد امرأة لا زميلة. وأنت؟ من كان يتوقّع أن ذاك الصبي الأهوج المشاكس يكبر ليصبح بهذا القدر من الوقار؟”
لم يكن كليف وحده من شعر بوطأة السنين الضائعة. هي الأخرى أرسلت نظراتها بعيدًا عبر النافذة، نحو حديقة الدوق الخضراء، فذكّرها المشهد بحديقة آل مور، تلك التي قضيا فيها طفولتهما.
ـ “لو أن خالتي رأتك الآن لدهشت. أتذكر؟ كانت دائمًا تقول: كليف يتهرّب من دروس التهذيب لدرجة أنني أخشى ألا تقبل به أي فتاة زوجًا يومًا ما!”
لم يردّ، واكتفى بمشاركة نظرتها نحو تلك الخضرة المتألقة. وهناك، انسكبت في داخله صور بعيدة:
صوت خالته يوبّخه:
“كليف! ألا تستطيع أن تجلس مهذّبًا مثل روزالين؟ في هذه الحفلة سينكشف للجميع أن ابن آل مور الأكبر مجرد مشاغب!”
وصوت روزالين آنذاك تدافع عنه:
“لا تغضبي يا خالتي. إنه فقط لم يعتد بعد. ما زال في عمر اللعب واللهو.”
فيرد عليها غاضبًا:
“وأنتِ لستِ بأكبر مني، فلا تتظاهري بأنك أعقل!”
وصوت الأم الحنون يذكّره:
“كليف، ألم أقل لك ألا تستخدم ألفاظًا بذيئة مع السيدات؟”
ثم ضحكة أبيه، وهو يرفعه بين ذراعيه، ويلصق خده بخشونة لحيته في وجنتيه:
“ها قد شاغب ابننا من جديد، أليس كذلك؟”
كان له آنذاك أسرة تحيطه بالحب، وعائلة راسخة تحميه.
ـ “… وأنتِ أيضًا.”
همسها في داخله، ثم طمس الذكرى قبل أن ترتفع أكثر.
لقد كان يعرف، أكثر من أي أحد، أن كل ذلك صار من الماضي، بلا عودة. فأعاد وجهه إلى صلابته، دافنًا الاضطراب الذي كاد يطفو.
ابتسمت روزالين بمكر:
ـ “أما كنت لتُظهر انفعالًا أعظم؟ عائلة اعتُقد أنها ماتت، فإذا بها تقف أمامك حيّة تُرزق! لا تقل لي إنك غير سعيد بلقائي؟”
لم يُجب كليف. لا، بل لم يستطع أن يُجيب.
قالت روزالين بصوت متحشرج:
“لم أكن أعلم أنك لا تزال حيّاً… لقد قيل لي إنني الوحيدة الباقية من آل مور، بعدما أخبرني هو بأن لا أحد غيري نجا.”
يوم هاجم كروفورد قصر آل مور، قُتل الجميع سواه. هكذا قال الكونت كروفورد، وهكذا أيقن كليف حين وجد نفسه وحيداً في بيت غمره الدم. لم يبقَ من آل مور غيره، هكذا ظنّ وصدق.
لكن ما إن نطق كليف باسم “ذلك الرجل” حتى ارتجف وجه روزالين بشراسة، ومرّت في زرقة عينيها ومضة غضب هادرة كالنار.
“لا، يا كليف. لسبب ما، قرر أن يُبقيني حيّة. ربما لأنه اعتبرني غريبة، فأنا لست من صُلب آل مور بل ابنة أخٍ من جهة الأم. وربما كان ذلك مجرد نزوة عابرة من نزوات الكونت كروفورد. لا أدري… لم أفهم حتى كيف قتل كل فرد من العائلة ثم أبقاك حياً وأخذك معه.”
ثم مدت يدها إلى ياقة ثوبها وفكّت أزرارها ببرود متجمد. على كتفها الأبيض، برزت ندبة حمراء محفورة كأنها جرح أبدي.
“لكن في النهاية… ذلك الحقير باعني إلى تجار الرقيق الأجانب.”
تعرّف كليف على العلامة في الحال. كانت وصمة العبودية المتداولة في القارّة. عندها انعوج فم روزالين في ابتسامة ساخرة، أقرب إلى جرح من كونها ابتسامة.
“تجولت عبداً في القارّة سنين طويلة، حتى التقيت قبل عشر سنوات بدوق ماكايزان. لقد حررني من وضعي المقيت. كنتُ لا شيء، فتاةً منفية لا يُعرف أصلها، بل غريبة عن هذه الأرض. ومع ذلك… صدّقني، اختارني مساعداً له. رجل على تلك القامة، يقف على قمة السُلّم، ومع هذا لا يعرف للتمييز سبيلاً… إن ذلك نادرٌ للغاية. وقد كان بالنسبة إليّ عطفاً أبدياً ونعمةً لا تُنسى.”
كان في صوتها بريق إجلال واعتزاز بوليّ نعمتها، وهذا ما يفسر أنها مثّلت صوت الدوق أمام كليف.
حينها تذكّر كليف تقريراً وصل إليه من ليور، يتضمن معلومات عن دوق ماكايزان.
“أظن أنني رأيت اسمك في تقارير المساعدين المقربين منه.”
في تلك الوثائق، كان هناك ذكر لذراع الدوق اليمنى ومستشاره الأول. كان الاسم “روزالين”، لكن كليف لم يربط بينها وبين ابنة عمته الراحلة. كانت سنواته الماضية قد أضعفت صلته بالماضي إلى حد أنه لم يعد يثير فيه ذكريات.
أطرقت روزالين برهة ثم قالت:
“لا أحد يعرف أنني من آل مور. حتى الدوق نفسه… لم أصارح أحداً بأصلي. ولن أفعل أبداً.”
في ملامحها ظهر ظلال من الذنب النادر.
“أنت تفهم يا كليف… إن أعلنت في ماكايزان أنني من آل مور، وأنني هايتسية… بل من نسل عائلة أُبيدت عن بكرة أبيها… فأنت تعرف معنى ذلك جيداً.”
لم تُكمل عبارتها.
كان آل مور قد فتحوا ذراعهم للفتاة اليتيمة، ابنة الأخت التي فقدت والديها بالمرض، واعتبروها ابنة لهم. وإنكار ذلك كان بالنسبة إليها أمراً بالغ القسوة.
قال كليف بصوت خفيض:
“أفهم.”
كان صوته خالياً من النبرات، لكن زرقة عينيه حملت صدقاً لا يُنكر.
ابتسمت روزالين ابتسامة شاحبة، ومسحت دموعها التي انسلت رغماً عنها.
“كنت أعلم… أنك ستقولها. لا تزال كما عهدتك… طيباً أكثر مما يجب.”
ولوهلة، بدا كأنها استحضرَت صورة الفتى الذي كان عليه يوماً. ذاك الطفل النزق، الفوضوي، لكنه عميق القلب، مفعم بالرحمة.
قالت بنبرة متهدجة:
“حين سمعت أنك حي، تمنيت أن أعود إليك في الحال. وما إن سمعت أن الدوق سيزور هايتس حتى ترجّيته أن يسمح لي بمرافقته. كنت أظن أنني سأراك فور وصولي، لكن الأمر لم يكن سهلاً كما توقعت.”
سكتت لحظة ثم تابعت:
“في ظل التوتر بين هايتس وماكايزان، لم يكن بوسعي أن أبحث عنك علناً. لو فعلت، لأُسيء فهم الأمر سياسياً. لم أُرد أن أجعل الدوق يدفع ثمن رغبتي الشخصية… لذلك انتظرت فرصة طبيعية تجمعني بك. لم أظن أنها ستأتي بهذه السرعة.”
أطالت النظر إلى الرجل الجالس أمامها. لم يبقَ من الفتى اليافع ذي العينين البراقتين شيء. الآن، على محيّاه الوسيم، ظلٌّ عميق ثابت كأنه وُلد معه منذ البداية. مجرد النظر إليه كان كافياً لتخمين حجم ما تحمّله من جراح العمر.
سألت بصوت مرتعش:
“كليف… كيف عشت كل هذه السنين؟”
عضّت شفتها بأسى، إذ بدا لها أن كروفورد قد سرق نقاءه.
“لا بد أنك عانيت كما عانيت… بل أكثر. لقد أخذوك أسيراً، فمن يدري أي قسوة اضطررت إلى ابتلاعها كي تنجو؟”
ظل صامتاً، لا ينبس.
قالت بصوت متهدج:
“سمعت أنك انتقمت منه… وأنك أنزلت به خاتمة تليق بجريمته. لم أرَ ذلك بعيني، وسيبقى ذلك حسرة في صدري إلى الأبد. أخبرني… كيف ماتوا؟ هل تذلّلوا واستجدوا الحياة؟ هل تذوقوا ولو عُشر ما أذاقونا؟ هل جعلتهم يتلوون في العذاب طويلاً، طويلاً بما يكفي؟”
“…”
“كنت أحلم لسنوات بقتلهم. كل ليلة، أراهم يتوسلون في منامي، ملوّثين بدماء ذويهم كما كنا نحن. أردت أن أُبيدهم عن آخرهم، بلا استثناء… بلا رحمة.”
واصلت حديثها، وهي تستحضر في كلماتها ذلك العقاب الدموي الذي لم يجاوز أحلامها. كان ذلك الحلم البشع، في الحقيقة، ما أبقاها على قيد الحياة.
لم تلاحظ حينها كيف تجمّدت ملامح ابن عمها كالصخر.
“حين علمت أنك محوتهم جميعاً واستعدت مكانتك… بكيت بكاءً طويلاً. أحسست وكأن الجمر الذي كان يعصف بصدري قد انطفأ أخيراً. شكراً لك، كليف. لقد ثأرت لي… ثأرت لنا. حتى خالتي وخالي، لا بد أنهما يرقدان الآن بسلام.”
لكنه لم يجب. وجهه المتحجر بقي كما هو، كأنما دفن تحت سطحه كل بقايا الانفعال البشري.
ظنت روزالين أن صلابته ليست إلا ثمرة قسوة الأيام التي أنهكته. وتفهّمت ذلك. لكل إنسان طريقته في مواجهة الجراح.
لذا لم تُلح عليه أكثر، بل آثرت أن تغمره بفرحة اللقاء من جديد. وانطلقت تحدثه عن سنواتها الموحشة، عن كل ما عانته وما قاومته. كان لديها من الكلام ما يفوق الوصف.
ومضى الزمن…. حتى بردت أبخرة الشاي في الكؤوس، و أحاديثهما قد قاربت على النهاية.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 69"