رغم أنه ظل واقفًا يحملها بين ذراعيه لما لا يقل عن بضع عشرات من الدقائق، إلا أنّه بدا وكأنه لم يُصب بأدنى إرهاق.
قال بصوت حاسم:
“عُودي إلى المنزل. لقد جعلت العربة بانتظارك.”
هزّت رأسها برفق:
“لا، الحفل لم ينتهِ بعد.”
كانت الموسيقى المتواصلة تذكيرًا بأن الوقت لم يحن بعد للمغادرة. وإيزين لم تنسَ سبب مجيئها إلى هنا اليوم، كان عليها بأي وسيلة أن تجد منفذًا للتواصل مع زوجة الدوق.
“إيزين.”
بمجرد أن ناداها باسمها، أحسّت بما ينوي فعله.
(إنه سيحاول إبعادي، بدعوى أن المكان خطر، وأنني قد أُصاب بأذى).
لكن… رغم أن كلماته واضحة أمامها، إلا أنّ قلبه لا يزال عصيًّا على الفهم.
أربكها الأمر. فوق ملامحه القلقة التي تفضحه، والتي توحي بأنه لا يطيق رؤيتها في خطر، تراكمت بقايا زهرة الكورسيج المهملة.
ما الذي يختبئ في قلب كليف حقًا؟
لماذا يقترب منها حينًا، ثم يدفعها بعيدًا حينًا آخر؟
تصرفات الرفض هذه بدت في هذه الحياة أوضح وأكثر قسوة مما تتذكره من حياتها السابقة، حتى كادت تؤلمها.
ومع الألم، راحت طبقة من الخيبة والخذلان تغطي جرحها، وتدفعها للتساؤل: أيمكن أنني أتوهّم كل شيء؟
أيمكن أن يكون كل ما شعرت به محض أوهام نسجها لا وعيها، فقط لأنها تريد الاقتراب من كليف؟
قالت بصوت خافت:
“كليف، أنا… لا أعرفك حق المعرفة.”
ومع ذلك، ها هو الآن بجوارها، يراقبها وكأنه دومًا في القرب، ويطبع قبلة قصيرة تحمل ذلك الدفء الذي قد يكون وهمًا… أو لعلها هي التي تريد تصديقه.
لكن ما إن يبدأ قلبها بالشعور بقليل من الطمأنينة، حتى تجده يبتعد عنها وكأن شيئًا لم يكن.
كأنها تركض نحوه بلا توقف، ومع ذلك لا تستطيع اللحاق به أبدًا، حتى بدا لها أنّ كل لحظة التقيا فيها لم تكن سوى سراب.
ازدادت حيرتها.
“لا أفهم… ما الذي تريده مني؟”
تركت إيزين كليف واقفًا وغادرت الشرفة.
وهذه المرة… لم يتبعها.
—
“أما أنا…”
خرج صوته الأجش من بين الظلام، وهو واقف على الشرفة وحيدًا، كأن الليل قد ابتلعه.
“أما أنا، فليس الأمر أنني لا أريد الوقوف إلى جانبك.”
لم يلمع في العتمة سوى زرقة عينيه الحادة، تؤكد وجوده وسط السكون.
قبض كليف يده، فبانت لفافة صغيرة من المناديل القماشية التي يحملها دائمًا معه.
شدّ عليها بقوة، كما لو أنها الحبل الأخير الذي يحول بينه وبين السقوط في هاوية.
تجعّد القماش تحت قبضته بعنف.
لم يستطع أن يفعل شيئًا…
فربما وجوده بجوارها يعني موتها، وربما تصرف واحد منه، في لحظة غير محسوبة، يدفعها إلى الرغبة في إنهاء حياتها.
كان يعيش حياة لم يعرف فيها الخوف، أما الآن، فقد بات مثقلًا برعب جديد يلتهمه من الداخل.
يعرف جيدًا كم يمكن للقدر أن يكون ماكرًا…
يكفي أن يطمئن للحظة، حتى يباغته ويأخذها منه.
لم يستطع أن يثق في تلك المشاعر الجديدة التي تُظهرها له، فقد بدا له وكأن الإله يحذّره كلما شهد لحظة لا يُسمح له بامتلاكها.
ومع ذلك، شعر بالمهانة والعجز لأنه لا يستطيع أن يطلق سراحها بحرية.
كان يعلم أن كل مشكلاتها ستُحلّ لو اختفى من حياتها… لو ابتعد، فلن تحلم إيزين بالموت بعد الآن.
لكنه… لم يستطع.
“لن… أطمع في أي شيء.”
كلماته الخافتة انطلقت في هواء الليل البارد كأنها عهد… أو كذبة أخرى تُضاف إلى سلسلة الأكاذيب التي أقسم بها من قبل.
كان يعرف كم هي واهية عبارة “لن أطمع”، ومع ذلك تمنى أن يغضّ الإله الطرف عنها.
“فقط… لو سمحت لي بأن اتنفس بجانبها…”
لم يكمل جملته الشرطية، واكتفى بالصمت، بينما الليل البارد لم يمنحه أي إجابة.
—
في الوقت الذي كان فيه حفل الترحيب بالدوق في أوجه داخل القصر الإمبراطوري، كان فرسان الفيلق الأسود يستمتعون بإجازة نادرة بدلًا من الحضور.
وكان نائب القائد، ليور، واحدًا منهم.
رغم أن هذه أول إجازة ينالها منذ زمن بعيد، إلا أن خطواته العائدة إلى منزله كانت ثقيلة، يرافقها زفرات ممتلئة بالهم.
لكنه بدلًا من العودة إلى بيته، قرر أن يعرّج على منزل صديق قديم…
ذلك الصديق الذي خدم معه يومًا في الفيلق الأسود، لكنه اضطر إلى الاعتزال بعد إصابة لا شفاء منها.
(لقد فعلت الصواب…)
حاول ليور أن يقنع نفسه، لكنه لم يستطع أن يجد تبريرًا مقنعًا للشعور بالذنب الذي كان ينمو في أعماقه.
“عمييي!”
ارتفع صوت ضحكة مشرقة، ومعه اندفع صبي ذو شعر عسلي من الداخل.
ركض نحوه بخفة، كانت أطرافه النحيلة تشبه أغصان الأشجار، لكن وجهه أشرق بابتسامة كالشمس.
“إدوارد؟”
توقف ليور لحظة، وقد تلقّى الصبي في أحضانه بلا تهيؤ، ومع ذلك لم يستطع أن ينساق بسهولة خلف البهجة التي كان الطفل يشعّ بها.
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
“وصلتني رسالة تقول إنك قادم، فانتظرتك! هيا، ادخل، جدّتي أعدّت لك أطباقك المفضلة!”
“السيدة جونز؟”
خفض ليور بصره إلى الكيس الذي كان يحمله.
“تفضل بالدخول.”
رحّب به هيمس بوجه بدا أكثر دفئًا مما كان عليه من قبل.
“ليور!”
كان متكئًا بميله على إطار الباب، لكنه كان واقفًا مستقيمًا رغم ذلك، وفي ساقه اليسرى ـ التي لم يكن فيها شيء من قبل ـ امتد قضيب معدني كدعامة.
“لا تقلق، رغم شكله إلا أنه عمليّ جدًا. إذا ارتديت الملابس المناسبة، سيبدو الأمر كأنني أعرج قليلًا لا أكثر. وحتى هذا النقص… ممتنّ له، على الأقل بالنسبة لشخص مثلي.”
ومدّ إليه فنجان شاي دافئ، ثم أخذ يروي له ما جرى في حياته منذ الإصابة. لم يكن على وجهه أثر لليأس أو العجز اللذين كانا يثقلانه يومًا ما.
ولم يلبث ليور أن فهم السبب.
“إدوارد بدأ الدراسة في المدرسة الابتدائية. كنت قلقًا بشأن المصاريف، لكن تبيّن أن هناك معاشًا مخصصًا للفرسان الذين خدموا في بيت المركيز. الماركيزة ترسل دائمًا أحد المشرفين للاعتناء بوالدتي العجوز، وتوفر لنا الطعام أيضًا. حتى إدوارد عيّنت له معلّمًا خصوصيًا. كل هذا بفضل عنايتها.”
لم يتمالك ليور نفسه من الدهشة حين أدرك أن من ساعد صديقه على النهوض من كبوته كانت ماركيزة بيت مور.
“لا تقل هذا. أعلم أنك بعد جلالة الدوق أكثر شخص مشغول في هذه المنطقة. ومن الطبيعي ألا تعلم. لا أحد يدرك البؤس الذي يتبع انتهاء مجد الفارس، إلا حين يُنتزع من منصبه.”
كان صوت هيمس هادئًا رتيب النبرة.
“لكن الماركيزة… وكأنها رأت ما في داخلي. حتى اعتداد نفسي الهشّ خشيت أن تمسّه، ولذلك، رغم أنني لم أرها قط، تلقيت من عطفها ما يفوق حاجتي. وهذا فضل عظيم.”
“…”
لم يجد ليور ما يقول. كان وقع الحقيقة على قلبه كصوت زجاج يتفتّت، محطّمًا كل الصور المسبقة التي حملها عنها.
“حقًا…”
مرّت أمام عينيه، في تتابع مؤلم، صورة الكورسيج الملقى على الأرض، ووجه الماركيزة الكئيب، وملامح سيده التي كانت تخفي تحت السطح بركانًا من الظلام.
“حقًا… الأحمق هو أنا.”
تنفّس ليور بعمق، وخرجت كلماته آهة اعتراف.
—
غادرت إيزين الشرفة، وسارت بلا وجهة لبرهة. كانت تعرف أن عليها العودة إلى قاعة الحفل، لكن قدميها لم تطاوعاها.
(عليّ أن أتماسك قليلًا قبل أن أعود.)
إن عادت على حالها تلك، فلن تكون سوى فريسة سهلة لألسنة الآخرين. فاتجهت نحو الجهة المقابلة للقاعة.
ومضت تسير إلى أن تلاشى صخب الموسيقى شيئًا فشيئًا، حتى عثرت على غرفة شاي صغيرة أُعدّت خصيصًا للنساء اللواتي أنهكتهن الحفلة.
“آه… أعتذر.”
لكن الغرفة لم تكن فارغة، فقد سبقتها إليها ضيفة أخرى.
“لا عليك، تفضّلي. الغرفة واسعة جدًا عليّ وحدي.”
ابتسمت السيدة النبيلة، وهي في منتصف العمر، وأشارت إليها بالاقتراب. وجدت إيزين أن الانسحاب الآن سيكون غريبًا، فتقدمت بخطوات مترددة إلى الداخل.
وعندما همّت بالجلوس على أريكة وثيرة، وقعت عينها على المرآة المقابلة… فتجمّدت.
كان منظرها بائسًا: عينان متورمتان، أنف محمرّ، وخطان واضحان من أثر الدموع يهبطان على خديها.
“تفضلي… امسحي وجهك.”
مدّت السيدة يدها إليها بمنديل، وهي ترى حيرتها.
“شكرًا لكِ.”
“ولِمَ وجهك كئيب هكذا يا ابنتي؟”
وضعت إيزين المنديل على خديها، تضغطه على آثار الدموع، فأعادتها السيدة بسؤال رقيق.
“فقط… الأمور لا تجري كما أريد. أردت أن أكون عونًا… لكنني أفسدت كل شيء.”
“هكذا الدنيا، حين تبالغين في الاجتهاد، تسوء الأمور أكثر. أنا مررت بهذا أيضًا.”
“أنتِ؟”
رفعت إيزين نظرها إليها بدهشة، فالوجه أمامها كان هادئًا مطمئنًا لا يبدو أنه عرف القلق يومًا. ابتسمت السيدة وضحكت بخفة.
“في شبابي كم سبّبتُ المتاعب! لكن كل ذلك يتراكم ليصنع ما نحن عليه. وأنتِ أيضًا، ستقسين وتشتدّين مع الوقت، فلا تقلقي.”
“لكن يا سيدتي… أنا لست فتاة صغيرة، لديّ طفل.”
“ماذا؟! لا أصدق! تبدين يافعة جدًا!”
هزّت رأسها نافية تصديق ذلك. وشعرت إيزين بدفء غريب تجاهها، فأخرجت من صدرها قلادة صغيرة بداخلها صورة إيان.
“يا إلهي، ما شاء الله! وسيم إلى حدّ سيبكي لأجله كثير من النساء يومًا ما.”
ارتسمت البهجة على صوتها، فوجدت إيزين نفسها، دون أن تدري، تحدّثها بفخر عن أن إيان، رغم أن عمره سبعة أشهر فقط، قد نهض على قدميه وحده منذ أيام، وأنه يلوّح بذراعيه كلما سمع الموسيقى.
“إنه في أبهى مراحل الجمال. كان أولادي مثله تمامًا. انظري، هذه صورة لابني الأكبر يوم وُلد…”
وأخرجت هي الأخرى قلادة تحوي صورة صغيرة، وعاد صوتها مفعمًا بالحيوية.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 65"