إن كانت تجرؤ على التصدي لكليمنتاين، فلابد أنها ترانا نحن، حلفاءها، مجرّد هواء! ما أوقحها. إلى متى، يا ترى، ينوي جلالته الإبقاء عليه في منصبه؟
تناهت إلى مسمعها همساتهم، باردة كحد السيف. لم ينبس أحد بكلمة تُدين ألفاظ مالكوم، ولا حتى كلمة تأييد لها.
كم كنتَ وحيداً يا كليف؟ كم من الوقت قضيت في أماكن كهذه… وحدك تماماً؟
شعرت إيزين بحرارة تتسلل إلى وجهها، وبأطراف أصابعها ترتجف دون وعي. كانت تتوقع هذا، ومع ذلك، حين أدركت وحدتها الكاملة وسط هذا الحشد، غمرتها دوامة من خجل مرير كسراب يتراقص في صيف قائظ.
«إيزين.»
يا للمفارقة… الصوت الذي لم تكن ترغب في سماعه الآن، كان في الوقت ذاته أصدق ما يبعث الطمأنينة في قلبها.
لقد ظهر صاحب كل هذه الفوضى.
ومن بين صفّين من البشر تنحوا جانباً كأنهم أمام موسى يشق البحر، وقع بصرها عليه. كاد الدمع أن يفيض من عينيها.
كان كليف، في تلك اللحظة، آية في الروعة. حتى أنها شعرت أن الوردة المعلّقة على معصمه لم تُترك عبثاً، بل لأنها لا ترقى أمام بريق حضوره.
نعم… كان هكذا منذ البداية.
لقد سرقوا طفولته، وسلبوه حقه في أن يعيش كأي إنسان ينتمي إلى هذا العالم. بل وأكثر من ذلك، حكموا عليه أن يقضي ما تبقى من عمره في قفرٍ من الوحشة.
كلمة «كروفورد» وحدها كانت كفيلة بأن تمحو ما تبقى من حياته.
ولهذا… سأعيدها إليه. لن أبكي الآن.
عضّت على أسنانها. فالدموع أمام هجوم اجتماعي كهذا، ليست سوى إعلان هزيمة، ولن تمنحهم هذا الانتصار.
قال مالكوم، محاولاً أن يحسم الموقف وهو يرمق كليف:
«ماركيزة مور، إن اعتذرتِ عن وقاحتك، فسنطوي الصفحة احتراماً لزوجك.»
فأجابته إيزين، وهي تدير ظهرها لكليف وتنظر إليه بثبات:
«ليس عندي اعتذار أقدمه لمن يعرف معنى الابتذال، ويجهل معنى الخجل.»
إن كان عليّ أن أقاتل وحدي… فسأفعل كما فعل هو.
«كيف تجرئين!»
كأن مالكوم يقول في نفسه: إلى أي حدّ احتقرني كليف مور، حتى ترك هذه المرأة الصغيرة لتسخر مني جهاراً؟!
هتف غاضباً، ورفع يده…
لكن شيئاً اخترق الهواء كالسهم، ليمر بمحاذاة أذنه. وفي اللحظة نفسها، دوّى صوت ارتطام حاد، فالتفتت الأنظار إلى خنجر مغروز في عمود القاعة، يخترق الوردة التي كانت مربوطة على معصم مالكوم.
«مـ… ماركيز مور…!»
كان كليف واقفاً دون أن يمنحهم حتى ابتسامة مجاملة. تحيط به هالة قاتمة كجيش جرار على أعتاب المعركة، وتطوّق إيزين بحماية صامتة. وكأن أي يد تمتد إليها ستُقطع في الحال.
قال بصوت خفيض مميت، جعل قشعريرة تسري في الأجساد:
«جرّب أن تتحرك خطوة واحدة… إن كنت تتوق للموت.»
تلعثم مالكوم وتراجع، حتى دون أن يلتفت إلى معصمه الذي احمرّ بعد أن انتُزعت منه الوردة بعنف.
ولم يعتذر كليف عن جرأته في أن يسلّ سلاحه في قاعة ملكية، ولم يحاول تبرير شيء. كان كأمٍّ مفترسة تدافع عن صغيرها أمام العدو.
تقدم سيزار محاولاً تهدئة الجو:
«كليف… خفف من حدتك. أتريد أن تخنق أعناق جميع الحاضرين هنا؟ أعلم أن الكونت لم يكن يقصد…»
لكن كليف لم يتراجع. عندها نقر سيزار بلسانه وهو ينظر إلى إيزين الشاحبة:
«انظر إلى زوجتك، يا رجل. إنها تكاد تختنق من ضغطك!»
عندها فقط، تلاشت تلك الهالة المميتة، وتنفس الحاضرون الصعداء.
تقدمت إيزين ببطء، ثم وضعت قدمها على إحدى شظايا الكأس التي أسقطتها الكونتيسة قبل قليل، وضغطت عليها حتى تحطمت بصوت واضح.
وقالت بهدوء يقطر سخرية:
«ترى، من هو الذي يحتاج فعلاً إلى تربية سليمة؟»
كانت كلماتها خاتمة الجدل، ووسمَت خصومها بختم الهزيمة.
—
وقفت إيزين منتصبة وهي تراقب الكونت وزوجته يفرّان من القاعة ووجهيهما كأنهما غُسلا بالماء البارد. ثم التفتت.
هذه المرة، لم تكن العيون تحدّق بها كما قبل؛ بل بوجوه يعلوها خوف حقيقي. لقد رأوا بأعينهم أن زوجة «الأسد الأسود» ليست ناعمة الملمس، بل قادرة على مواجهة كبار حزب النبلاء دون تردد.
نادتها إحدى السيدات:
«ماركيزة مور، تفضلي إلينا. نعتذر عمّا بدر قبل قليل.»
وكأنهم نسوا تماماً كيف تجنبوا الاقتراب منها قبل دقائق.
أحسّت إيزين باشمئزاز. كانت تعلم أنه ما إن يغيب القوي حتى تظهر الضباع لتقتات على ما تركه. فهكذا يعيش هؤلاء، يطأون غيرهم ليعلوا فوقهم.
وهي نفسها… قبل قليل فقط، كانت تفعل الأمر ذاته، لا بسند قوتها الشخصية، بل باعتمادها على سلطة غيرها.
قالت بابتسامة مهذبة وهي تنحني قليلاً:
«أستأذنكم لحظة… وأثق أنكم ستتفهّمون.»
أنهت الحديث بلباقة، ووجهها المشرق لا يوحي بأن شيئاً مما حدث قبل قليل قد مسّها.
ابتسامة إيزين الأخيرة، وهي تلقي سؤالها، كانت بمثابة تذكير صارخ بما اقترفوه بحقها قبل لحظات من فعل دنيء وجبان. لم يجدوا ما يقولونه، فاكتفوا بمتابعة ظهرها وهي تبتعد، كأن الكلمات قد انحبست في حناجرهم.
“سيدتي.”
“أبقيهم بعيداً لحظة.”
حين بلغت إيزين الشرفة المهجورة أمرت إميلي، فهزّت الأخيرة رأسها بإصرار ينبئ بأنها لن تدع أيّ أحد يتجاوزها. كانت فتاة طيبة، فابتسمت لها إيزين ابتسامة واهنة، ثم دفعت باب الشرفة.
لقد هربت إلى مكان تستطيع فيه أن تنفرد بنفسها، بعيداً عن الناس، بعيداً عن العيون.
لفحها نسيم بارد، وكأنه يسخر من ضعفها وحماقتها هذا اليوم. حتى الموسيقى التي كانت تبهجها لم تعد تبعث في قلبها أي نبض من الفرح.
راحت تستعيد أحداث يومها. بدا وكأن ساعات قليلة قد حملت فوق ظهرها أكثر مما يحتمل القلب من الوقائع والانكسارات، فيما مشاعرها تهوي بلا توقف نحو قاع سحيق.
كورساژٌ مرميّ، وفستانٌ باذخ لا يمنعها من أن تقف وحيدة، منبوذة، متجاهَلة من الجميع… سوى شخص واحد شق طريقه عبر ذلك الجدار البشري قاصداً إليها وحدها.
عضّت على أسنانها، لكن حرارةً حارقة انسابت على وجنتيها رغماً عنها.
لم يكن الأمر سهلاً، ولا حتى في حياتها الثانية التي مُنحت لها. ها هي ما تزال إيزين كروفورد البليدة، العاجزة، التي لم تحسن فعل شيء، بل زادت الأمور سوءاً بدل أن تساعده. شعرت بالخزي، بخزي يكفي لأن تتمنى لو ابتلعتها الأرض.
وفجأة، أزاح يدٌ عن وجهها دموعها. كانت لمسة حذرة للغاية. أطبقت عينيها بإحكام؛ كانت تتوقع من صاحب اليد، لكنها تمنّت في سرّها أن يكون حدسها مخطئاً.
“…لماذا جئت؟”
“…”
“ألتسخر منّي؟ لأنني لم أصغِ إلى نصائحك وفعلت ما بدا لي، فانتهى الأمر بي إلى هذا؟ هل أتيت لتضحك عليّ؟”
“…”
لم يقل كليف شيئاً، واكتفى بمسح دموعها. كان وجهه الهادئ باعثاً على الاطمئنان، غير أن لمسته الرقيقة فجّرت حزنها.
“كنت أستطيع… أستطيع حل الأمر وحدي. حتى لو لم تكن هنا، كنت سأتصرف… لماذا تدخلت؟!”
كانت تعرف أنها تجادل بغير حق، لكنها لم تستطع كبح ذلك. كانت غاضبة لأنها شعرت وكأنه يعاملها كطفلة، وفي تلك اللحظة كانت بالفعل تجسّد صورة الطفلة الباكية. بدا هو في ضوء الليل وسيماً على نحو موجع، فيما بدت هي ضئيلة، واهنة، بلا حول.
تساقطت دموعها كالمطر، ولم تنفع محاولاتها في عضّ شفتيها لوقفها. لم يكن بكاؤها سببه ما جرى فحسب، بل كل شعور دفين بالخذلان.
اقترب منها، فحجب ظلّه الأسود ما أمامها، ولامس أنفها عبير مسكٍ خفيف. أحست بشفاهه الناعمة تلامس طرف عينيها.
رفعت رأسها لتنظر إليه، فوجدت على وجهه ألماً أعمق من ألمها. لم يتم كلمته، وكأن ما فعله للتو خرج منه بلا وعي.
“لا أريد أن أراك تبكين.”
لم تعد تشعر ببرودة الليل؛ صارت نظراته التي تلسعها بحرارتها أقوى من أي نسيم. ارتجّ عقلها، وبقيت دموعها تنحدر فيما وجنتاها تشتعلان.
“آسف.”
قالها بسرعة، ثم أضاف بصوت قصير: “آسف، لم أفكر جيداً.”
استدار مغادراً الشرفة. كم كرهت إيزين تلك الكتفين العريضتين وهي تديران ظهريهما لها، وكم كرهت عبق رجولته الذي يترك أثره في صدرها، وخطّ الفك المظلل، وتلك النظرات التي كانت تمعن فيها.
فمدّت يدها تمسكه.
“ا… عانقني.”
كان صوتها متقطّعاً من البكاء. تجمّد هو، لكنها شدّته بعنف نحوها، غير أن الذي اهتز كان جسدها هي؛ أما هو فبقي ثابتاً كجذع شجرة.
“إيزين، تمهّلي…”
“أ… عانقني، قلتُ لك…”
وانفجرت بالبكاء، فما كان منه إلا أن ضمّها إليه بخجل وحذر، كأنه لا يعرف كيف يفعل ذلك. استكانت لدفء صدره، ولفّت ذراعيها حول عنقه، بينما خفقان قلبه السريع يوجعها أكثر فأكثر، فازدادت بكاءً.
“إيزين، لا تبكي.”
بدا ضائعاً، عاجزاً عن التصرف، كل ما يريده أن يسكت بكاءها، لكنه يجهل السبيل.
كانت تدرك كم يبدو منظرها الآن مثيراً للشفقة، كطفلة تتدلل، لكنّها دفعت هذا الوعي جانباً، وأطلقت لنفسها حرية البكاء في حضنه المتين.
“اللعنة… لا تبكِ. أنا المخطئ. افعلي بي ما تشائين، سأفعل أي شيء تريدينه.”
“هـ… هه…”
شعرت ببرودة الليل تلامس صدغها الملتهب، وبشفتَيه تداعبان أذنها، وكأنه لا يكلّ عن تهدئتها. كان صوته المنخفض أشبه بصدى كهف، يكرر اسمها مراراً، بينما تتوزع قبلاته على جبينها، وأنفها، وجانبي وجهها. كانت تلك القبلات خفيفة في وقعها، ثقيلة في معناها.
لا تدري كم مرّ من الوقت، لكن دموعها أخذت تخفت شيئاً فشيئاً، فيما كان يطوّقها بذراعيه، يحجب عنها حتى نسمات الليل الباردة.
وما إن استعادت شيئاً من عقلها، حتى أدركت ما فعلته. ابتعدت عنه، وحلّت ذراعيها الملتفتتين حول عنقه.
“إيزين.”
لم يتركها، وكأنه يريد التأكد من حالها قبل كل شيء.
“أريد… أن أنزل.”
تململت في حضنه محاولة الإفلات، فتنهد قصيراً، ووضعها برفق على الأرض. وما إن لامست قدماها البلاط حتى كادت تتعثر، فأمسك بها مجدداً، مسانداً إياها بذراعه القوية.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 64"