ظلّ بصر فيليب مُعلَّقاً عليها أطول مما ينبغي، حتى أن الابتسامة التي كانت على وجهه انطفأت لحظة، وحلّ محلّها شيء من الحرج.
قال بصوت هادئ:
“لأنّ عدم نسياني له هو التكفير الوحيد الذي أستطيع فعله… بعد أن كنت عاجزاً عن فعل أي شيء آخر.”
لكن إيزين لم تستطع أن تحدد من أين ينبع هذا الانقباض في ملامحه. اكتفت بابتلاع شعور جافّ في حلقها، كأن شيئاً عالقاً فيه، وأومأت برأسها إيماءة صغيرة.
***
قالت: “سأغادر الآن.”
فأجابها: “نعم، سيدتي. اعذريني أن أحييك وأنا على هذه الحال. أشكركِ على زيارتك المتكررة.”
حيّت إيزين فيليب، ثم خرجت من غرفة المرضى. لكنها، خارج الباب، لم تجد آلان بانتظارها كما اعتادت. فاستغربت، إذ لم يكن يتركها أبداً. أخذت تبحث عنه بعينيها.
(ربما ذهب إلى قاعة الاستراحة…)
كان آلان، في الواقع، لا يبدي حماساً كبيراً لأغاني فيليب. حتى في صالون فيليموري، كان إذا سمع صوته يقطب حاجبيه وينسحب إلى الخلف.
كانت قاعة استراحة الفرسان تقع عند مدخل المعبد، فاتجهت إيزين نحوها. كان المساء قد بدأ يرخي سدوله، والممرات شبه خالية.
(……)
لم تكن تدري إن كانت تسير في الطريق الصحيح. منذ ذلك الحين، بات من النادر أن ترى كليف. وكذلك المنديل الذي تركته له في مكتبه، متجاهلة عدم رغبته، بقي بلا ردّ منه.
(هل لم يُعجبه المنديل فحسب… أم أن وجودي أنا هو ما يثقله؟)
لم تتوقع أن يواجه كل ذلك بالصمت المطبق، مما جعلها حائرة.
في الطرف الآخر من الممر، رأت فارساً يقترب. في البداية ظنته آلان، لكنها سرعان ما أدركت أنه ليس هو؛ فآلان أطول قامة، ويرتدي درعاً أسود بلا أي حُلي.
أما هذا الفارس، فدرعه شبيه بدرع فرسان الظلام، لكنه يضع أقراطاً براقة على شكل صليب، وقطعاً معدنية لامعة فوق الدرع، أشياء لا يضعها فرسان الظلام عادة.
توقفت عيناها عند سيفه — أو بالأحرى عند الغمد — حيث، تحت زخرفة الأحجار الكريمة الفاخرة، بدت منقوشة بخفوت شارة العائلة المالكة على “الشيف” (القطعة المعدنية في طرف الغمد). كانت صغيرة إلى حد أن من لم يدقق النظر لَمَا لاحظها، وكأن الزينة المفرطة وُضعت عمداً لصرف الأنظار عنها.
قال الفارس وهو يبتسم: “سيدة ماركيز مور.”
رفعَت إيزين رأسها نحوه. وحين وقع نظره على بحثها عن آلان، ابتسم ابتسامة أوسع ورفع يديه مظهراً أنه لا يحمل سلاحاً. كانت لفتة مهذبة، لكن عينيه اللامعتين بشيء من العبثية لم تمنحها الاطمئنان.
كان مظهره أقرب إلى شاعر جوّال منه إلى فارس، جاذبيته حادة، وعيناه تنحنيان بابتسامة.
قال: “جئت فقط لأنقل لكِ رسالة قصيرة. لا داعي للحذر.”
صمتت.
هزّ رأسه مبتسماً وقال: “هذه أول مرة يُنظر إليّ كما لو كنتُ قاطع طريق. لم أفعل شيئاً بعد!”
أجابته ببرود: “أتراك ترى أن من يوقف سيدة في مكان مقفر، ويمنعها من مواصلة طريقها، مظلوم إن اعتُبر قاطع طريق؟”
قال وهو يفتح عينيه بدهشة مصطنعة: “قاطع طريق؟”
كانت ملامحه تمثل البراءة الخالصة التي تُتَّهَم زوراً، لكن هذا التمثيل، الذي كان يقصد به أن ينتزع منها ابتسامة، ارتدّ عليه؛ إذ بقيت تحدّق فيه ببرود حتى انكسرت خفته واستقام واقفاً.
قال خافتاً: “هناك من يرغب برؤيتك.”
رمقت درعه بنظرة ثابتة.
قال: “إذا تابعتِ هذا الممر ثم انعطفتِ يساراً، ستجدين باباً… لِمَ تنظرين إليّ هكذا؟”
قالت: “أعد آلان إلى مكانه.”
“لا أفهم ما تعنين.”
“من الأفضل أن يظل زوجي جاهلاً بما حدث اليوم. فهو لن يرضى حتى بمجرد اقترابك مني.”
“أتعرِفينني؟”
“لا أعرفك شخصياً، لكنني أعرف أنك تخدم نفس السيد الذي يخدمه زوجي.”
عندها تجمّدت ابتسامته.
قالت وهي تمضي: “أتمنى لك أن تظل بعيداً عن عين زوجي أطول وقت ممكن.”
مرّت بجانبه، وخطواتها ثابتة هادئة كالماء الجاري.
تمتم الفارس وهو يراقبها: “يا للعجب… أشعر أنني أنا من خسر هذه الجولة. كيف عرفت أنني هددت آلان بوفيلد؟”
حكّ سيزار رأسه. كان يعرف أنها محقّة؛ فالتملص من عين كليف مور للأبد أمر مستحيل. لكن “ذلك الشخص” كان يملك القوة الكافية لتضليل مور أكثر من أي أحد في المملكة. وحين يكتشف مور الأمر، سيكون اللقاء بين “ذلك الشخص” وإيزين مور قد تم بالفعل.
قال متمتماً: “هممم…”
ومع ذلك، لم يستطع صرف بصره عن ظهر السيدة الماركيزة، التي مرت أمامه دون أن تمنحه حتى نظرة.
***
صرّت المفصلة بإيقاع خفيف حين فُتح الباب المعدني الأبيض. توقفت إيزين حين رأت ظلّ رجل يغمره ضوء الشمس المنسكب. ثم محَت ملامحها وسارت نحوه.
عندما سمع خشخشة فستانها، استدار. كان وجهه النبيل يستقبلها.
قالت: “أحيّي مولى هايتس.” ثم انحنت بركبة واحدة، مطرقة الرأس.
قال الملك ببرود: “لا أراكِ تفاجئين برؤيتي. يبدو أن سيزار لم يُقصّر.”
لم تجبه، بل ظلّت تحدّق بالأرض.
كان نظر الملك إليها صارماً بارداً، حتى أن الهواء في الغرفة بدا متجمداً. كانت عيناها منخفضتين بخشوع، ووجهها ساكناً بلا أي أثر لمشاعر، كما كان يفعل كليف مور تماماً.
ابتسم الملك ابتسامة ساخرة، أشبه بالضحك الجاف
قال الملك وهو يلوّح بيده: “انهضي. هذا أشبه ما يكون بوقوفي أمام شخص يشبهني، فلا أجد في الأمر أي متعة.”
أجابت إيزين بصوت هادئ: “إن عطف جلالتكم فيّضٌ لا يُقدَّر.”
لم يكن بوسعه أن يُبقيها واقفة أمامه إلى الأبد؛ فـكليف مور لن يتسامح مع أي إهانة تُوجَّه إلى زوجته. ولم يقطع الملك هذه المسافة ليلتقي بإيزين من أجل أن يثير خصومة مع مور.
قال: “أتدرين لِمَ قطعت الطريق إلى هنا لأراكِ؟”
“……”
“ارفعي رأسكِ، إيزين كروفورد.”
كان صوته خفيف النبرة، لكنه مشبع بكبرياء لا يُمَس. رفعت إيزين رأسها، وهي تدرك تمام الإدراك ما يقصده الملك حين يتعمّد مناداتها باسم “كروفورد”.
“سألتكِ إن كنتِ تعلمين سبب وجودكِ هنا.”
“…… نعم.”
“إذن لا حاجة للإطالة. ابتعدي عنه.”
“……”
للمرة الأولى، تموّجت ملامحها الهادئة الخالية من التعابير. ازداد وجهها الشاحب شحوباً. عندها فقط شعر الملك بشيء من الرضا.
قال: “سأضمن أن يرث ابنكِ اللقب. وسأمنحكِ ثروة تكفيكِ للعيش في نعيم حتى نهاية حياتك، وألقاباً جديدة، وحماية فرسان، حتى تنعمي بالترف الذي اعتدتِه. وإن رغبتِ، فبعد أن يرث ابنكِ اللقب، سأسمح لكِ برؤيته. عليكِ أن تدركي كم هي عظيمة هذه المنة التي أخصّكِ بها، وأنا أتغاضى عن أستريد لأجلك.”
كان صوته صارماً، مثقلاً بسلطة لا تُقابَل بالاعتراض.
ارتجفت شفتاها المطبقتان، وكانت تلك الرجفة وحدها هي كل ما بدا من ردّة فعلها، وهي واقفة شامخة الظهر، تتلقى صمتاً ثقيل الضغط.
من ذا الذي يجرؤ على مخالفة أمر الملك؟
كانت تعرف أن ما وعد به، بالنسبة لامرأة واحدة، يفوق كثيراً ما يمكن أن يمنحه ملك لمواطنة من رعيته. كان هذا أقصى ما يمكن أن يُظهره الملك من عطف، وكان ينبغي لها أن تشكر الشمس على دفئها وتستجيب.
كان ذلك سيحدث…
لو لم تكن قد عادت عبر الزمن.
لو لم تكن قد أطلّت على حياته.
هذه المرة هي فرصتها الوحيدة. كما أن الملك لا يستطيع التراجع، فهي أيضاً لا تستطيع. بل إن إصرارها كان أشد وأعمق. فلو ضاعت هذه الفرصة، فلربما لن تأتي أخرى أبداً.
ابتلعت ريقها، وسوّت ظهرها كي لا تنكسر أمام الهيبة التي تشعّ من رجل قضى نصف عمره في ساحات القتال، وهو ملك مملكة بأسرها.
انحنت برأسها دون أن تجيب، والملك ينظر إليها بعين راضية ويتهيأ ليدير ظهره.
قال: “إذن، سأعدّ هذا الصمت بمثابة قبول ..”
“لا أستطيع.”
توقف عند سماع صوتها المنخفض.
“ماذا قلتِ الآن؟”
كانت في نبرته بقايا غضب مكتوم.
قالت بثبات: “قلتُ إنني لا أستطيع.”
“أتعلنين إذن رفضكِ لأمر ملكي؟”
“……”
“هل تصدقين وقاحتك ؟ إن الكبرياء ليفوح منك حتى يبلغ أنفي. أتظنين أن حماية مور لكِ ستمنعني من قتلكِ؟”
كان في كلماته حدّ نصلٍ مسنون، ولو لم يكن كليف موجوداً، لربما كان الملك قد قتلها في الحال.
بالنسبة له، لم تكن إيزين سوى بقايا بيت كروفورد الذي اقتلعه من جذوره، لا أكثر ولا أقل.
قالت بهدوء: “قولوا ما شئتم، فطالما بقيت وصمة عار عائلتي عليّ، فإن كلام جلالتكم هو الحق. غير أنني لن أكون أنا من يتركه أولاً.”
قبضت على أصابعها المرتجفة حتى لا يلحظ أحد خوفها… وقد نجحت في ذلك.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات