أومأت إيزين برأسها متفهمة. رغم أنه أعلن مسبقًا عن عدم حضوره، إلا أن هذه كانت أول حفلة شاي تُقام تحت اسم “مور”. وإن كان كليف هو من يختار اللون المسيطر على الحفل، فربما يكون ذلك إشارة إلى أنه ليس بمنأى تام عن الأمر، مما قد يمنع إحساسها بالإحباط.
“كليف؟”
ظل صامتًا للحظة، ثم أجاب بتردد طفيف وكأنه أدرك أنها لا تزال تنتظر ردّه.
“اجعلوه… أسود.”
“نعم.”
‘على الأقل لم يقل كعادته: كما تشائين، أليس كذلك؟’
قررت إيزين أن تتمسك ببعض الأمل، فمجرد أنه أبدى رأيًا بدلاً من ترك القرار لها بالكامل يُعد شكلًا من أشكال التعاون. لكنها ما لبثت أن توقفت فجأة حين استوعبت فحوى جوابه.
“حسنًا، إذن سنمضي على هذا النحو… لحظة، أسود؟”
حتى وهي ليست خبيرة في شؤون المجتمع المخملي، كانت تدرك جيدًا أنه لا يوجد حفل شاي يُزين بالأسود. فحفلات الشاي رمزٌ للتواصل الاجتماعي والمودة، حيث تُقدم الحلوى والمشروبات في أجواء دافئة… لا في ظلال الحِداد!
“نعم.”
“أسود، حقًا؟”
أعادت إيزين السؤال، متشككة فيما إذا كانت قد سمعت خطأ. فأومأ كليف برأسه باقتضاب.
“أنتِ تحبين هذا اللون، أليس كذلك؟ إنه حفلُكِ، لذا من الطبيعي أن يُزين بما تحبين.”
نطق كليف بكلماته بصوته العميق، وكأنه يبرر بمنطق لا جدال فيه أن اللون الأسود هو الخيار الأمثل لحفلة الشاي.
“لكن تزيين حفلة شاي بالأسود… قد يجعل البعض يظنون أن له معنى آخر.”
مثلًا، قد يظن الناس أن مركيز مور يخطط لذبح جميع المدعوين!
“السيدة فيلياموري ستعارض ذلك بالتأكيد—”
توقفت فجأة، إذ خطرت لها فكرة. لكن يبدو أن كليف ظن أنها تراجعت بسبب اعتراض فيلياموري، فأضاف بجملة حاسمة:
“هذه حفلتُكِ أنتِ، وليست حفلة فيلياموري.”
إيزين لم تكن تفكر في ذلك، بل في أمر آخر تمامًا.
“لكن كليف، كيف عرفت أنني أحب اللون الأسود؟”
سألته بفضول.
إيزين كانت تميل إلى الألوان الحيادية، وإن لم تكن تفضل اللون الأبيض لأنه بدا لها فارغًا ومجوفًا. أما الأسود، فقد كان مليئًا وغنيًا، مما منحها شعورًا بالراحة.
ولكن… تبًا، هذا اللون يرتبط باسم مور مجددًا! -‘ألقِ بهذه الخرقة بعيدًا، واجعليها ترتدي لون الفستان الذي ارتدته الأميرة في المرة الماضية! هذه الفتاة البائسة تشبه أمها، وإن لم ننتبه، فستنتهي غارقة في الكآبة من رأسها حتى أخمص قدميها!’-
كانت تدرك جيدًا أن ذوقها كان بعيدًا كل البعد عن الذوق المعتاد لفتيات الطبقة الأرستقراطية، اللواتي يفترض أن يكنَّ مفعمات بالحيوية والرقة، ولذلك لم تصرّح به لأحد قط. بل إن نشأتها ذاتها لعبت دورًا في ذلك، إذ لم يكن لها أن تُبدي رأيًا في ما ترتديه، بل كان عليها أن تلتزم بما يحدده لها والدها، الإيرل كروفورد، دون أن تحلم حتى بأن تعترض.
‘حوّلوا الغرفة كلها إلى اللون الوردي! يجب أن تكون جاهزة قبل وصول الشاب دونوفان!’
لم تكن إيزين قادرة على معارضة والدها، بل لم تكن حياتها مصممة أصلًا على ذلك. لقد نشأت على أن تكون دمية العائلة، تعيش وفق مشيئتهم، خاضعة لكل ما يُفرض عليها بصمت. حتى مربيتها، التي عاشت معها سنوات، لم تكن تعلم أنها في الحقيقة تفضل اللون الأسود.
أما كليف، الذي كان منشغلًا أكثر مما ينبغي بمدى قرب إيزين من فيلياموري، فقد ردَّ عليها بلا مبالاة واضحة:
“لأنكِ دائمًا ما تمدّين يدكِ أولًا إلى كل ما هو أسود. التمثال الحجري المتآكل في الحديقة، القط الأسود الضال، الكلب التائه المغطى بالفرو القاتم، وحتى الكتب القديمة التي أكلها الزمن… دائمًا ما تكون الأشياء السوداء هي أول ما تلمسينه.”
رفع يده بعفوية ليمرر أصابعه بين خصلات شعره السوداء، كأنه يتساءل بغيظ: ‘وشعري الأسود هذا؟ لماذا لا تلاحظينه إذن؟’
لكن حركته توقفت فجأة. بدا وكأنه استوعب للتو ما تفوَّه به.
“تبا… لم يكن هذا ما أردت قوله…”
تدارك نفسه سريعًا، وعاد ليتمسك بنبرة جادة:
“ما أقصده هو أن تختاري اللون الذي ترغبين فيه، دون أن تبالي بآراء الآخرين.”
“ماذا؟”
احتاجت إيزين للحظة لتستوعب كلماته، قبل أن تستدير نحوه بدهشة. لكن كليف كان قد أدبر بالفعل وكأنه لم يسمعها.
“يبدو أنني تأخرت على عملي.”
“انتظر، كليف—”
“تصبحي على خير. آسف لأنني أفسدت نومك.”
خرج مسرعًا، غير أن جزءًا من عنقه، الذي كان عادة بلون بشرته الحيادي، قد بدا متوردًا على نحو لافت.
‘هل… كان يراقبني؟’
كانت طفولة إيزين موحشة وبائسة. ربما ليست ببؤس العبد الذي كانه كليف يومًا، لكنها لم تكن يومًا حياة شخص مُحب أو محبوب. ولذلك، كانت تظن أنه لن يتذكرها إلا بهذه الصورة.
‘انظروا ماذا أحضرت إيزين! ههه، هل يُعقل أن تعتبر هذا هدية؟!’
‘أخي… أعدها لي، أرجوك.’
صفعة.
‘لماذا جلبتها لي؟ هل تحاولين التفاخر؟ تظنين أن موت أمك بسببي؟ ها!’
‘إيزين، لهذا السبب يكرهك والدك. تعتقدين أن تقديم تذكار منها سيُحرّك مشاعره؟ أنتِ محظوظة إن لم تتلقي صفعة أخرى على وجهك!’
كان كليف هناك، في قصر كروفورد، وشهد كيف رفضتها عائلتها، ورآها تُنبذ وتُهان. لكنه، على عكس الجميع، كان يرى أيضًا يدها تمتدّ نحو تمثال حجري متهالك، أو تحتضن قطة سوداء ضائعة.
كان شعورًا غريبًا…
حين فكّرت أن عينيه كانتا تتابعانها طوال تلك السنين، في لحظات وحدتها ويأسها، شعرت للحظة أن ماضيها لم يكن موحشًا بالقدر الذي اعتقدته.
—
“تبًا، ابتعد عني يا جيمس. رائحة عرقك لا تُطاق.”
“وهل تعتقد أن رائحتك أفضل؟ احمد الله أنك لا تزال واقفًا على قدميك بعد هذا التدريب. بالكاد أقاوم رغبة ساقيّ في الانهيار.”
انتهى تدريب فرسان الظل، وخرجوا من ساحة القتال، أجسادهم منهكة ومتسخة بالعرق والغبار. كان الحفاظ على سمعة الفرسان الحامية للقصر الإمبراطوري يتطلب مجهودًا لا يُستهان به.
صرخ القائد هاردين في الفرسان الذين كانوا يتجادلون بلا توقف. وبعد وقت قصير، عادوا واحدًا تلو الآخر، وقد بدت على أجسادهم آثار الكدمات الزرقاء الناتجة عن التدريب القاسي، لكنهم كانوا أنظف بكثير، تفوح منهم رائحة الصابون المنعشة. ورغم ذلك، لم يكن تدريبهم قد انتهى بعد، إذ كان لا يزال هناك اجتماع لمناقشة الاستراتيجيات، وهو جزء لا يقل أهمية عن التمارين البدنية. لكن إلى أن يصل كليف وليور، كان الفرسان يستغلون الوقت في تبادل المزاح والحديث.
“بالمناسبة، هاردين، ما سبب انضمامك المفاجئ لحراسة السيدة؟”
أصبح من المعتاد في الآونة الأخيرة أن يكون للماركيزة حارسان بدلًا من واحد، وهو ما أثار فضول الجميع.
“أخبرنا، ألان، أنت أيضًا بدأت فجأة في حضور التدريبات معنا. لا تقل لي أنك هنا فقط لمراقبة ما إذا كنا نتدرب بجدية؟”
“إنها أوامر جلالته.”
“تقصد أن مهمتك هي التجسس علينا؟”
نظر ألان إلى الفارس الذي سأله وكأنه يرى شيئًا بالغ الغباء، ثم أجاب بجفاف:
“لا، أعني أن مشاركتي في تدريبات فرسان الظل كانت بأمر من جلالته.”
“ولكن لماذا؟ لماذا يرسل جلالته حارس السيدة إلى هنا؟ لا تقل لي أنك اشتقت إلى التدحرج معنا في الوحل؟”
ضحك الفارس كأنه قد وجد نكتة عظيمة، لكن ألان تجاهله ببرود، فسرعان ما انطفأت ضحكته وتحول إلى الحرج.
“حسنًا، لم يكن عليك أن تتجاهلني بهذه الطريقة… هاردين، ماذا عنك؟ لماذا تم تعيينك أيضًا لحماية السيدة؟”
توجهت الأنظار إلى القائد المخضرم، فأجاب ببساطة:
“أوامر جلالته.”
“لكن ألان موجود بالفعل، فلمَ الحاجة إليك أيضًا؟ لا أقصد التقليل من شأنك، لكن إرسال اثنين من أقوى فرساننا لحماية السيدة يبدو مبالغًا فيه.”
“نتناوب أنا وألان على الحراسة. ربما رأى جلالته أن وجود شخصين أفضل. على أي حال، لن يؤثر هذا على مهام فرسان الظل.”
“لابد أن الأمر مرهق بالنسبة لك.”
أحد الفرسان علّق بنبرة متعاطفة، لكن هاردين زفر بانزعاج وقال بحزم:
“وأنا سعيد بخدمتي لها، لذا لا تنظروا إلي بهذه النظرة البائسة. إن كانت لديكم أحكام مسبقة تجاه السيدة، فاحتفظوا بها لأنفسكم. أنا فارس، وواجبي أن أخدمها بإخلاص، سواء كانت شخصًا يسهل خدمته أم لا.”
كان في كلماته معنى خفي: ‘لست مثلكم.’
“إنها من اختيار جلالته. هل تعتقدون أن أهواءكم الشخصية لها وزن أمام قراره؟”
“لكنها من عائلة كروفورد…”
“كروفورد، كروفورد! ألا تملّون من ترديد هذا الاسم؟”
نفد صبر هاردين أخيرًا، وصوته الحاد جعل الجميع يبتلعون اعتراضاتهم.
“إن كنتم ستتحدثون عن السيدة، فاذكروا سببًا منطقيًا واحدًا لكرهكم لها، غير حكايات الحقد والانتقام التي يلوكها الجميع دون دليل!”
“لكن، هاردين، أنت تعرف جيدًا كيف تصرفت السيدة بعد زواجها…”
قال أحدهم مترددًا، لكن هاردين قاطعه بحدة:
“نعم، أكمل حديثك. أخبرني، ماذا كنت تفعل عندما كنت في العشرين من عمرك؟ ها؟ تتسكع في الحانات، تخوض معارك سيوف لا طائل منها، وتشرب الجعة حتى الفجر؟ بينما هي، في نفس العمر، فقدت كل شيء بين ليلة وضحاها. فماذا كان يفترض بها أن تفعل؟”
صوته كان يحمل شحنة غضب واضحة، حتى أن أنفاسه الثقيلة كانت مسموعة في أرجاء القاعة.
“شاهدت بعينيها كيف أُبيد كل من كان معها، كيف طُحنت عائلتها بالكامل أمامها. ونحن جميعًا رأينا كيف اخترق السيف قلب دونوفان أمام ناظريها، أليس كذلك؟ ألم يكن زواجها نفسه قسرًا؟ ألم يكن ذلك قرارًا لم يكن لها فيه أي رأي؟”
ساد صمت ثقيل، لم يجرؤ أحد على الرد.
“أم أنكم ستتجاهلون حقيقة أن السيدة هي من أنقذت جلالته وأخرجته من قصر كروفورد؟”
تقلصت تعابير الوجوه في انزعاج واضح. لم يكن لأحد أن يجادل، لأن كلماته لم تكن قابلة للدحض.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "51"