خرجت تمتمة تنضح بالسخرية الذاتية، صدى صوت واهن تلاشى في الفراغ.
“أتساءل إلى أي مدى تنوي الآلهة أن تعبث بي بعد.”
عضّ على أسنانه وأدار رأسه بعنف، وكأنه يريد طرد الأفكار التي تثقل عقله. لم يكن حتى مدركًا لما يهمس به، فقد بدا أنه بالكاد يحتمل سيل المشاعر الذي اجتاحه.
تردد أنفاسه المتقطعة، وانطلق زفير قصير ثقيل كأنه ينزلق من بين شفتيه دون إرادة.
“تعلمين… ومع ذلك، أنا كالأحمق… أُساق كما يُراد لي، وأُقاد دون مقاومة.”
لم يكن حديثه موجّهًا إلى إيزين بقدر ما كان أقرب إلى اعتراف موجه إلى العدم.
كانت قبضته المتوهجة بحرارةٍ تكاد تحرقها، تشدّ على كمّها، تمنعها من الفرار، من الابتعاد عنه ولو بخطوة.
“لا أفهم ما الذي تقصده.”
“بل تفهمين.”
جاء نفيه الجافّ كنصلٍ حادّ أصاب شيئًا ما في أعماقها، فتغلغلت في صدرها نغزة ألم خاطفة.
ثم تبعه زفرةٌ ثقيلة، مشبعة بالاستسلام.
“إيزين، أنت تعلمين جيدًا. تعلمين أنني لا أستطيع الرفض. تعلمين أنني، بحركةٍ صغيرة منكِ، أصبح…”
كان صوته يزداد خفوتًا، وكأن قوته تتلاشى مع كل كلمة ينطقها. خطواته الثقيلة تقدمت نحوها ببطءٍ، وشحوب صوته المبحوح كان شاهدًا على إرهاقه، على ضعفه أمامها.
وأغلقت إيزين عينيها دون أن تعي سبب ذلك، كما لو أنها تحاول الهروب من الحقيقة التي تتردد بين أنفاسه.
لماذا كانت تنتظر؟ ماذا كانت تأمل أن يحدث؟
ألم ذلك الصوت تردد في قلبها، لكن رغم الوجع، لم يكن نبضها ليتوقف. كان يتسارع، يضرب صدرها بجنونٍ، كأنه يريد الخروج من قفصه.
لقد كان لا يزال غير قادرٍ على تصديقها. لا يزال عاجزًا عن استيعاب فكرة وجوده في حياتها لسبب غير مأساوي، غير كونه “الشر” الذي اعتاد أن يراه في نفسه.
ربما سيحتاج الأمر إلى وقت طويل، وربما كان عليها أن تكرر الأمر مرارًا حتى يأتي اليوم الذي يضحكان فيه معًا بلا خوف.
رددت ذلك داخلها، لكن قلبها كان يعتصره شيء مرّ، شيء لم تستطع إنكاره.
رغم ذلك، كانت الحواس لديها يقظة بشكل مؤلم، تلتقطه بالكامل، تدركه حدّ الارتعاش.
نبضها لم يهدأ، بل خفق، واكتشفت لأول مرة أن اللهفة والحزن يمكن أن يسكنا القلب ذاتهما دون تناقض.
رائحة جسده، مزيجٌ من عبق النعناع والمسك، تسللت إلى أنفاسها، فلمعت عيناها المغلقتان كأنهما تتلمسان وجوده.
وحين تفتح عينيها، سيكون هناك.
تشنجت شفتاها المرتعشتان، وشعرت بحرارة أنفاسه تقترب أكثر فأكثر.
كان قريبًا حدّ الاختناق، حدّ تلاشي المسافة بينهما.
وأمسكت أنفاسها، بينما شعر هو أيضًا بثقل تلك اللحظة، فبدا كأنهما انزلقا معًا إلى حالة من الفراغ، حيث لم يكن هناك سوى إحساس أحدهما بالآخر.
ارتعاشة أنفاسها الهشة ملأت الهواء، تردد صداها في أذنيه.
“أنتِ…”
همس بالكاد، وانخفض برأسه، كأنه يتجه نحوها… لكنه توقف فجأة.
شفاهه التي كانت تتجه نحو موضعٍ أعمق، نحو شيء أكثر قربًا، توقفت بفعل قوةٍ غير مرئية، كأنها مُنعت من الاستمرار.
وبدلًا من ذلك، انحرفت طريقها إلى الأعلى، حيث لامست جبينها، بلطفٍ بالغ، قبل أن تبتعد سريعًا كأنها لم تكن.
“آمل أن تنامي بسلام، وأنني…”
همسه الخافت، المبعثر فوق شفتيها، كاد يكون صلاةً يرسلها إلى السماء، أو ربما رجاءً يهمس به إليها وحدها.
“أنني لن أكون جزءًا من كوابيسك بعد الآن.”
جملة بالكاد لامست أذنيها قبل أن تتلاشى.
جسدها ارتعش لا إراديًا، وعبثت أنفاسها غير المنتظمة بالهدوء الذي غلّف اللحظة.
شفاهه توقفت للحظة، وكأنها على وشك العودة، لكنها رحلت مجددًا… ومعها، رحل أيضًا دفء يده الذي كان يطوق معصمها.
ثم، كما لو أنه يفرّ من شيء لا يحتمل مواجهته، استدار بسرعة وخرج من الغرفة.
لم تلحق بنظراتها به، لم تحاول إيقافه.
بدلًا من ذلك، رفعت يديها ببطء، وغمرت وجنتيها، كأنها تحاول التقاط أثر شفتيه على جبينها.
الحرارة لا تزال مشتعلة هناك، موضعًا لم تطله أنامل الريح.
وبحركة بطيئة، زحفت أصابعها من جبينها إلى شفتيها، حيث كانت لا تزال عالقةً بتلك اللحظة.
كان يمكنها أن تقسم أنها سمعت همسه مرة أخرى، كأن أنفاسه لا تزال تطوف في الأجواء، تهمس باسمها بصمت.
“لقد كانت مجرد قبلة ليلية بسيطى… أليس كذلك؟”
لم يكن السبب في ابتعاده عنها على عجل لأنه يكرهها. بالتأكيد لم يكن كذلك. ولم يكن لأنه لا يستطيع احتمال وجودها.
راحت تواسي نفسها بهذه الأفكار، محاوِلةً أن تجد تفسيرًا منطقيًا لتلك القبلة الخاطفة، تلك اللحظة التي عبرت حياتها كوميض سريع، تاركةً أثرها العميق في قلبها.
ثم، وهي تلمس وجنتها برفق، استدعت في ذاكرتها وداعه الهامس، تمنياته لها بنوم هانئ. فتغلغلت بداخلها نشوة دافئة، مزيجٌ من السعادة الغامرة والإحساس المؤلم بالفقد.
قبضت إيزين يدها بقوة. يكفيها هذا القدر من الشجاعة لهذا اليوم.
لو لم تفعل، كانت ستندفع خلفه دون تفكير، متشبثةً به مرة أخرى، غير آبهةٍ بأي خجل قد يعتريها.
—
“إيزين؟ إيزين!”
طرقات خفيفة على الطاولة، ثم صوت مألوف يناديها، ليعيد وعيها من غياهب أفكارها.
تطلعت نحو فيليمويا التي كانت تنظر إليها بقلق، وعادت الحياة إلى عينيها اللتين كانتا تائهتين في العدم.
“آه… أعتذر. كنت شاردة لبعض الوقت.”
“هل أنتِ بخير؟ هل تشعرين بالإرهاق؟”
تفحصتها فيليمويا بعناية، لكن إيزين ابتسمت بلطف وهزّت رأسها نافية.
“لا، أنا بخير. كنا نتحدث عن المدعوين، صحيح؟”
“نعم، معظمهم من نبلاء التيار الملكي، لكنني تمكنتُ أيضًا من إدراج بعض النبلاء البارزين من التيار المحايد، بناءً على طلبكِ. ظننت أنه من الأفضل أن تعرفي عنهم مسبقًا.”
قدّمت فيليمويا إليها الأوراق التي تحوي معلومات عن أولئك النبلاء.
“كما قلت، هؤلاء ليسوا ودودين تجاهكِ. كان من الأفضل لو اكتفينا بأنصار الملك.”
“لو فعلنا ذلك، لما كان هناك أي معنى لإقامة حفل الشاي هذا، أليس كذلك؟”
قالتها إيزين بابتسامة رقيقة، فما كان من فيليمويا إلا أن أطلقت تنهيدةً ثقيلة، تعبيرًا عن قلقها.
“عليكِ أن تكوني مستعدة. أنتِ تعلمين جيدًا مدى حساسية اسم ‘مور’ في أروقة هذه الطبقة.”
كانت إيزين تدرك تمامًا ما تقصده فيليمويا. منذ ما قبل زواجها، كانت علاقتها مع كليف موضع حديث مستمر في المجتمع.
“أعلم.”
لم تقل أكثر من ذلك، فابتسامة هادئة كانت كل ما استطاعت تقديمه.
لكن فيليمويا، التي فسّرت تلك الابتسامة على نحو آخر، لوّحت بيدها محاولةً طرد ثقل اللحظة.
“آه، إيزين، لا تنظري إليّ هكذا. كل ما عنيته هو أن دخولك الرسمي إلى المجتمع، بصفتكِ زوجة المركيز الشهير، سيحدث ضجة لا محالة. كما أخبرتكِ سابقًا، عائلة مور هي الحليف الأبرز لجلالة الملك في الوقت الراهن، وهذا يعني أنها تملك الكثير من الأعداء. وبما أنهم لا يجرؤون على مهاجمة المركيز مباشرةً، فقد أصبحتِ أنتِ هدفهم المثالي.”
إيزين لم تكن بحاجة إلى سماع تتمة الجملة، فقد فهمت ما لم يُنطق به.
“لأنني بلا دعم داخل المجتمع، ولأن عائلتي لم تعد موجودة لتحميني. أليس كذلك؟”
رأت القلق يلوح في عيني فيليمويا، فابتسمت مطمئنةً لها.
“لا تقلقي، معلمتي. لا داعي لذلك. هذا الأمر انتهى منذ زمن.”
ظلت فيليمويا صامتة لوهلة، ثم تابعت بنبرة أكثر جدية:
“على أي حال، هناك شيء غريب في الأمر، إيزين.”
“ماذا تعنين؟”
“الأجواء هادئة للغاية.”
راحت تطرق بأظافرها على سطح الطاولة، محدثةً صوتًا متكررًا.
“هذا ليس طبيعيًا. كان من المفترض أن تصل بعض الأصداء عن نيتكِ دخول المجتمع مجددًا. حتى أولئك الذين أراقبهم أشاروا إلى أن شيئًا ما يجب أن يحدث قريبًا… ولكن حتى الآن، لا شيء.”
“وأيضًا… إنه مشغول للغاية بحيث لا يملك الوقت للسيطرة على كل تفصيل صغير في الرأي العام. في الأساس، لم يكن يومًا شخصًا يهتم بالمؤامرات التي تدور في الخفاء.”
لم تلحظ فيليمويا النبرة الخفيفة من الأسى التي تسربت إلى صوت إيزين، فاكتفت بهزّ رأسها ببطء.
“نعم، لا يمكن أن يكون غير ذلك. آه… على أي حال، بما أن الأمور قد وصلت إلى هذا الحد، لماذا لا تخبرينه بالأمر؟”
“بماذا تقصدين؟”
“عن حفل الشاي.”
“ماذا؟”
حدّقت إيزين إليها بعينين متسائلتين، فردّت فيليمويا بنبرة متزنة وكأن الأمر في غاية الوضوح.
“يؤسفني أن أقول هذا، لكن في هذا المملكة العتيقة والمزعجة، يُعدّ حفل الشاي الذي تستضيفه سيدة نبيلة وسيلةً للإعلان عن قوة عائلتها وإثبات مدى كونها زوجة محبوبة. لذا، أخبري زوجكِ أن يحضر للحظة على الأقل يوم الحفل. مجرد ظهوره بجانبكِ كافٍ لتقليل نصف الشائعات السيئة عن حياتكما الزوجية. ماذا تقولين؟”
وافقت إيزين، ولكن ليس بالطريقة التي توقعتها فيليمويا.
“أتمنى ذلك… لو كان الأمر بهذه البساطة.”
كل ما أرادته هو أن تكون قادرة على تخفيف العبء عن كاهله، ولو قليلًا. تمامًا كما تمنى لها كليف ليلة هادئة، أرادت أن يكون حمله أخف ولو بقدر ضئيل.
—
بعد لقائها مع فيليمويا، عادت إيزين إلى القصر واتجهت، كعادتها، إلى غرفة الطفل.
كانت قد أنهت أخيرًا إعداد هدية صغيرة له الليلة الماضية. في الصباح، لم تجد الوقت لزيارته بسبب انشغالها بالتحضير للخروج. والآن، وهي تحمل الطرد الصغير المغلف بعناية، كانت خطواتها خفيفة كنسيم رقيق.
“كيااا!”
“إيان.”
كالعادة، استقبلها الطفل بحماسة. ومع مرور الأيام، أصبحت شفتاه الممتلئتان تثرثران بكلمات غير مفهومة، لكن بالنسبة لإيزين، كانت تلك الهمهمات أشبه بأعذب ألحان سيدان. حملته بين ذراعيها وطبعت قبلة دافئة على وجنته.
“سيدتي، ما هذا؟”
سألت المربية، السيدة ماري، وهي تتناول الطرد المغلف من يدها.
“إنها هدية لإيان.”
“هدية؟”
في منزل مركيز مور، حيث تتراكم الهدايا الفاخرة دون انقطاع، لم تكن هدية أخرى أمرًا مميزًا. لكن رغم ذلك، كان هناك شعور غامض بالفخر يشع من عيني إيزين وهي تقدمها.
دون تردد، وضعت السيدة ماري الطرد بين يدي الطفل الصغير.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات