كان صوت كليف العميق والمتصلب واطئًا إلى حد جعله يوحي بكآبة مشاعره، مما جعل إيزين تنتفض للحظة.
“إن كان لا بد لأحد أن يخرج، فينبغي أن أكون أنا.”
لكن ما قاله لم يكن بالسهولة ذاتها لفهمه.
“أتقصد أن هذا منزلي؟”
سألت مجددًا محاولة استيضاح مقصده.
“نعم.”
كانت إجابته مقتضبة، تقطع سلاسة الحوار مثل سكين حادة. رمقت إيزين كليف بنظرة خاطفة، وما إن تلاقت أعينهما حتى سارعت بخفض رأسها. عندها فقط أدركت أنه كان يحدق بها طوال الوقت.
كان ينظر إلي طوال الوقت.
اجتاحت مشاعر متناقضة قلبها، مزيج من التوتر والوخز الخفيف، لكن الغصة في قلبها كانت أقوى.
وما جدوى ذلك؟ سواء كان المنزل لي أم لا، فالنتيجة واحدة… لن يأتي.
تنهدت إيزين، غارقة مجددًا في دوامة أفكارها عن زوجها الذي لا يعود.
“أهو منزلي، إذًا لهذا السبب يصعب عليّ رؤية وجهك؟”
خرجت كلماتها دون أن تدرك أنها تنطوي على نبرة ساخرة، لكن حين أدركت ذلك، كان الأوان قد فات بالفعل.
“…….”
شعرت بنظراته الثابتة تخترقها، ومع ذلك، لم تجرؤ على مواجهتها، بل أدارت وجهها عنه، خشية أن تقع عيناها في شرك عينيه العميقتين فلا تستطيع الفكاك.
كان ينبغي ألا أقول شيئًا.
“قوليها مبكرًا.”
قال ذلك فجأة بينما كانت هي تعض شفتيها ندمًا. رفعت رأسها بدهشة، لتجد نفسها مرة أخرى في مواجهة نظراته النافذة.
“قلت ذلك من قبل.”
خرج صوته مبحوحًا بثقل الإرهاق، وكأنه يتساءل إلى متى ستظل تتجاهل الحقيقة الواضحة أمامها.
“إذا كنتِ تريدين شيئًا، فقولي. سأفعل أي شيء أستطيعه.”
لكنها كانت مجرد كلمات جوفاء، فهي سمعتها منه مرات عديدة من قبل. كل مرة كان يقول فيها شيئًا كهذا، كان يتراجع في النهاية، وكأن مجرد اقتراب ظله منها أمر لا ينبغي أن يحدث.
ومع ذلك، وجدت إيزين في كلماته بصيصًا من الأمل، إذ رأت في نبرته، وإن كانت مألوفة، شيئًا جعل قلبها ينبض برقة غير متوقعة.
“أنا…”
رفعت عينيها لتجد زرقة نظراته مثبتة على شفتيها المرتعشتين. عرفت أنها بحاجة إلى شجاعة كي تكمل كلماتها.
“أتمنى… لو كنت بقربي.”
“…….”
“أتمنى… لو أنك لم تهرب مني.”
“لم أفعل ذلك قط.”
“هل ستنكر أنك كنت تتجنبني؟”
اهتزت نظراته للحظة أمام هذا السؤال الهادئ، لكنه لم يستطع إنكار الحقيقة.
مسح كليف صدغيه بيده، وكأنه يحاول تهدئة أفكاره.
“لو كنت بجانبك، فلن تشعري بالراحة، أليس كذلك؟”
“هذا غير صحيح.”
“ولكن-“
“قلت إنه غير صحيح.”
خرج إنكارها بسرعة، بنبرة تكاد تكون غاضبة. أرادت أن تصرخ في وجهه وتسأله لماذا يعجز عن رؤية ما هو واضح أمامه. شعر كليف نفسه بعدم الراحة، فقد كان وجهه يعكس ارتباكًا صادقًا.
كان ثمة جزء من الحقيقة في كلماته. فكلاهما لم يكن قادرًا على فهم الآخر بالكامل.
“ولكن…”
ظهر تجعد خفيف بين حاجبيه، وكأنه تذكر أمرًا ما. كانت شفتاه ترتجفان، مترددة في نطق الكلمات التي تراود ذهنه.
“ولكن ماذا؟”
نظرت إليه إيزين وسألت بإلحاح، وكأنها تدفعه للكلام، دون أن تدرك أنها قد اقتربت منه خطوة أخرى.
“لكن؟”
“يبدو أنك لا تنامين بارتياح. تتململين، تبكين… تحلمين بكوابيس.”
بدا توتره واضحًا في العضلات المتشنجة حول عينيه، وأطلق زفرة ثقيلة. حتى تقطيبة حاجبيه، التي قد تبدو عند غيره مجرد انزعاج، اندمجت مع ملامحه وكأنها لوحة رسمها فنان متألم.
حدّقت إيزين في وجهه للحظات، غارقة في تفاصيله، ثم رمشت ببطء.
هل كان يراقبني وأنا نائمة؟
فكرة أن أثره ربما ظلّ معها خلال الليالي التي ظنت نفسها وحيدة، منحتها عزاء خفيًا. هذا يعني أنه لم يكن غريبًا عنها تمامًا، أنه لم يكن غير مكترث بها كما ظنت.
“نعم، صحيح أنني أرى الكوابيس. فما زالت هناك أشياء كثيرة تخيفني.”
لذلك، أرادت منه أن يفهمها حقًا.
“لكن الأمر لا علاقة له بك. لذا… لا أريدك أن تواصل الهرب مني.”
حدّق فيها للحظة، ثم انحنى حاجباه بعمق، ومسح عنقه الطويل والعريض بيده، كما لو كان يحاول فكّ قيود غير مرئية.
“لكنني في كوابيسك.”
فهمت إيزين فجأة ما كان يقصده.
لم يكن يتحدث فقط عن نفسه وعنها، بل عن كل ما ربط بينهما في الماضي، عن الظلال التي لا تزال تخيم على علاقتهما.
عبر تاريخ العداء بين عائلتيهما، مرورًا بليلة المجازر، وانتهاءً بزواجهما القسري، كان كليف دائمًا حاضرًا في حياتها ككيان مظلم، كظل يطاردها بلا هوادة.
دون وعي، تقدّمت نحوه أكثر.
تشنج جسده كما لو كان ينوي التراجع، لكن لم يكن لديه متسع لذلك، فقد كان خلفه الجدار، وإلى جانبه سرير الطفل. قبضته المشدودة على إطار السرير جعلت الأوردة في يده تبرز تحت جلده.
ممَّ يخاف بالضبط؟
رغم تساؤلها، لم تستطع إيزين تجاهل إحساس بالشفقة اجتاحها عند رؤيتها لتلك العروق البارزة.
“نعم، أنت هناك.”
أطلق ضحكة قصيرة، أشبه بضحكة ساخرة من نفسه، وكأنه يسخر من أمله الضئيل في سماع إجابة مختلفة. ثم تمتم بصوت خافت، كأنما يخاطب الفراغ:
“أعلم ذلك.”
رأت إيزين كيف انخفض بصره، وكيف تلاشت الزرقة من عينيه إلى ظلام عميق، وكأنها تغرق في بحر بلا قاع، حتى لم يبقَ منها شيء.
“وجودك يرهقني، يجعلني عاجزة وضعيفة، يجبرني على مواجهة خوفي وعجزي… لقد أخبرتك، لدي الكثير مما يخيفني.”
نطقت بالكلمات وهي تنظر مباشرة في عينيه، لكنه تجنّب النظر إليها، كما لو كان مجرد اللقاء بنظراتها أمرًا يفوق احتماله. حركته المتصلبة فضحت اضطرابه.
“أرى كابوسًا أفقدك فيه، كليف.”
اهتزت يده التي كانت مشدودة على إطار السرير للحظة.
“أراك تتألم، ولا أملك أن أفعل شيئًا. حتى وأنا أعلم أنني أحلم، يبدو الأمر حقيقيًا لدرجة ترعبني.”
“إيزين، أنتِ الآن…”
“هذا هو كابوسي. تمامًا كما رأيت حلمًا أفقد فيه إيان اليوم، أرى حلمًا تفقد فيه أنت أيضًا. لكنني أعلم أنه مجرد حلم، ففي النهاية، سأستيقظ.”
أمسكت إيزين بكُمّ معطفه وسحبته بلطف، وكأنها تدعوه للنظر إليها. وحين فعل، رأت زرقة عينيه العميقة تنجذب إليها بلا إرادة.
“والحقيقة هنا، في هذه اللحظة.”
“لذا، لا تهرب مني. وكما كنت تتحدث إلى إيان قبل قليل، تحدث إليّ الآن.”
“…….”
“قلها لي.”
“…….”
“قل إنك هنا.”
“…….”
“عندها فقط، سأستطيع الاستيقاظ من كوابيسي.”
راقبت اتساع حدقتيه وانقباضهما مجددًا، وكأن صراعًا كان يدور داخله. لاحظت كيف تحرك تفاحة آدم في حنجرته الجافة، وكيف عضّ شفته السفلى بلا وعي.
لم يستطع تصديق كلماتها. فكرة أن كوابيس إيزين لا تعود إليه، وأن ما يخيفها حقًا ليس وجوده، بل غيابه-كان أمرًا يفوق إدراكه. هزّ رأسه ببطء، وكأنه يحاول رفض الواقع الذي تفرضه عليه كلماتها، لكن عيناه ظلّتا معلّقتين بها بإصرار مربك.
رغم أن نظراته ظلت تلفّها كقيد محكم، لم تهتز إيزين هذه المرة، بل قابلتها بثبات.
“هذا مستحيل.”
تراجع خطوة، لكن لم يكن هناك مكان آخر يهرب إليه. اصطدم ظهره بالجدار بقوة، ومع ذلك، لم يبدُ عليه أنه شعر بشيء.
“كليف.”
لم تحاول إيزين التقدّم أكثر، فقط انتظرت. رغم أن طرف شفتيها المرتجف كان يشي بتوترها، إلا أن كليف لم يكن في حالة تسمح له بملاحظة ذلك.
عروقه، التي انتفخت بقوة على يده القابضة على إطار السرير، برزت للحظة كأنها على وشك الانفجار، ثم هدأت مجددًا.
كانت ترغب في أن يفهمها، أن ترى أثر كلماتها يتسلل إلى داخله. الشعور بالاختناق داخلها ازداد حدة.
“أوه…”
عندها، قطع صوت بكاء ضعيف حدّة التوتر في الغرفة.
بدأ إيان يتململ في نومه، يئن بأنين ناعس، قبل أن يتحوّل إلى تململ واضح. تحرّك كليف على الفور، وكأن جسده تصرّف قبل وعيه، واقترب من الطفل ليتفقده.
“أه… آه…!”
كان الطفل يمدّ ذراعيه نحوه، يطلب احتضانه، لكن الأب وقف متجمّدًا، مكتفيًا بالنظر إليه من علٍ. شعر الطفل بالإحباط من هذا التجاهل، فبدأت أنيناته تزداد علوًا، لتتحوّل تدريجيًا إلى بكاء حقيقي.
ذلك الرجل الذي كان يتحرّك كالعاصفة عندما يريد، تجمّد الآن في مكانه كتمثال حجري.
بالنسبة لإيزين، التي قضت وقتًا طويلاً مع إيان، لم يكن الأمر غريبًا. لم يكن سوى نوبة بكاء عادية لطفلٍ يستيقظ بين النوم واليقظة، أمرٌ مألوف ومتكرر. لكنها أدركت أن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة لكليف.
رأت زرقة عينيه ترتجف، كبحر مضطرب بلا اتجاه، ورغم تجمد ملامحه، إلا أنه بدا وكأنه فقد القدرة على استيعاب ما يحدث.
لم يكن يعلم ماذا يفعل.
في تلك اللحظة، كان بكاء الطفل يتصاعد أكثر فأكثر، يملأ الغرفة بصوتٍ يحمل بين طياته براءةً واحتياجًا لم يستطع كليف استيعابه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل "43"