بينما كانت تستمع إلى صوت نبضات قلبه القوية، غلبها النعاس دون أن تشعر.
لم تدرك كم كانت مُرهَقة إلا عندما أنزلها كليف على السرير، دون أن تملك القوة للاستيقاظ. استرجعت إيزين شذرات من أحداث الأمس: فيليموري، نايجل، كليف، سيوذن، الفودكا… عند ترتيبها على هذا النحو، أدركت أن اليوم السابق كان حافلًا بأحداث ثقيلة، ربما أثقلت كاهلها دون أن تدرك.
“مع ذلك، لم أكن مريضة…”
رحيله المفاجئ من قاعة الحفل بمجرد أن قالت إنها تشعر بالدوار، كان دلالة أخرى على قلقه المفرط على صحتها.
كانت تلك العناية المبالغ فيها تثير ضيقها أحيانًا، وتقلقها أحيانًا أخرى. لكنه، وبطريقة متناقضة، كان في نفس الوقت دليلًا على أنه لم يصبح غير مبالٍ تمامًا تجاهها بعد. وهذا، رغم كل شيء، منحها بعض الطمأنينة، وإن كانت طمأنينة مُرّة.
“كليف…”
عضّت إميلي على شفتها، مترددة في الرد. لكن إيزين لم تحتج إلى سماع الإجابة لتعرف الجواب.
“ذهب إلى القصر الإمبراطوري، أليس كذلك؟”
“سيدتي، حسنًا… نعم. بسبب الحرب، يبدو أن هناك الكثير من الأمور التي تتطلب حضوره.”
“…”
لم يكن ذلك مفاجئًا. كانت تتوقع هذا بالفعل. على الأقل، لم تفقد فرصة قضاء بعض الوقت معه ليلة أمس.
“لكن، سيدتي، الأوركسترا التي دعاها سيّد القصر تعزف الآن في قاعة الاحتفالات. ربما يمكنك مشاهدتها مع السيد الصغير، إيان.”
“… حسنًا.”
في النهاية، لم يكن أمامها سوى الإيماء بالموافقة، وحدها مرة أخرى داخل غرفة نومها.
كان يتشبث بها بذراعيه الصغيرتين، يرفرف بهما كجناحي طائر، وكأنه يطالب بالمزيد من العناق، مما جعله يبدو أكثر جمالًا.
هل كان هذا الحب الأعمى الذي يتحدثون عنه؟ كالقنفذ الذي يرى صغاره الأكثر جمالًا في العالم، ربما كانت ترى طفلها أجمل من أي شيء آخر.
لكن حتى لو لم يكن الأمر كذلك، شعرت إيزين بأنها تستطيع أن تصرخ أمام العالم أجمع بأن إيان هو أجمل طفل في المملكة.
عند النظر إلى وجهه الملاكِي، توقفت كل أفكارها المظلمة، وكأن الوقت تجمّد.
“يبدو أن السيد الصغير يحب موسيقى سيوذن كثيرًا. دائمًا ما يضحك بسعادة عندما يسمعها.”
ضحكت السيدة ماري وهي تنظر إلى يديه الصغيرتين وهما تصفقان بعشوائية، كأنه يحاول التصفيق فرحًا.
“إيان، هذه الموسيقى كانت المفضلة لدى أمك.”
همست له إيزين برقة، وهو يضحك ضحكة صافية كأنها موسيقى أخرى.
أصابعه الصغيرة، التي لم تكن قادرة حتى على الانحناء بشكل كامل، لمست وجهها برقة. قبلتها بدفء، ولم تبارح الابتسامة وجهها.
“أتمنى لو كان سيّدي هنا ليرى هذا.”
تمتمت إميلي بلا وعي، مأخوذة بجمال المشهد أمامها.
“إميلي!”
وبختها السيدة ماري بلطف، لكن الجو أصبح أثقل، فحاولت إيزين التخفيف منه بابتسامة خافتة.
“لا بأس… إنه مشغول.”
لكن الجميع في القصر كانوا يدركون الحقيقة: كليف لم يعد إلى المنزل منذ أيام.
هل كان غير قادرٍ على العودة، أم أنه لا يريد العودة؟
سؤال لم ترد أن تبحث عن إجابته.
كانت تعلم أنه كان يزور إيان يوميًا، لذلك حاولت الانتظار في غرفة الطفل، متأملة أن تلتقيه، ولو عن طريق المصادفة. لكن حتى ذلك الحظ البسيط لم يكن في صفّها.
بات تباين الوقت بينهما أمرًا معتادًا. وحين يتكرر الغياب، لا يبقى سوى الذكريات لترسم ملامح من رحل.
استعادت إيزين ملامحه وهو يرمي ديوان الشعر جانبًا، وطريقته الهادئة في صب الشاي، والحضور الطاغي الذي كان يشغل المساحة بجانبها. باتت اللحظات التي قضتها معه أقرب إلى حلم عابر، لكنها كانت تدرك أن الرجل الذي أحاطها بذراعيه، كحصن لا يمكن اختراقه، لم يكن وهمًا.
“لا أريد أن أترك هذه الذكريات تنساب كحلم يتلاشى.”
أرادت أن تتحلى بالشجاعة، أن تمد يدها في هذا الفراغ المتزايد بينهما. لكن العادات التي رافقتها طوال حياتها، كانت تمسك بها من الخلف، تبطئ خطواتها.
وأخيرًا، عاد كليف إلى القصر.
لكنه لم يكن وحده.
كان برفقته مجموعة من الفرسان السود ضخام البنية، ومستشاروه الذين تبعوه كظل ثقيل. دخلوا مباشرة إلى مكتبه، وأغلقت الأبواب خلفهم بصوت قوي. بقيت الأضواء مشتعلة حتى ساعة متأخرة، وصدى النقاشات الحادة يتردد عبر الجدران.
“هل ستندلع الحرب حقًا مع مملكة إيفرون؟”
تمتمت إحدى الخادمات بقلق.
“سمعت أن الاجتماعات في قصر السير مالكوم لا تتوقف أيضًا. يقولون إن كليف والسير مالكوم يتنافسان على قيادة الجيوش في الحرب القادمة.”
شعرت إيزين بالعجز. أرادت أن تكون سندًا له، ولو قليلًا.
عبر فجوة ضيقة بين الباب، لمحته للحظة، وقد استبد به الإرهاق.
“سيدتي، رائحة الشاي زكية للغاية.”
كان الشاي الذي ملأ الغرفة بعطره الهادئ مصنوعًا من أوراق النعناع الإلفي، تلك التي أرسلها لها كليف ذات مرة، وقال إنها تساعد على إزالة الإرهاق.
“أحضريه لكليف…”
أعدّت الشاي بنفسها، قطفته بعناية، ونقعته حتى نضج، ثم أرسلته إليه.
راقبت البخار المتصاعد منه، تمنت ألا يبرد قبل أن يصل إليه، كما لو كان يحمل دفئها إليه في غيابه.
—
“لماذا؟”
كان لا يزال غارقًا بين الأوراق حين دخل كبير الخدم يحمل الصينية، فلم يكلف نفسه حتى عناء رفع رأسه.
ألقى كبير الخدم نظرة خاطفة على المكتب الذي غطته الوثائق، ثم وضع الشاي بهدوء، وقال باحترام:
“أرسلته السيدة.”
رفع كليف رأسه على الفور.
كانت ملامحه أكثر حدة بسبب الليالي الطوال التي قضاها بلا نوم، حتى بدا وجهه أكثر قسوة مما اعتاد.
“…ماذا قلت؟”
وكأنه لم يسمع جيدًا، أعاد كبير الخدم بصوت ثابت:
“السيدة أرسلته إليك، سيدي.”
ارتجف بريق عينيه الزرقاوين وهو ينظر إلى الرجل، ثم إلى الكوب الدافئ أمامه.
كانت هذه المرة الأولى التي ترسل له شيئًا.
توقع كبير الخدم أن يكون سيده متفاجئًا، لكنه لم يكن مستعدًا لمثل هذا الصمت العميق.
لم يكن يتوقع أن يبتهج كليف أو يظهر مشاعر جياشة، فهو يعرف جيدًا طبيعته الصارمة، لكنه أيضًا لم يكن يتوقع هذا الجمود القاسي.
“سيدي؟”
للحظة، بدا وجهه وكأنه يحمل رفضًا خفيًا.
تردد كبير الخدم، ثم قال بحذر:
“هل تود أن أعيده؟”
كانت محاولة منه لفهم نواياه.
لكن كليف رد ببرود قاطع:
“اخرج.”
انحنى كبير الخدم وانسحب بهدوء، ولمح قبل أن يغلق الباب ملامح سيده، التي لم تتحرر من الشاي أمامه.
في الغرفة الهادئة، كان البخار لا يزال يتصاعد، ناشرًا عبيره في الهواء البارد.
امتدت يده نحوه دون وعي، لكنها توقفت فجأة عندما اصطدمت بحافة الكوب، فاهتز السائل بداخله.
تموجت دوائره الصغيرة، على وشك أن تفيض، وكأنها انعكاس لذاكرة تعود إلى السطح، مضطربة، غير مستقرة، على حافة الانسكاب.
“لماذا أرسلت لي إيزين هذا؟”
كان من يعرفه كليف عن إيزين لا يمكن أن تقدم له أي شيء بإرادتها. لطالما رفضت حتى التواجد في نفس الغرفة معه، وكانت نظراتها إليه تحمل نفورًا لا يحتمل.
كان يعلم تلك الحقيقة، ومع ذلك، فإن ما أرعبه لم يكن الحزن المتغلغل في قلبه، بل التغيير.
لماذا تغيرت؟
بدأت تتصرف على نحو لم يكن يتوقعه. تحمل طفلها، تلتقي بالآخرين، تواجهه أخيرًا. وذلك الاختلاف جعله يشعر بعدم الارتياح.
هل سيكون قادرًا على التعامل مع هذا التغيير؟ هل سيتمكن من إبقائها على قيد الحياة؟ هل يمكنه أن يجعلها تتوقف عن الرغبة في الموت؟
أغمض عينيه، لكن الظلال التي كانت تلاحقه لم تختفِ.
“أنا… أعلم أنني مذنبة بحقك، لكن…” “أنت لن تستطيع أن تسامحني، لكن…” “رغم ذلك، لا يمكنك… لا يمكنك التحكم بموتي أيضًا…”
كان هذا الشيء الوحيد الذي أراد منعه.
إذا كانت إيزين ما زالت على قيد الحياة، فلا شيء آخر يهم. لكن كل شيء يجب أن يبقى كما هو.
لكي يضمن نجاتها، يجب ألا يتغير شيء، يجب ألا تخرج عن السيناريو الذي يعرفه.
كليف لم يكن يريد أي متغيرات تهدد تلك “المثالية”. بل لم يكن مسموحًا له حتى أن يرغب بذلك.
حتى وإن كانت تلك المتغيرات إيزين نفسها، المرأة التي لطالما أرادها.
إذن، هذا مجرد اختبار من القدر. إلى أي مدى يمكنه الاحتمال؟ إلى أي مدى يستطيع مقاومة الإغراء، فقط كي يتمكن من حمايتها؟
ثبت عينيه على فنجان الشاي أمامه.
كان البخار ما زال يتصاعد، لكن كما تخبو شعلة الحياة ببطء، بدأ دفء السائل يتلاشى شيئًا فشيئًا.
ظل جالسًا هناك، يراقب بصمت، دون أن يحرك ساكنًا، حتى توقفت الأبخرة عن التصاعد، وحتى برد الشاي تمامًا.
أخيرًا، استرخت أصابعه، وامتدت يده نحو الفنجان، لكنها لم تمسكه.
كل ما فعله هو أن أطراف أصابعه لامست حافة الفنجان في تردد مؤلم. لكنه حتى عن ذلك تراجع، كما لو أنه اقترف خطيئة لا تغتفر.
“لا تختبريني.”
همس بها بصوت بالكاد يُسمع، قبل أن تغرق عيناه في عتمة باردة، وكأنه يستسلم ببطء لدوامة لا قاع لها.
—
حين خرج كبير الخدم من المكتب، وجد نفسه يواجه مأزقًا آخر.
“…”
كانت السيدة إيزين واقفة هناك.
بدت رقيقة المظهر، لكن الرجل العجوز كان يعرف جيدًا أنها لم تكن ضعيفة كما تبدو.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "38"