لو كان الأمر كذلك، لما ألقى الكتاب بتلك الحدة، ولما غادر الأمسية قبل انتهائها.
إن لم يكن كذلك، فما الذي جاء به إلى هناك؟ وإن لم يكن الشعر الغزلي ما يستميله، فما الذي يجذبه إذن؟
كانت إيزين ترغب في التحدث أكثر، لكن نظرة كليف المتجهمة، وكأنها تحذرها بأن كلمة إضافية واحدة قد تكلفها حياتها، جعلتها تعدل عن ذلك.
ومع ذلك، كانت ممتنة. فقد شتّت التفكير في ذوق كليف عقلها عن فوضى الأفكار الأخرى التي تنهشها.
“مر وقت طويل… أيها الرجل.”
رغم تعبيره المتجهم، إلا أن ملامحه المنحوتة ظلت كما هي، وكأن الزمن لم يجرؤ على العبث بها. شعرت فجأة وكأن لقاءها به هكذا، وجهاً لوجه، حدث منذ زمن بعيد.
لكن كليف لم يكن ينظر إليها. أصابعه، التي ألقت بالكتاب قبل لحظات، عادت لتقبض بقوة على المقعد المخملي، كما لو أنه بحاجة إلى شيء يثبّته في مكانه.
“…”
شعرت إيزين بشيء ما خفي في الصمت. أدركت التوتر الذي لم يستطع إخفاءه، وأحست أنه لم يكن قلقه وحده فقط، بل جزء منه كان يخصها أيضًا.
“عندما نعود إلى القصر، سيختفي مجددًا.”
وحتى هذه المسافة القريبة، التي تتيح لها مراقبته بهذا الوضوح، ستتلاشى.
شعرت أن اللحظة التي ستصل فيها العربة إلى القصر ستكون اللحظة التي تتحطم فيها هذه الهدنة العابرة. وعندها، ستعود كل الذكريات التي تحوم في رأسها، تلك الذكريات التي تحاول نسيانها، لتنهال عليها بلا رحمة.
“فقط… القليل بعد.”
إن أرادت تمديد هذه اللحظات قليلاً، أن تبقى هكذا، لا تفكر إلا به، أن تحتفظ بهذه المسافة الصغيرة التي تفصل بينهما قبل أن تتلاشى تمامًا… هل سيكون ذلك أنانية منها؟
لكنها لم تستطع منع شفتيها من التحرك.
“لقد غادرت الأمسية مبكرًا.”
تمتمت، كأنها تبحث عن عذر، رغم أنها لم تكن متأكدة مما إذا كان سيأخذ كلماتها على محمل الجد.
ورغم خفوت صوتها، إلا أن كليف التقطه بسرعة، ورفع رأسه.
“إذن… الوقت المتبقي—”
ترددت للحظة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وأكملت:
“كيف ستعوضني عن الوقت الذي فات؟”
التقت نظراتهما، وبدت عيناه وكأنهما تفاجأتا للحظة.
عندها، كررت:
“عوضني، من فضلك.”
كانت نظرتها صافية، مباشرة، لا تحمل ترددًا.
“لكن، لا زلتِ في خطر. قبل قليل فقط—”
“إذن، هل يعني هذا أنني لن أخرج من القصر مجددًا؟”
قاطعته، بصوت هادئ لكنه ثابت.
“لأنني مريضة؟ هل يجب أن أبقى ممدة على السرير، أنتظر الزوار فقط؟”
“لا، الأمر ليس كذلك…”
فتح فمه ليقول شيئًا، لكنه لم يكمل. فقط حدّق بها بعينيه الداكنتين، نظرة لم تستطع تفسيرها تمامًا، وكأن هناك شيئًا ما يثقل كاهله لكنه لا يستطيع التعبير عنه.
ثم، بعد لحظة، مسح تعابيره كليًا، وسأل بهدوء:
“ما الذي تريدينه؟”
لكن تلك اللحظة القصيرة، حيث ظهرت مشاعره للحظة قبل أن يخفيها، لم تفُتها.
“إيزين، سأعوضك كما تشائين. قولي فقط ما تريدينه.”
“أليس من المفترض أن تفكر أنت في ذلك؟”
خفضت صوتها قليلًا، كأنها تذكّره:
“أنت من أحضرني من هناك.”
عند ذلك، سكت كليف. بدا وكأنه غارق في التفكير، تعابيره خالية من أي انفعال.
ثم، بعد برهة، قال:
“ماذا عن متجر الفساتين؟”
لكنها هزت رأسها.
“لدّي بالفعل فساتين أكثر مما أحتاج، بفضل تلك الجنية التي أرسلتها.”
أومأ كليف برأسه ببطء، مستوعبًا ردها، قبل أن يعود إلى صمته للحظات.
ثم اقترح شيئًا آخر.
“هل هناك صائغ مجوهرات قريب—”
“لا.”
هزّت إيزين رأسها بصرامة. لم تكن ترغب في إهدار هذه الدقائق القليلة في النظر إلى الأحجار الكريمة بدلاً من وجهه.
“ممل.”
بدا أن نبرتها الحادة بعض الشيء أدهشته، وكأنها كانت أكثر حدّة مما توقع. ومنذ تلك اللحظة، التزم الصمت.
تحلّت إيزين بالصبر، تنتظر اقتراحه التالي.
لكنه قدم لها مرة أخرى عرضًا يشبه العروض السابقة، فلم تتردد في رفضه من جديد.
وفي النهاية، بدا أنه استنفد كل خياراته. ظل صامتًا للحظة، غارقًا في التفكير، ثم اعترف أخيرًا بصوت هادئ:
“أنا… لا أعرف الأماكن التي تحبها النساء.”
كان اعترافًا مباغتًا، مسّ شيئًا ما في صدرها بلطف. أصابعه، التي كانت تتحرك بقلق خفيف، تناقضت مع ملامحه المحايدة، مما جعله يبدو وكأنه في مأزق. كادت شفتاها أن تنفرجا عن ابتسامة، لكنها قاومت.
“لا بأس.”
نطقت بهدوء، ثم أضافت:
“أريد أن أذهب إلى المكان الذي فكرتَ فيه. ليس فقط لأنه مكان تحبه النساء، بل لأنك، عندما فكرتَ بي…”
توقفت فجأة. هل بدت كلماتها وكأنها تفرض نفسها عليه؟ تحركت عيناها بسرعة لالتقاط ردّ فعله، لكنها لم تلحظ أي إشارة على أنه انتبه إلى ذلك.
ظل كليف يفكر بصمت للحظة، ثم غادر العربة.
وبعد وقت قصير، عاد.
“هيا!”
مع صرخة السائس القوية، انعطفت العربة في اتجاه جديد.
“إلى أين نحن ذاهبون؟”
“ستعرفين قريبًا.”
انحنت إيزين برأسها، وبدأت تفرد طيات فستانها ببطء، ثم تعيد تشكيلها مرارًا، كأنها تحاول قتل الوقت.
في هذه الأثناء، واصلت العربة طريقها بلا توقف.
“هوووه، هوووه!”
بعد رحلة دامت لبعض الوقت، شعرت إيزين بارتجاج العربة أثناء مرورها على طريق وعرة، قبل أن تتوقف أخيرًا.
سمعت صوت السائس وهو يهدّئ الخيول، ثم رأت كليف يفتح باب العربة ويخرج أولاً.
“إيزين.”
عندما حاولت إلقاء نظرة إلى الخارج، امتدت يد قوية نحوها.
ترددت للحظة، تتأرجح بين الخوف الطفيف والتوقع، قبل أن تمد يدها وتضعها فوق يده.
—
أخذها كليف إلى مسرح صغير.
كان مبنى مكونًا من ثلاثة طوابق، يقع في قلب العاصمة الصاخبة.
على الجانب الآخر من الشارع، كان صبي صغير يصرخ بأحدث الأخبار بينما يرمي الصحف، وكانت أكشاك الباعة تصطف على جانبي الطريق، تكتظ بالحشود التي تتحرك بلا توقف.
لم يكن المكان من النوع الذي يتردد عليه النبلاء عادةً. شعرت إيزين بذلك على الفور عندما ترجلت من العربة، إذ لاحظت كيف كتم الناس أنفاسهم أثناء النظر إليها وإلى كليف.
“سيدي.”
عاد السائس، الذي كان قد تركهم للحظات، واقترب من كليف ليهمس بشيء في أذنه.
“لندخل.”
أومأ كليف برأسه، ثم وضع يده برفق على كتف إيزين، يقودها إلى الداخل.
لم يكن المبنى مزخرفًا، بل بدا أن الأولوية كانت للوظيفة والعملية، لكن المكان كان نظيفًا ومرتبًا بعناية.
ومع ذلك، لم يكن من الصعب ملاحظة أن قلة من الحاضرين كانوا يرتدون ثياب النبلاء. بدا أن المسرح كان مخصصًا لعامة الشعب أو الطبقة الوسطى، وليس لماركيزة مثل إيزين.
“لن نبقى طويلًا.”
كان كليف من لاحظ نظراتها وهي تتفحص المكان، فنطق فجأة بصوت منخفض.
هل كان قلقًا من أنها ستشعر بالإهانة لأنه أحضرها إلى مكان متواضع؟
لكن إيزين لم تقل شيئًا. فقد كانت متأكدة من أن لديه سببًا لذلك، فقررت أن تتبعه بصمت.
وعندما دخلت إلى القاعة حيث ستقام المسرحية، أدركت بسرعة أن هناك شيئًا مميزًا بشأن هذا المكان.
بدلًا من المقاعد التقليدية التي تُقسم حسب الطوابق، انتشرت الطاولات حول المسرح، مما سمح للجمهور بالجلوس والاستمتاع بالمشروبات والحلويات أثناء متابعة العرض. بدا هذا المكان أكثر تحررًا بالمقارنة مع المسارح الأرستقراطية، حيث يُجبر النبلاء على الجلوس بثبات طوال مدة الأداء في مقاعدهم المحددة.
أما المسرح الكبير الذي احتل الجهة اليسرى من القاعة، فقد كان أضخم مما يتوقعه المرء بناءً على حجم المبنى. وبطريقة مدهشة، كان يضم فرقة أوركسترا كاملة بكل عناصرها التقليدية، وكأنها تنتمي إلى قاعة أكبر وأكثر فخامة.
حينما دخلت إيزين إلى القاعة، نهض الموسيقيون من أماكنهم وانحنوا لها احترامًا. لكن ما أثار دهشتها أكثر من تحيتهم كان أن القاعة بدت خالية تمامًا من أي جمهور آخر.
تلفتت حولها بحثًا عن أشخاص آخرين، غير أن ما رأته لم يكن سوى الخدم المنتشرين في أنحاء القاعة، الذين كانوا يتفادون نظراتها ويخفضون رؤوسهم كلما التقت أعينهم بعينيها.
“إيزين.”
ناداها كليف بصوته العميق.
“نعم؟”
لم يجبها، بل قادها بهدوء إلى مقعد فاخر في منتصف القاعة، مواجه مباشرة للمسرح، وجعلها تجلس برفق. لم تستطع إخفاء ارتباكها وهي تنظر إليه، لكنه جلس إلى جوارها بثبات.
“إذًا… نحن هنا لنشاهد عرضًا.”
استنتجت إيزين وهي تحدق في أعضاء الأوركسترا الذين كانوا يضبطون آلاتهم استعدادًا للعزف.
“سيدي، لقد أحضرنا ما طلبتم. إذا احتجتم لأي شيء، ما عليكم سوى قرع الجرس. سيدتي، نتمنى لكِ وقتًا ممتعًا.”
تقدم نادل أنيق يرتدي بدلة رسمية، ووضع أمامهما إبريق شاي يفوح منه البخار وصينية أنيقة من الحلويات. لم تكن إيزين تشعر برغبة حقيقية في تناول الطعام، لكن جودة الحلوى المقدمة كانت من المستوى الذي يليق بأفضل حفلات الشاي الأرستقراطية.
بوجه هادئ خالٍ من التعبيرات، مدّ كليف يده إلى إبريق الشاي. رغم أن يده القوية بدت وكأنها قد تسحق أي شيء، إلا أنه صبّ الشاي في فنجانها بحركة متقنة ودقيقة.
لاحظت كيف تجاهل تمامًا وعاء السكر الصغير المزخرف، ثم دفع الفنجان نحوها دون أن ينبس بكلمة.
عندما رفعت عينيها إليه بدهشة، وجدته يستخدم سكينًا صغيرة، بحجم خنصره تقريبًا، ليقطع قطعة بسكويت إلى أجزاء متساوية تمامًا، دون أن يتناثر منها أي فتات. ثم، دون تردد، مدّ القطع إليها برتابة هادئة، كما لو كان هذا أمرًا طبيعيًا تمامًا.
وما زاد من غرابة الموقف، أنه وضع منديلًا نظيفًا بجانبها، وكأنه يعدّ كل شيء بعناية فائقة.
شعرت للحظة وكأنها طفلة صغيرة، لكنها لم تستطع تجاهل التناقض الغريب في المشهد—رجل مثل كليف، بجسده القوي ونظرته الحادة، يتصرف بخدمة دقيقة ومتقنة لا تتناسب أبدًا مع مظهره.
نظرت حولها بلا وعي، فرأت الخدم المصطفين على طول جدران القاعة. وبمجرد أن التقت أعينهم بعينيها، أداروا رؤوسهم في الحال، وكأنهم يخشون أن يُكشف أمرٌ ما.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "36"