إيزين هزّت رأسها مبتسمة، بينما غمزت فيليوموري بخفة. “الحديقة جميلة جدًا، قد تستمتعين بجولة قصيرة فيها.”
وكما قالت فيليوموري، كانت الحديقة أشبه بلوحة فنية تنبض بالحياة. أخيرًا، سنحت لها الفرصة لرؤية تفاصيلها التي لم تستطع تأملها جيدًا عندما كانت تُسحب على عجل من قبل معلمتها.
نسيم رقيق حمل معه بتلات صغيرة متساقطة، داعبت وجنتها بملمس ناعم، وكأنها لم تكن سوى سراب من حلم. رغم أنها كانت مجرد وهم صنعته تعاويذ السحر، إلا أن الدقة المذهلة في إعادة خلق ملمسها الخفيف في هذا الشتاء القارس أدهشت إيزين.
رفعت بصرها إلى عصفور صغير يغرد على أحد الأغصان، وعندها فقط أدركت كم من الوقت قد مضى. “عليّ العودة الآن.”
لم يكن من اللائق لضيف أن يطيل بقاءه في حديقة بلا صاحب. ولكن حين همّت بالتحرك، هبّت نسمة قوية، حملت معها وابلًا من بتلات الكرز الوردية، فاستدارت لا إراديًا.
وفجأة، تجمدت في مكانها، وكأن روحها تسمرت في جسدها.
تحت شجرة الكرز، وسط زخات البتلات المتراقصة… كان يقف هناك.
المسافة بينهما لم تكن بعيدة، كان بإمكانها أن ترى ملامحه بوضوح. هو…!
“م-ما هذا…؟!”
تراجعت بخطوات مضطربة، فاصطدم ظهرها بغصن شجرة، فتطاير العصفور في الهواء، وصاح بصوت مرتفع. عندها فقط، استدار الرجل ببطء، والتقت أعينهما.
ارتعد قلبها بعنف، فاستدارت وهربت.
لم تكن تملك رفاهية التفكير في أصول اللياقة والأدب في تلك اللحظة. ركضت بأقصى ما تملك، اجتازت الحديقة، شقت طريقها عبر الممر الطويل حتى وصلت إلى القاعة الدائرية التي شهدت جلسة القراءة. توقعت أن تجد الجميع هناك، لكن القاعة كانت خالية تمامًا.
“أين ذهب الجميع…؟”
جالت بعينيها في الأرجاء، فلم تجد سوى منشورات ملقاة هنا وهناك، وبعض بقايا الحلوى والمشروبات.
لو كان هناك أحد ليؤكد لها أنها مجرد هلوسة، لو استطاعت أن تقنع نفسها بأنها تخيلت كل شيء، لربما كان ذلك أهون عليها…
“أغلب الظن أنهم توجهوا إلى المسرح، يوجد منصة خاصة خلف هذه القاعة أعدّتها السيدة المضيفة.”
صوت هادئ نطق خلفها.
أغمضت عينيها بقوة.
“أمور؟”
شعرت بدوار عنيف، وكأن الأرض بدأت تميد تحت قدميها، فاستندت على أحد الأعمدة لتحافظ على توازنها، ثم استدارت ببطء شديد.
“هل أنتِ بخير، آنسة أمور؟”
كان هو.
الصوت العميق ذاته، العيون الذهبية الدافئة، الشعر المنسدل بخفة على جبهته، الملامح الهادئة والتعابير الرقيقة…
نايجل دونوفان.
لم تكن تتخيل. كان بالفعل يقف أمامها.
—
“أمور؟”
عندما رأى أنها على وشك الانهيار، تقدم خطوة نحوها. لكنها ارتعشت وكأن لهبًا مستعرًا اقترب من جسدها.
كان رد فعلها مبالغًا فيه إلى حدٍّ جعله يدرك أن ثمة خطبًا ما. لم يتحرك أكثر، بل رفع يده بهدوء وأشار نحو شيء كان يحمله.
“لقد أسقطتِ هذا، فسمحت لنفسي بإعادته إليكِ… أليست هذه مجموعة القصائد الخاصة بكِ؟”
في كفه المسترخية استقرت مجموعة الأوراق الوردية بعناية، دفترها الذي كانت تحمله في الصالون.
إيزين تقوّست كتفاها، وانكمشت على نفسها كما لو كانت تقف فوق جليد هش.
“كنت بانتظاركِ، الآنسة كروفورد، تفضلي من هنا.”
صوت من الماضي، يد امتدت برفق لتمسك بيدها منذ سنوات…
“أمور؟ هل أنتِ على ما يرام؟”
عندما لاحظ ارتجافها، تقدم خطوة أخرى.
لكنها كانت قد استسلمت للخوف تمامًا. تراجعت بسرعة إلى الوراء، حتى شعرت بجسدها يرتطم بالجدار البارد.
لم يكن هناك طريق للهرب.
محاصرة بينه وبين الجدار، تمامًا كفأر مذعور وقع في المصيدة.
وكأن يدًا خفية تطبق على عنقها، لم تستطع أن تلتقط أنفاسها.
“أمور؟ ما بكِ—”
لكن إيزين لم تمهله، تحرك جسدها قبل عقلها، وهربت مجددًا. ركضت في الممرات دون أن تدرك إلى أين تقودها قدماها، حتى تلاشى صوته من خلفها، حتى اختفت تلك الهالة الثقيلة التي شعرت بها على ظهرها.
لم تعد تشعر بنسيم الحديقة العليل، لم يعد شيء يصل إليها سوى رغبة ملحة في الفرار.
“آه، آنسة أمور!”
عند نهاية الممر، بينما كانت تدور عند الزاوية اليمنى، كادت تصطدم بشخص ما.
توقفت بصعوبة، متشبثة بالجدار حتى لا تسقط. عندما رفعت رأسها، وجدت فتى صغيرًا يرتدي بدلة أنيقة، عقدة الفراشة السوداء تحيط بعنقه، وعيناه الواسعتان تنظران إليها بقلق. كان على ما يبدو أحد خدم الصالون.
“هل أنتم بخير، آنسة أمور؟ هل تأذيتم؟”
أعادها صوته اللطيف إلى الواقع. نظرت إلى الأرض، حيث تناثرت كومة من الريش الأبيض الناعم الذي أسقطه الفتى أثناء تفاديها.
“آه، هذه سدادات الأذن المخصصة للعروض، مصنوعة من ريش صغار الإوز، ناعمة جدًا ومريحة!” ابتسم الفتى بفخر، ثم استطرد: “هل تودون واحدة؟”
لم تفهم سبب الحاجة إلى سدادات الأذن لحضور عرض ما، لكنها لم تكن في حال يسمح لها بالتفكير بذلك.
“لا، لا بأس…”
ما زال نفسها متقطعًا، وكأنها كانت تركض لوقت طويل. حدقت خلفها في الممر المهجور. لا أحد.
هل كنت أتخيل؟
أغمضت عينيها للحظة، تحاول طرد الفوضى التي اجتاحت عقلها. لا، لا يمكن… ولكن لماذا لا يزال جسدها يرتجف؟
حاولت طمأنة نفسها، لكنها عندما فتحت عينيها، شعرت بقشعريرة تهز كيانها. ملامح نايجل كانت تطفو أمامها، تنعكس على وجه الفتى الواقف أمامها، كأنها ظل لا يريد أن يرحل.
لا، هذا مستحيل…
تمتمت داخل عقلها، ثم وضعت يدها على الجدار لتستعيد توازنها.
“آنسة أمور؟ وجهكِ شاحب للغاية، هل أنتم بخير؟”
“أنا بخير…”
أشارت بيدها ببرود، في محاولة لإنهاء الحديث. شاهدته يتردد قليلًا قبل أن يتراجع خطوة إلى الوراء.
عندها، قطع صوت آخر أكثر برودة اللحظة.
“سأتولى الأمر من هنا.”
شعرت بحضور طاغٍ بجانبها، قوته كفيلة بإزاحة أي أفكار أخرى من ذهنها، حتى طيف نايجل تلاشى أمامه.
كان ذلك غريبًا، لكنها شعرت براحة مفاجئة، وكأنها أخيرًا وجدت شيئًا ملموسًا تتشبث به وسط دوامة من الذكريات.
قبل أن تستوعب ذلك بالكامل، شعرت بيد قوية تمسك بها، وبعد لحظة كانت تطفو في الهواء.
أو بالأحرى…
“كليف؟!”
كانت بين ذراعيه، وهو يمضي بها بخطوات واسعة وسريعة.
كيف؟ متى؟ لماذا هو هنا؟
احتاج عقلها وقتًا لاستيعاب الموقف. رفعت رأسها قليلًا، فوقع نظرها على فكه الحاد المشدود. لم يكن ينظر إليها، بل كان يحدق إلى الأمام بعينين باردتين.
مشاهدة ملامحه المتجهمة، وطريقته في المشي—سريعة، حاسمة، غير آبهة بأي عائق قد يعترض طريقه—جعلت قلبها ينبض بعنف.
إنه غاضب…
حرارة كفه المطبقة على ذراعها كانت مختلفة عن لمسته المعتادة. لم تكن تلك اللمسة الرقيقة التي اعتادت عليها، بل كانت أكثر قوة، أكثر حدة.
“لماذا أنت هنا…؟”
تمتمت بصوت ضعيف، لكنه لم يرد. استمر بالسير، كأن كلماتها لم تصل إليه.
وعندما نظرت خلف كتفه، وجدت فيلوموري تقف في الممر، تنظر إليهما بقلق واضح.
لم تكن قد ودعتها بعد، وإن غادرت بهذه الطريقة، فستقلق عليها بلا شك…
“كليف، انتظر، يدك…”
حاولت أن تميل بجسدها قليلًا لتنادي فيلوموري، لتخبرها بشيء، أي شيء، لكن قبضة كليف القوية على ذراعها جعلت حركتها مقيدة. لم تكن قادرة على تحرير نفسها بالكامل، فقط شعرت بضغط يده يخف قليلًا لكنه لم يتركها.
لم يكن حتى ينظر إليها. عيناه كانتا معلقتين إلى الأمام، باردة، ثابتة، كما لو أن وجودها بين يديه لا يعني شيئًا.
كان الصمت بينهما ثقيلًا، حتى بعد أن صعدا إلى العربة التي حملت شعار آل مور، ظل الجو مشحونًا.
كانت إيزين مشوشة. نظرة كليف الغريبة، التي جمعت بين الغضب وكبح شيء ما في داخله، الصورة التي رأتها قبل لحظات، نايجل دونوفان الذي كان يفترض أنه لم يعد من هذا العالم، وحتى عينا فيلوموري القلقتان وهي تتابعهما عن بُعد…
“كليف، هل رأيت ذلك أيضًا؟”
هل رآه؟ هل كان يعلم؟ هل ظهر فجأة ليخلصها من الغرق في هذا المستنقع العميق؟
“لا، لا، لا، لا بد أنني توهمت… أليس كذلك؟ هذا مستحيل، لا يمكن أن يكون… دونوفان كان قد…”
ارتجفت أطرافها، تسلل برد غريب إلى أوصالها، وقبل أن تدرك ذلك، وجدت نفسها مغطاة بدفء مفاجئ.
كليف كان يلف جسدها ببطء ببطانية سميكة، يحرص على أن تحيطها بالكامل، أصابعه تحكم تثبيتها عليها بإحكام، لكنها لم تكن لمسة قاسية، بل كانت… حامية.
في تلك اللحظة، شعرت برغبة لا تُقاوَم في أن تلقي بنفسها بين ذراعيه. أن تخبره، أن تبوح بكل شيء، أن تفرغ مخاوفها، ارتباكها، ذعرها.
لكنها لم تستطع.
لم يكن يحق لهما حتى أن يلفظا اسم دونوفان.
لم يسألها كليف عن شيء. لم ينبس بحرف، وكأن هناك عقدًا صامتًا بينهما، عقدًا يقول: “إذا كنتِ تريدين النجاة من هذه اللعنة، فاصمتي.”
“لقد كان مجرد وهم… مجرد وهم.”
كان عليها أن تهدأ، أن تستعيد نفسها.
“مجرد ذكرى، مجرد ظل استدعته ذاكرتي حين تحدثت مع السيدة فيلوموري… هذا كل ما في الأمر، إيزين، استفيقي!”
“انطلق.”
جاء صوته هادئًا لكنه حاسم.
انصاع السائق للأمر، وبدأت العربة تهتز مع انطلاقتها. عندها فقط، شعرت إيزين وكأنها استيقظت من غيبوبة قصيرة.
“انتظر لحظة، لم أودّع السيدة فيلوموري بعد…”
“فيما بعد.”
كان صوته منخفضًا، لكنه قاطع.
“لكن… لم أتمكن من توديعها…”
“إيزين، قلت فيما بعد.”
وكأن صوته أغلق عليها الأبواب كلها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل "34"