مدّت يدها، وتمكنت من الإمساك بكُمّه، رغم جموده الذي بدا وكأنه تمثال من حجر. عندما رفعت عينيها نحوه، تظاهر كليف بعدم الملاحظة، متجنبًا نظراتها بوضوح.
“إنه مكانٌ يتلون فيه الشعر، سمعتُ أنه الأكثر شهرة هذه الأيام.” “لكن… أنتِ لا تستمتعين بقراءة الشعر أصلًا.” “هذا صحيح، ولكن-“
في الواقع، الكتب التي كانت تجذب إيزين عادةً هي تلك الكتب الفلسفية التي يُقال عنها إنها مملة، حيث الكلمات الرصينة التي تحلل الطبيعة البشرية ببرود. أما الشعر، وخاصةً الغنائي، فقد كان بالنسبة لها شيئًا يبعث على الحرج. لو لم تكن فيلموري هناك، لما فكرت حتى في الحضور.
لكن… كيف عَرف ذلك؟
توقفت إيزين عن الكلام، متفاجئة، تمامًا كما توقف كليف عن تجنب نظراتها للحظة. غير أن عينيه سرعان ما انزلقتا نحو الكتيب الموجود على الطاولة.
[المنظمة: فيفيان فيلموري]
في تلك اللحظة، تغيّرت نظرة كليف، وغامت عيناه ببرود.
“لقد أثار اهتمامي. سمعت أن هناك العديد من السيدات في مثل سني سيحضرن أيضًا.”
ربما شعرت بالحاجة إلى إضافة المزيد من الإقناع، فتابعت حديثها. عندها فقط، عاد وجه كليف إلى تعبيره الهادئ المعتاد.
“اصطحبي طبيبك الخاص معك.” “هذا… حسنًا، موافقة.”
بدت موافقته وكأنها انتُزعت على مضض، لكنها كانت كافية لجعل ابتسامة صغيرة ترتسم على وجه إيزين. لم تلحظ نظراته التي استقرت عليها للحظة قبل أن تختفي.
“إيزين، لا تحتاجين إلى طلبي الإذن.”
تجمدت ملامحها.
“قلتِ إنكِ ستفعلين ما تريدين، أليس كذلك؟ رأيي في الأمر… ليس مهمًا حقًا.”
وجهه كان خاليًا من التعبير، مما جعل من المستحيل عليها أن تعرف إن كان يعني ذلك فعلًا. كأن قناعًا يخفي ما بداخله، يستعصي على الفهم.
ومع ذلك، شعرت إيزين وكأن ريشةً ناعمة قد انزلقت إلى داخل صدرها وذابت هناك، تخفف قليلًا من الإحباط الذي شعرت به قبل لحظات.
“سأذهب الآن، عليّ العودة إلى ساحة التدريب.”
كالعادة، تذرّع بانشغاله. لم تكن هذه الحجة غريبة عليها، لذا اكتفت بإيماءة صامتة.
“إيزين.”
ناداها مرة أخرى.
“نعم؟”
هل يمكن… أن يبقى قليلًا؟ هل لديه وقت لذلك؟
عبق رائحة خشب النورثوود الحلو تسلل إلى أنفها. فكرت في دعوته لشرب الشاي معها، لكن التساؤلات التي تدافعت داخلها كانت كثيرة. هل سيظهر شيء من هذه المشاعر في عينيها وهي تنظر إليه؟
“…….”
بدلًا من الرد، أشار بذقنه إشارة خفيفة. تبعت نظراته، ليقع بصرها على يدها التي لا تزال ممسكة بكُمّه.
“آه….”
سحبت يدها بتردد، ببطء لا يليق بمَن تفاجأ، وكأنها لم ترد التخلي عن لمسته تمامًا. رغم ذلك، لم يتحرك كُمّ كليف بعيدًا كما توقعت. بقي مكانه، كأنه لم يُسحب منه شيء.
توتر خفيف أحاط بهما.
“أخبريهم أن يُعيدوا تسخين الشاي.”
تمتم بكلماته، فاكتفت هي بإيماءة أخرى.
ثم استدار مبتعدًا.
بقيت تراقبه، حتى اختفى من خلف الباب المغلق.
“…معًا….”
خرجت الكلمة من بين شفتيها بعدما غادر، متأخرة كأنها لم تجد طريقها للخروج في الوقت المناسب.
“…هل تشرب الشاي معي؟”
**** “سيّدِي، ماذا عن تدريب اليوم-“ “لاحقًا.”
بسبب جدول التدريب المرهق، كان ليوور يبحث عن كليف في كل مكان، لكنه توقف عن الكلام فور أن رفع كليف يده كما لو كان يمنعه من الاستمرار. وقف ليوور هناك، يراقب ظهر كليف وهو يبتعد عنه كنسمة ريح.
صمتٌ ثقيل خيم على المكان. كان كليف يسير بمفرده في الممر، شفتاه تتحركان بصمت، يتمتم بكلمات لم تصل إلى السمع، لكنه وحده كان يعلم أنها لم تكن سوى شتائم مكتومة.
فيفيان فيليوري، معلمة الإتيكيت لأيزين… كان يعرفها جيدًا، يعرف من تكون بالنسبة لأيزين، وما الذي حاولت فعله. والآن، ستجتمعان وجهًا لوجه. الشخصية التي أيقظت في أيزين إرادة التحرر قد تكون هي ذاتها من سيدفعها إلى إيجاد طريق جديد. وهكذا، ها هو الآن، قد سمح لأخطر شخص بأن تلتقي بها.
أيزين تريد رؤية فيليوري. ترى، هل أدركت ذلك؟ هل شعرت بأن الجدار الذي كنتُ يشيده بكل قوته يوشك على الانهيار؟ هل عرفت أنني، رغم كل شيء، انه ما زال غير قادر على التخلي عنها؟ هل تحاول، مرة أخرى… أن تتحرر مني؟
تشنجت أصابع كليف، قبض يده بقوة كما لو كان يحاول الإمساك بشيء، لكن قبضته لم تحوِ شيئًا سوى فراغ يملؤه قلق يتغلغل في دمه. الدفء الخافت الذي تركته أيزين على كمّ معطفه لم يزل بعد، يضغط بلطف على هوسه المرهق. ربما كان عليه أن يشعر بالامتنان لها لان بسبب لمستها تلك لم يُظهر ضعفه أمامها.
“أيها الأحمق… تتظاهر بأنك تفعل الصواب، بينما لا تملك حتى شجاعة تركها.” خرجت منه الشتيمة أخيرًا، منخفضة كأنها تنهيدة منكسرة. ولكنها لم تكن موجهة إلا لنفسه.
—
كان اليوم هو موعد انعقاد أمسية فيليوري الشعرية.
ارتدت أيزين ثوبًا سماوي اللون من طبقات رقيقة من الدانتيل المتداخل، رفعت شعرها بخفة، ثم ألقت على كتفيها معطفًا أبيض من فرو الثعلب.
“هل تشعرين بالراحة في الحركة؟” سألتها إيميلي وهي تضبط ثنياتها الأخيرة.
أيزين هزت رأسها برفق. الثوب الذي ترتديه من صنع الجان، خفيف وانسيابي، لا يلتف حول قدميها أثناء المشي، مما يجعل حركتها أكثر راحة.
“دعيني أعدل هذا قليلًا.”
بمكياجها الخفيف وشفتيها التي تلونت بلمسة وردية، بدت أيزين أشبه بجنية الشتاء. على رأسها، وضعت حجابًا صغيرًا مزينًا بلآلئ ذهبية، مما جعل إيميلي تتطلع إليها بفخر.
“أنتِ رائعة، سيدتي.”
أقيمت الأمسية في أحد القصور الفاخرة التي تملكها فيليوري. عبر سنوات من تعليمها لآداب النبلاء، جمعت من الذهب ما يكفي لتصبح واحدة من أكثر العازبات ثراءً وتأثيرًا في المملكة.
وبعد أن اعتزلت التدريس، فتحت أحد قصورها ليكون ملتقىً للأرستقراطيين وتلاميذها السابقين، حيث يتبادلون المعرفة والأفكار بحرية في صالون ثقافي.
ومن بين فعالياته، كانت الأمسية الشعرية التي تحمل طابعًا خاصًا: “من ذا الذي يجرؤ على إنكار أن الحب هو أجمل ما في هذا العالم؟”
لم يكن قصر فيليوري ضخمًا مقارنة ببقية قصور النبلاء، لكنه كان حافلًا بالتفاصيل التي جعلته يبدو ساحرًا.
عند المرور بجوار الدفيئة الزجاجية، كانت تغريدات العصافير تتردد في الهواء، وحين يرتفع النظر، تُرى أوراق اللبلاب الخضراء المتشابكة وهي تلتف برقة حول أعمدة عاجية، متدلية منها براعم زهرية صغيرة بلون اللافندر، تهتز مع كل نسمة كما لو كانت أجراسًا تستعد للقرع.
لمسات من العفوية والمرح كانت تتغلغل في كل زاوية، تمامًا كما تعكس شخصية فيليوري ذاتها.
ابتسمت أيزين بخفة، متبعة خطوات المرافق الذي أرشدها إلى القاعة حيث تُقام الأمسية.
ورغم أنها لم تكن خبيرة في الشعر، إلا أنها لم ترد الحضور دون استعداد، فحملت معها ديوانًا صغيرًا يضم مجموعة من القصائد الرومانسية.
ما إن دخلت القاعة حتى أدركت أن الشائعات كانت صحيحة-كانت مزدحمة بالحضور، يملؤون أركانها الثمانية في حيوية لا تخطئها العين.
في كل زاوية متناظرة من القاعة، ارتفعت أعمدة بيضاء شامخة، مما منح المكان مظهرًا مهيبًا. شعرت أيزين ببعض الحرج، فاختارت أقرب عمود لتختبئ خلفه، رغم أنها كانت تدرك جيدًا أن أحدًا لم يلحظ وجودها على الأرجح.
“قبّلني!”
يبدو أن الأمسية الشعرية قد بدأت بالفعل، إذ انطلقت في الأجواء نبرة صوت غنية بالإحساس:
“قبّلني، دعني أُسْكِرُ بروعة شفتيك، هل تدرك أن حبك الحلو يفوق سُكرَ النبيذ؟”
أمالت أيزين رأسها قليلًا، متلصصة على المشهد من خلف العمود. في وسط القاعة، انتُصبَ مسرح منخفض أشبه بمنصة، وقد تحلّق حوله الحضور في ازدحام شغوف.
رغم الحشد الكبير، استطاعت سماع صوت المُلقية بوضوح، وكأن المكان قد صُمّم ليحمل أصداء الكلمات إلى كل زاوية. لم يكن بالإمكان رؤية الوجوه بوضوح، إذ كان الجميع يرتدون بُراقع شفافة، لكن الأصوات كانت واضحة وجلية. أدركت حينها أن القلادة الصغيرة التي وُزعت عند المدخل لم تكن سوى أداة سحرية لتضخيم الصوت.
أما المُلقية، فكانت تغرق أكثر فأكثر في عاطفتها المتوهجة، حتى بدا أنها على وشك الانفجار بالبكاء:
“إن سماع صوتك، بالنسبة لي، أشبه بلمس حبّات الرمان القرمزية… هل تجهل أنها قد تهترئ بمجرد لمسة؟ إن العصير الأحمر المتدفق منها ليس إلا دموع اشتياقي إليك.”
وفي النهاية، انحنت بخضوع، وكأنها تُطيل لحظة الصمت الأخيرة لتذوق أثر كلماتها. كان الأمر دراميًا إلى حدٍ مُربك.
ثم نهضت أخرى من بين الحشد، واتخذت موقعها بحماسة لا تقل عن سابقتها. صوتها ارتفع بحيوية متأججة:
“آه، أيها القاسي! هل تدرك أنني أرى حياتي القصيرة في وهج ابتسامتك؟ أنك تضيء وجودي للحظة عابرة، ثم تختفي؟”
مسحت دموعها بطرف أصابعها، وقد تمايل برقعها عند وجنتيها من شدّة انفعالها. اندلع التصفيق الحار، تلاه هتاف متحمس من الجمهور.
دامت الأمسية قرابة ساعة، ولم تكن القصائد التالية تختلف كثيرًا عن سابقاتها؛ كلها مشتعلة بلهب العاطفة، تتوسل الحب، وترثي الشوق، وتفيض بإحساس متقد. حتى إن حرارة المشاعر بدت وكأنها ترفع درجة حرارة القاعة نفسها، فأيزين، التي بقيت صامتة حتى الآن، تساءلت إن كانت الوحيدة التي تشعر بعدم الاندماج في هذه الأجواء.
بينما كانت تتلفت حولها بفضول، لاحظت للحظة ظلًا كبيرًا يمر خلفها، لكنه ما لبث أن اختفى.
“حسنًا، حسنًا! يا له من أداء رائع!”
ظهر صوت مألوف، ليُعلن عن حضوره فوق المنصة. فيليوري. كانت الوحيدة التي لم تضع برقعًا، ووقفت في وضوح، وجهها يشع بالحيوية.
تألقت خصلاتها الحمراء المتموجة تحت أضواء القاعة، ولوّحت بمروحة ريشية بيدها بحركة استعراضية أنيقة.
“خاصة هناك، أنتما، أيها العاشقان المتألقان!” أشارت إلى فتاتين، إحداهما ترتدي برقعًا قرمزيًا، والأخرى سماويًا. “لقد تألقتما بشغفكما الجارف، واستطعنا جميعًا أن نشعر بمشاعركما حتى هنا!”
ضحكت ضحكة خفيفة قبل أن تتابع:
“إن الجهد الصادق لا يخون صاحبه أبدًا! لذا، لابد أن تُكافآ على هذا الأداء الرائع. سأمنحكما المقاعد الأقرب إلى شاعر الليلة، حيث يمكنكما ليس فقط الاستماع إليه عن قرب، بل تبادل الحديث معه أيضًا!”
“ياااه!”
تعالت صرخات الفرح، وسط تصفيق حار من الحضور الذين لم يستطيعوا إخفاء غيرتهم، رغم احتفائهم بالحظ السعيد للفائزتين.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات