خلع “كليف” سترته العسكرية على الفور ووضعها على كتفي “إيزين”. بقيت نظراته مركزة على الخادم، الذي ارتجف تحت وطأة النظرة القاتلة من سيده.
الخادم، الذي كان مشتتًا تمامًا بكلمات “إيزين”، لم يلاحظ أنها خرجت بملابس خفيفة. وبالرغم من ذلك، كانت كلمات “كليف” تدينه. فقد كان بإمكانه أن يهتم بهذا الأمر بسهولة لو أراد، ولكنه ببساطة اختار أن لا يفعل. فهو لم يكن يرغب في بذل أي جهد من أجل المرأة التي يعتبرها عبئًا على سيده.
“رالف، يبدو أن لديك الكثير لتفسره لي.”
كانت نبرة صوته المنخفضة أشبه بحكم بالإعدام. حتى “إيزين” شعرت بقشعريرة من شدة التهديد في كلماته.
“ليس خطأ الخادم. أنا من أردت ذلك.”
“…؟”
“أردت أن أنتظرك هنا… لأنني لم أعد أراك…”
“كليف” لم يرد عليها ولم ينظر إليها حتى.
بوجه متصلب، قام بتغطية “إيزين” بسترة العسكرية بعناية، ثم شدّ طرفيها بإحكام لتبقى ثابتة، بينما كان البرد الليلي البارد وعبق رائحته العطرية يتسللان من السترة.
“…؟”
ثم، دون أن ينبس ببنت شفة، لفّها تمامًا بأكمام السترة، وشدها كما لو كان يغلف طفلًا صغيرًا. بدت السترة سميكة بشكل غريب وهي تحتضن جسدها بالكامل.
رغم صرامة ملامحه، كانت يده تحمل لمسة حانية، مما جعل “إيزين” عاجزة عن إيجاد الكلمات المناسبة.
“استدعِ الخدم وأمرهم بتحضير مياه دافئة للاستحمام. جسدها تجمّد تمامًا. أشعلوا المدفأة وسخّنوا الغرفة… تبًا لك، رالف. إلى أي مدى يمكنك أن تخذلني؟ هل كان هذا يحدث دائمًا؟”
“لا، لا يا سيدي! اليوم فقط كان خطأ. عندما أدركت وجود السيدة هنا، كنت متفاجئًا للغاية… أعدك أن ذلك لن يتكرر!”
“كليف.”
نادته بصوت منخفض، لكنه بدا وكأنه لم يسمعها. كان يحاول السيطرة على غضبه، ولكن دون جدوى.
“ألم أخبرك أن الوضع ما زال خطيرًا؟ بالكاد استردت عافيتها، وإن سقطت مرة أخرى… لم أكن أعلم أن أذنك أصبحت ثقيلة إلى هذه الدرجة، أو ربما أنك تجاهلت كلامي عمدًا. تبًا، إن كان هذا حالك، فلا أستطيع أن أتصور حال البقية في القصر. مع شروق الشمس…”
“كليف.”
مدّت “إيزين” يدها لتلمس ذراعه. حرارة جسده انتقلت إليها، وتوجهت نظراته الزرقاء الباردة ببطء نحوها، متجاهلة وجه الخادم الذي كان قد شحب تمامًا.
“أنا لست دمية.”
عندما نطقت “إيزين”، توقف للحظة.
“لن أُصاب بالمرض لمجرد أنني استنشقت بعض الهواء البارد، ولن أنهار لأنني وقفت دون مساعدة. أنا لست ضعيفة إلى هذا الحد.”
“…؟”
“ولا أنا قطعة زجاج تنكسر بمجرد أن تُمس.”
قالت كلماتها بلهجة هادئة ولكن حازمة. كان وجهه المتصلب يحدق بها.
“لم أقصد ذلك.”
لأول مرة، بدا على “كليف” الارتباك. تردد للحظة قبل أن يكمل.
“لم يكن هدفي أن أعاملك كدمية… وإذا شعرتِ بذلك، فهذا خطئي بالطبع…”.
الاسف غير المتوقع، جعل إيـزين، ترفع عينيها نحو كليف في صمت.
كان الأمر غريباً. أن يعترف هذا الأسد الأسود بخطئه بهذه السرعة، لم يكن أمراً مألوفاً. بالأحرى، لم يكن هناك خطأ ليتحمّله أحد من الأساس.
“…”
غطى الصمت الأجواء مجدداً، وكأن الكلمات أصبحت عبئاً ثقيلًا بينهما. لم يكن أي منهما يعلم ماذا يقول.
“تباً… لم أقصد ذلك… اللعنة… لماذا أنتِ هنا، في هذا المكان؟”
تناهى إلى سمعها تمتماته الغاضبة بينما رفع يده ليمسح وجهه المرهق بخشونة. بريق الإرهاق الممزوج باليأس كان واضحاً في عينيه، وكأنه يواجه صراعًا داخليًا لا يعرف مخرجاً منه.
إيـزين، دون وعي، مدت يدها نحوه. ولكن قبل أن تصل إليه، التقت عيناها بعينيه عندما رفع رأسه فجأة، وعندها، كما لو أنه وضع درعاً فولاذياً على وجهه، تصلب كالصخر.
“…”
“كليف.”
“عليكِ العودة. لا مكان لكِ هنا.”
شقّ صوته الجاف سكون الليل البارد. لم ينظر إليها مجددًا. تركّزت عيناه بحدة على الخادم، الذي بدا وكأنه يقف في انتظار أوامر محددة.
“أعد زوجتي إلى غرفتها. ونفّذ أوامري السابقة بلا أي تقصير. هذا آخر تحذير، رالف. إنه آخر ما أقدمه من رحمة.”
كلماته خرجت كأنها طلقة إنذار أخيرة.
ثم استدار كليف، خطواته تقطع السكون، وتوارى في أحضان الظلام.
“كلـ…”
ارتجفت شفتاها وهي تحاول نطق اسمه، ولكن صوتها اختنق في حلقها.
عضّت شفتيها بقوة وهي تخفض يدها الممدودة نحوه، مكتفية بتقبّل قسوة الموقف.
“إنه يرحل بسببي.”
لم تستطع اللحاق به. الرياح الباردة التي تسللت من حولها، والظلمة التي احتضنته، منعت خطواتها من التقدم.
“إنه يهرب لأنني هنا.”
حينها، أدركت الحقيقة بوضوح. كليف كان يتجنبها.
“لو كنت أعلم، لما جئت.”
راودها الندم، تمنّت لو أنها لم تقل شيئاً، لم تفعل شيئاً. الشجاعة التي استجمعتها كانت وهماً، سرقت منه راحة لم يستطع نيلها بعد يومٍ شاق.
“دعيني أوصلكِ، سيدتي.”
بدا صوت الخادم مطيعاً، وخضوعه لا تشوبه شائبة. ولكن إيـزين نظرت إليه بمرارة. بدا واضحاً أنه يتجنب عينيها، مثلما فعل كثيرون في قصر عائلة مـور.
“إلى أين؟”
حاولت تهذيب صوتها الذي بدا جافاً، ورفعت رأسها متعمدة أن تحافظ على رباطة جأشها، محاولةً ألا تُظهر جراحها.
“إلى أين ذهب كليف؟”
“لا أعلم، سيدتي. أعتذر.”
انحنى الخادم وهو يجيبها، وكأنه يحاول النجاة من غضبها المحتمل.
“انهض.”
التفتت إيـزين بعيداً، محاولةً مقاومة رغبتها في النظر إلى الظلام الذي ابتلع كليف.
“اذهبي.”
لكنها، قبل أن تخطو خطوتها الأولى، لم تستطع مقاومة النظر للمرة الأخيرة إلى حيث اختفى. كان في عينيها بقايا لومٍ عابث، كأنها تجهل حدودها وتسمح للأمل الواهن أن يتسلل.
—
“سيدتي! يا إلهي، متى خرجتِ؟ هل تدركين كم كنتُ مرعوبة؟”
بسبب مغامرة زوجة الماركيز، أضاءت أنوار قصر مور الساكن في ساعة متأخرة من الليل. تحولت الطابق الثاني، حيث تقع غرفة إيـزين، إلى خلية نحل، وكأن الليل قد تخلى عن سكينته. قام الخادم، بخبرة متقنة، بإيقاظ الخدم وتوزيع الأوامر: تجهيز ماء الاستحمام، إحضار الحطب لإشعال الموقد، وحتى استدعاء طبيب العائلة، الذي أُخرج من نومه العميق، لفحصها.
“… لا يبدو أن هناك أي مشكلة خطيرة.”
قال الطبيب متلعثمًا، وهو يمسح عرقه. لم تكن إيـزين تعلم أن هناك طبيبًا آخر مقيمًا في القصر، فقد كانت تعتمد دائمًا على طبيب القصر الملكي.
“من الطبيعي ألا تعلمي، سيدتي. طبيبك الخاص دائمًا هنا، لكنه بالطبع لا يرقى لمستوى طبيب القصر. مهما بلغت مكانة حضرة الماركيز، لا يمكن أن يحتفظ بطبيب الملك هنا طوال الوقت.”
قالت إميلي، بنبرة ودودة، وهي تُطمئنها. إميلي كانت واحدة من القلائل الذين يتعاملون مع إيـزين دون رهبة، ولم يظهروا أي خوف تجاه كليف.
“سيدتي، ماء الاستحمام جاهز.”
اقتربت إحدى الخادمات لتعلن بهدوء، دون أن تجرؤ على النظر إلى إيـزين مباشرة. لاحظت إميلي هذا التصرف، وكانت تعرف جيدًا ما يدور في أذهان الجميع. تصرفات زوجة الماركيز الغريبة وتحذيرات الماركيز القاسية لم تكن جديدة على أحد.
لكن، هما يحبان بعضهما… أليس كذلك؟
تذكرت إميلي اللحظات التي رأت فيها إيـزين تناديه بلهفة، والماركيز يحتضنها وهو يحملها بهدوء إلى غرفتها. إميلي كانت الوحيدة التي تؤمن بنقاء مشاعرهما، على عكس بقية الخدم، الذين لم يروا في الماركيز سوى رجل صارم يخافون غضبه، خاصة عندما يتعلق الأمر بإيـزين.
“سيدتي، من هنا، من فضلك.”
رأت إميلي يد الخادمة التي كانت ترتجف وهي تقود إيـزين إلى الحمام. زفرت إميلي تنهيدة طويلة.
الأجواء في القصر بدأت تتحسن منذ أن استيقظتِ، لكن الآن…
الكل كان يشعر أن الأمور ستعود كما كانت: الصمت الثقيل، الغضب المكبوت، والخوف الذي يتسرب بين جدران القصر. الطفل الصغير، الذي كان ثمرة حب الماركيز وزوجته، كان الوحيد الذي يبث الحياة في أرجاء القصر الموحش.
لا يمكن أن أسمح بذلك.
حركت إميلي رأسها بعزم، ثم شمرت عن ساعديها استعدادًا للتصرف.
“سأتولى أنا الاهتمام بسيدتي في الحمام. قومي أنتِ بتجهيز الأمور في الخارج.”
“حقًا يا إميلي؟”
الخادمة بدت وكأنها على وشك الانفجار من الامتنان، وغادرت بسرعة، وكأنها قد نجت للتو من محنة. كانت تخشى أن تؤذي إيـزين عن طريق الخطأ، ما قد يجلب غضب الماركيز عليها.
“سيدتي؟”
عندما دخلت الحمام، رحب بها جمال الرخام الفاخر، حيث انعكست الأنوار الساطعة وكأنها تحاكي ضوء النهار. كانت إيـزين تجلس في حوض الاستحمام المصنوع من العاج الأبيض، نصف جسدها مغمور في الماء، وخصلات شعرها الذهبي تنسدل بلطف أسفل ظهرها النحيل.
تحت الضوء الساطع، بدت تلك الخصلات المبتلة حزينة بطريقةٍ ما، كأنها تخفي خلفها كل الآلام التي لم تُقال.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات