كل يوم، كانت إيزين تُجبَر على الاعتياد على العناية المفرطة التي غلفت بها من طاقم قصر آل مور الذي يخدمها وكأنها كنزٌ ثمين يخشون أن ينكسر.
مائدة تزدان يوميًا بعشرات الأطباق الفاخرة التي ابتكرها الطاهي بمهارة لا تضاهى، تُحمل إليها بترفٍ مبالغ. وبين يدي إيميلي تأتي أعشاب طبية نادرة، ووصفات سحرية غريبة، تزعم دائمًا أن مصدرها هو كليف.
لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ اللون يعود إلى وجهها الشاحب، وبدأت أطرافها التي كانت بالكاد تتحرك تستعيد قوتها شيئًا فشيئًا.
ومع ذلك، لم تستطع رؤية كليف.
“صاحب السمو غادر مبكرًا إلى القصر الملكي، فقد استدعاه الملك.” “عاد في ساعة متأخرة من الليل، لكنه خرج فورًا إلى المقاطعة بعد أنباء عن ثورة هناك.” “إنه خارج القصر، يناقش خطط المعركة القادمة مع الجيش.”
دائمًا ما كان غيابه مبررًا بعذر جديد، وكأن تنوع هذه الأعذار ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها.
كانت إيزين تكتفي بهز رأسها، تكبت تعابيرها وتحاول بجهد ألا تُظهر خيبة أملها. فهي تعلم أنها بالنسبة له ليست سوى زوجة مثيرة للمتاعب، مصدر للصداع، وكأنها حمل ثقيل لا يُطاق.
هي التي كادت تموت وغابت عن وعيها لأشهر، لتفيق فقط لتطلب مزيدًا من اهتمامه. واقعٌ مرير لم تستطع إنكاره، ولم تجد حجة لدحضه.
لم يكن أمامها سوى الانتظار. لحسن حظها، أصبحت الأيام المتكررة أخف وطأة بفضل الروتين الذي أضفى لمسة من الجمال على حياتها.
الحفل الموسيقي الصغير، الذي ظنت أنه لن يتكرر، أصبح رفيقها الدائم. أينما ذهبت، كانت النغمات تزين لحظاتها وتُضفي عليها سحرًا خاصًا، خصوصًا تلك التي تُعزف بينما تضم طفلها.
تعود الطفل اللحن الهادئ سريعًا، ليغفو بين ذراعيها بسلام.
كانت إيزين تحتضنه، تلامس خصلات شعره الصغيرة التي تداعب وجهها، وتطبطب على ظهره حين يبكي. كل لحظة معه كانت جديدة، كأنها تجربتها الأولى مع الحب.
في قصر آل مور، حيث تدور الحياة حول سيدة القصر المستفيقة من سباتها الطويل، لم تكن الموسيقى سوى جزء صغير من المشهد.
“سيدتي، ماذا لو قمنا بنزهة في الحديقة؟ الأزهار الآن في ذروة تفتحها.”
الحديقة، التي خضعت لتجديد شامل، باتت تضاهي حدائق القصر الملكي بجمالها وروعتها.
في حياتها السابقة، لم تكن الحديقة بهذا الاتساع، أو ربما لم تلاحظ ذلك.
هناك بركة واسعة تكفي لإبحار قارب صغير، وجسر خشبي يربط بين جزيرتين صغيرتين، ودفيئة زجاجية تعج بالنباتات النادرة. أزهار الأنيمن، والروذبيكيا، والستاتيس، وغيرها من الأنواع التي لم تسمع بها من قبل، تنتشر في كل زاوية.
حتى وسط حيرتها، لم تستطع إلا أن تعترف بجمال المشهد الذي بدا وكأنه لوحة فنية متقنة التفاصيل.
“سيدتي، هل تودين زيارة معرض الصور في الجناح الملحق؟ إذا رغبتِ في الرسم بنفسك، لدينا ألوان مصنوعة يدويًا من زيوت الأعشاب، بدلًا من تلك التي قد تضر بصحتكِ. كما أن هناك قماش أبيض ينتظركِ، مع مكان مريح خصصناه لكِ.”
كان القصر يعج بالفن، من اللوحات التي تزين الممرات إلى الأعمال الفنية المعلقة في الصالة الكبرى. حتى الجناح المخصص للرسم، بتصميمه الراقي، بدا وكأنه ينتمي لفنان عظيم.
كل زاوية كانت تتوسل حضورها، وكأن القصر بأسره يسعى ليكون ملاذًا يتجاوز حدود الزمان والمكان، حيث تُنسج الأحلام ويَهدأ الألم.
“سيدتي، ما رأيك بمشاهدة عرض سيرك؟ إنه من أشهر فرق السيرك الرائجة حاليًا في العاصمة. لا تقلقي، فقد أزلنا مسبقًا جميع الفقرات الخطيرة والسحرية.”
وفي باحة قصر آل مور، أقيم عرض سيرك كامل، بجميع تفاصيله وإبداعاته، لتكون إيزين الجمهور الوحيد.
“سيدتي، ماذا عن المسرح؟ لدينا عرض مقتبس من مسرحية برونتي، التي استمتع بها الملك نفسه. إنها حديث المدينة هذه الأيام!”
وفي قاعة القصر الكبرى، أُقيمت مسرحية شهيرة، هي الأخرى فقط لإيزين، الجمهور الوحيد.
“ما هذا بحق السماء؟”
وسط هذا التدفق الهائل من الأحداث المتنوعة، التي كانت تتبدل يوميًا كعاصفة لا تهدأ، وجدت إيزين نفسها عاجزة عن استيعاب كل شيء.
الطبيب، الذي كان صارمًا ودقيقًا إلى حد مبالغ، لم يعلن بعد تعافيها التام. لذلك، لم يكن بإمكانها مغادرة القصر خطوة واحدة.
ولكن مع كل ما يحدث داخل هذا المكان، لم تشعر برغبة في المغادرة على الإطلاق.
قصر آل مور، على ضخامته، كان نابضًا بالحياة إلى حد مذهل. وإذا تعمقت أكثر في تفاصيله، فقد يبدو هذا النشاط وكأنه أقرب إلى هوس.
كأن العالم بأسره يجب أن يُجلب إليها هنا، وكأن كل ما هو خارج القصر يجب أن يُعرض أمام عينيها، وكأن هذا المكان يجب أن يُعيد إليها أنفاسها المسلوبة.
—
“ربما يتجنبني.”
غياب كليف المتواصل لم يكن سوى دليل يدعم فرضية بدأت تنمو في عقلها. فرضية مبنية على أدلة منطقية جدًا.
“لماذا؟”
سألت نفسها.
“لماذا يتجنبني؟ لماذا لا يريد أن يراني…؟”
لكن تفكيرها توقف هناك. شعرت، بغريزة خفية، أن المضي قدمًا في هذا الخط من التفكير سيهزها بشدة.
“قلت إنني أريد التغيير… لكن ربما كان مجرد تفكير أناني يريحني أنا فقط.”
كان عليها أن تعترف. قراراتها، سواء في الماضي عندما أنهت كل شيء بمفردها، أو في الحاضر وهي تبدأ كل شيء من جديد، لم تأخذ إرادة كليف بعين الاعتبار.
“لكن… أحتاج أن أراه أولًا، أليس كذلك؟ لأعرف إذا ما كنت سأجرؤ على السؤال أو لا.”
ومع ذلك، عرفت في أعماقها أنها حتى لو رأت وجهه، فإن الشجاعة لطرح أسئلتها لن تكون هناك. مجرد النظر إلى ملامحه الباردة سيجعلها تنهار أو تتجمد في مكانها.
“آه…”
تنهدت إيزين بعمق، وأسندت ذراعيها على إطار سرير الطفل، ومالت برأسها قليلاً.
“يا صغيري…”
مدت يدها لتلمس يد الطفل النائم برفق وهمست،
“متى سيعود والدك؟”
“…”
“الانتظار صعب، أليس كذلك؟”
لم يجب الطفل، بالطبع. لكنه كان يحرك شفتيه وكأنه يحلم بشيء جميل. تأملت ملامحه البريئة، وارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة دافئة.
“ليته يعود قريبًا…”
أغمضت عينيها ببطء، مستسلمة لثقل الانتظار.
في عتمة الليل العميق، دخل شخص إلى الغرفة بخطوات صامتة.
عيناه الزرقاوان تجوّلتا في المكان لتستقرا على الطفل، ثم لاحظتا إيزين، التي كانت قد استسلمت للنوم وهي تتكئ برأسها على إطار سرير الطفل في وضعية غير مريحة.
“قلت لهم أن يتأكدوا من راحتها.”
همس بتذمر خافت، عاتبًا على الخدم الذين تركوها على هذه الحال. لكنه كان يعلم، في أعماقه، أن السبب وراء مجيئها إلى غرفة الطفل بدلاً من النوم في غرفتها هو هو ذاته.
“…”
تعابير وجهه، التي غالبًا ما تكون جامدة وباردة، اتخذت لأول مرة ظلًا من النعومة. اقترب منها بحذر، مترددًا بين خطواته. يداه امتدت برفق، وكأنها تخشى أن تزعجها، ورفعها بحذر لتستقر بين ذراعيه.
كانت صغيرة للغاية، وضعيفة إلى درجة تُثقل عليه حملها. هذا الإدراك، كعادته، أثار في داخله شعورًا بالخوف؛ كأنه يمشي على حافة هاوية، يعلم أن أي خطوة خاطئة لن تُسقطه هو، بل ستُسقطها هي.
“أمم…”
تحركت إيزين قليلًا عندما وضعها على سريرها في غرفة النوم.
بصبرٍ لافت، عدّل كليف وسادة رأسها، ثم سحب الغطاء ببطء ليغطيها بالكامل، متأكدًا من عدم ترك أي جزء مكشوف للهواء البارد. كان يبطئ حركاته عمداً، وكأنه يريد أن يمدد هذه اللحظات ما استطاع.
“…”
لكن، ككل لحظة سعيدة، لم يكن بإمكانه إطالتها إلى الأبد. وقبل أن يغادر، سمح لنظره أن يتجول بهدوء على وجهها النائم. ملامحها البيضاء، وعينيها المغلقتين، والابتسامة الرقيقة التي ارتسمت على شفتيها، كل ذلك منحه طمأنينة خافتة.
كانت تلك الطمأنينة البسيطة، تأكيدًا على أن وجوده لا يعكر صفو راحتها، رغم كل شيء.
انجذب بصره إلى خصلات شعرها الذهبية المتناثرة على جبينها. يده امتدت دون وعي، لكنها توقفت قبل أن تلمسها، مترددة كعادتها، ثم انسحبت بهدوء.
—
إيزين التي كانت تحلم.
كانت تشعر بدفء حنون يلفها، وبرائحة خافتة من المسك تلامس أنفها.
“كليف؟”
أرادت أن تفتح عينيها، أن تتحقق من صاحب هذا الحضور القريب، أن تعرف إذا ما كان هو. لكنها شعرت بالرائحة تبتعد تدريجيًا.
“لا… لا تذهب…”
لا تتركني، كليف. ابقَ هنا، بجانبي. لا ترحل عني. لا تمت، لا تغادر.
وفجأة، تبدلت رؤيتها.
الريح العاصفة اجتاحت الغرفة، والبرد تسلل إلى عظامها. تقدمت بخطوات ثقيلة على الأرض المبللة. شعور رهيب من القلق كان يطوق صدرها.
“لا تذهب أبعد… لا تجعلني ارى ذلك…”
لكن عينيها سقطتا على بركة من الدماء الحمراء. رفعت رأسها ببطء، لترى ضوءًا ساطعًا يخترق صدره…
“لااااا!”
تململت في نومها، ودمعة انزلقت من زاوية عينها.
أرادت أن تمد يدها نحوه، أن تتشبث به، لكنها كانت عاجزة، وكأن قدميها تجمدتا في مكانها. حاولت التحرر من قيد كابوسها، لكن رائحة المسك أصبحت أكثر خفوتًا، وكأنها تبتعد عنها.
“لا تذهب، كليف… أرجوك، لا تذهب…”
وجهها، الذي كان يعكس هدوءًا وابتسامة، أصبح متوترًا ومنقبضًا، وكأنها تعيش الكابوس بكل جوارحها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات