رددت السيدة العظيمة الاسم بتردد، وكأنها تحاول أن ترسمه في ذاكرتها. لم تكن تتذكر حتى اسم أقرب خادمة إليها. أومأت برأسها برتابة وكأنها تستوعب الآن.
“لكن، الطبيب قال إن سيدتي بحاجة إلى الراحة المطلقة. هل تشعرين بالدوار؟ لقد رأيتكِ تتمايلين منذ قليل. هل يؤلمكِ رأسك؟ أيمكنني استدعاء الطبيب مجددًا-“
“إيميلي، توقفي عن البكاء. سيدتكِ لا تريد أن ترهقيها بدموعكِ وأسئلتكِ المتكررة. عليكِ أن تكوني يقظة، تستشفين حالتها قبل أن تسألي.”
جاء الصوت صارمًا ليقطع تيار كلام إيميلي المرتبك. كان ذلك صوت مربّية الطفل، ممتزجًا بحدة تقريع ثقيلة تسكن نبرتها، رغم همسها باسم الخادمة.
“نعم، سيدتي ماري.”
استدارت السيدة العظيمة نحو المربية. كان وجهها الذي حفر الزمن عليه آثاره مألوفًا بطريقة دافئة. أدركت أنها كانت المرأة التي أحبّت طفلها كأنه طفلها هي، والتي بذلت كل ما في وسعها لتعوض غيابها.
مدت يدها لتمسك بيد المربية.
“سيدتي؟”
شهقت المربية بخفوت، وقد تملكتها الدهشة من هذا التصرف غير المتوقع. لم يكن مألوفًا أن تبادر سيدة نبيلة بلمس أحد بخدمتها بتلك العفوية.
“شكرًا.”
كانت الكلمة همسًا، لكنها وصلت بوضوح إلى أذن المربية.
“شكرًا، حقًا.”
لقد كانت كلمات أرادت أن تقولها منذ زمن بعيد. أن تعبر عن امتنانها.
لمن احتضن طفلها بحب، لمن فهم آلامه وساعده على تجاوزها، لمن كان لها امتدادًا حين لم تستطع الحضور.
“يا سيدتي، هذا كثير علي.”
ردت ماري بصوت مخنوق تأثرت فيه بعاطفة جياشة. انحنت باحترام وأضافت: “سأواصل جهودي لأكون جديرة بثقتك، وسأحرص على رعاية الطفل بكل ما أملك.”
“وأنا أيضًا!” اندفعت إيميلي ببراءة وانحنت بدورها. “سأفعل كل ما بوسعي لأعتني بكما أنتِ وسيدي الطفل!”
نظرت السيدة العظيمة إلى المرأتين الراكعتين أمامها. كانتا طيبتين بصدق، قلوبهما مفعمة بالوفاء. ولكن عينيها عكستا ظلال حزن خافت. لماذا لم ترَ هذا من قبل؟ لماذا قضت وقتها ببناء الجدران، تنفي الآخرين بعيدًا عنها؟ أكان سيختلف شيء لو سمحت لنفسها بالاقتراب؟ لو لم تستسلم للغضب والألم اللذين التهماها ببطء؟
فجأة، قطع تفكيرها صوت بكاء صغير.
“وااااه!”
توجهت عيناها نحو الطفل الذي بدأ يتململ في سريره، أطرافه الصغيرة السمينة تتحرك بانزعاج. كانت عيناه تمتلئان بالدموع، على وشك أن يطلق صرخاته العالية.
مدت يدها إليه بلا وعي، ثم توقفت فجأة في منتصف الحركة. تجمدت يدها في الهواء، وكأن حاجزًا غير مرئي منعها من الاقتراب أكثر.
كانت تحدق به بصمت، ويدها المعلقة في الهواء تعبر عن انقسام عميق داخلها. لم تستطع المضي قدمًا. الطفل ازداد انزعاجًا وبكى بصوت أعلى. انعكست الكآبة على ملامح وجهها أكثر.
“لا جدوى.”
همست لنفسها بصوت غير مسموع. لم تكن قادرة على لمسه، على حمله أو تهدئته.
لقد كان الأمر أشبه بعادة راسخة: أن تتحرك نحوه، ثم تتذكر فجأة القيود التي تكبلها، فتتوقف في منتصف الطريق، مستسلمة لعجزها.
“سيدتي؟”
كانت المربية قد لاحظت تصرفات السيدة الغريبة. اقتربت بسرعة وحملت الطفل نيابة عنها، معتقدة أن خوفها وترددها ما هو إلا تعبير عن قلة خبرتها كأم حديثة.
قالت بلهجة مطمئنة: “هل أردتِ حمله؟ لا تقلقي، سيكف عن البكاء قريبًا. لا داعي لأن تحزني بهذا الشكل.”
ثم، بحذر شديد، قربت المربية الطفل من السيدة ووضعته بين ذراعيها.
وأضافت بابتسامة خفيفة: “أعلم أنه في هذه الفترة قد تشعرين بالقلق لمجرد رؤية تقطيبة صغيرة على وجهه. لكن صدقيني، ستعتادين. الأطفال يبكون كثيرًا، وطفلكِ لن يكون استثناءً.”
“انتظري… لا! لحظة واحدة!”
صرخت السيدة، وكأنها تخشى وقوع كارثة. كانت مقتنعة أن يديها الشفافتين العاجزتين لن تتمكنا من حمل الطفل، وأن جسده الصغير سيسقط من بين ذراعيها مباشرة إلى الأرض.
“سيدتي؟”
لكن، على عكس توقعاتها المرعبة، لم يحدث شيء. شعرت بوزن خفيف، لكنه ملموس، يملأ ذراعيها. كان الطفل بين يديها بالفعل، ولم يكن هناك أي خطر.
يدها اليسرى كانت تسند أرداف الطفل الممتلئة، بينما يدها اليمنى تربت بلطف على ظهره الصغير. تدخلت إيميلي بسرعة، ووقفت خلف السيدة لتساعدها على تثبيت وضع يديها بشكل صحيح.
“سيدتي؟”
رائحة الطفل الدافئة، الممزوجة بعبق الحليب الطازج، ملأت أنفها. تلك اللحظة، حين شعرت بوجود حياة صغيرة تحتضنها، كانت كالحلم الذي صار حقيقة، وأثقل قلبها بمزيج من الدهشة والحنين.
همست، بصوت يكاد لا يُسمع: “طفلي…”
أدركت الآن السبب الحقيقي لترددها في حمله طوال هذه المدة.
“كنت أعلم أنني إذا حملتك، فلن أستطيع النسيان. كيف لي أن أنسى دفء حضورك؟ كيف لي أن أنسى عينيك البريئتين أو رائحتك التي تملأ قلبي؟ كيف أتركك وأرحل؟”
كانت تعرف أن حمله سيقلب كل شيء، سيهدم كل محاولاتها في الهروب من مشاعرها.
“طفلي… طفلي الصغير…”
شدته أكثر إلى صدرها، وكأنها تريد أن تحميه من العالم بأسره. حرارة جسده الصغير تغلغلت في أعماقها، ملأت فراغات كانت تظن أنها لن تُملأ أبدًا.
كان قد توقف عن البكاء، لكنها لم تستطع التوقف عن التربيت على ظهره. وكأنها تريد أن تحتفظ بتلك اللحظة إلى الأبد.
“لو كان للأبدية أن تمنحني شيئًا… لطلبتُ أن تُخلد هذه اللحظة معك. هل تعرف، صغيري، كم تمنيتُ هذا؟”
انحنت لتلامس شفتيها شعره الناعم، ثم همست: “لن أتركك مرة أخرى… أعدك.”
بلا وعي، سقطت دمعة من عينيها، لتلامس يده الصغيرة. سارعت بمسحها، وابتسمت وهي تهمس مجددًا: “لن أتركك أبدًا.”
كانت إيميلي تقف بجانبها، وقد غلبتها الدموع. فاستخدمت طرف كمها لمسح أنفها، بينما المربية ماري كانت تدير وجهها، تمسح عينيها بمنديلها.
—
مرت لحظات لا تعرف كم استغرقت. الطفل الآن كان نائمًا بسلام، وقد أُعيد إلى سريره الصغير.
غطته السيدة ببطانية ناعمة كالأجنحة، وأبقت يدها للحظات تربت على صدره بلطف.
سألت إيميلي بصوت مخنوق من التأثر: “سيدتي… ماذا سيكون اسم الطفل؟”
بينما كانت إيميلي تحاول إخفاء أنفها الأحمر من شدة التأثر، بادرت بالكلام بصوتٍ متلعثم. لكن صوتها المكتوم لم يخفَ عن المربية، التي ناولتها منديلاً وهي تقول:
“الآن، بما أن سيدتي قد استيقظت، يمكننا أخيرًا أن نطلق اسمًا حقيقيًا على الطفل. هل فكرتِ باسمٍ له، سيدتي؟”
كانت إيزين تعرف الاسم مسبقًا.
إيان، إيان مور.
كان ذلك الاسم الذي اختاره كليف للطفل بعد رحيلها. لكنها فوجئت بأن الطفل، وقد تجاوز عمره الثلاثة أشهر، لم يُمنح اسمًا حتى الآن. سألت، وعلامات الدهشة بادية على وجهها:
“ألم يختر كليف اسمًا له؟”
“حضرة السيد؟ لا، لم يقل شيئًا بهذا الخصوص. كنا نتساءل في حيرة: ماذا نفعل؟ لم يكن بإمكاننا الاستمرار في مناداته ‘الصغير’ فقط.”
أجابت المربية بتنهيدة قبل أن تضيف: “ربما كان منشغلًا بحالتكِ، سيدتي. كان دائمًا بجانبكِ، ولم يكن لديه الوقت للتفكير في أي شيء آخر، حتى اسم الطفل.”
“بجانبي؟”
كررت إيزين كلمات المربية بدهشة.
“بالطبع، سيدتي. لا أعتقد أن طبيبًا معروفًا في هذه البلاد إلا وقد مرّ من هنا. بل إنهم استدعوا أشهر الأطباء في القارة بأكملها. كان كل شيء يُنفذ بأمرٍ مباشر من السيد كليف. تكلفت بعض العمليات مبالغ خيالية، تُعادل شراء مملكة صغيرة، لكن لم يكن يهتم بالتكاليف.”
هزّت إيميلي رأسها بأسف وهي تتابع: “كان يقول: ‘لا تدّخروا شيئًا، أحضِروا كل ما يمكنكم’. لكن رغم ذلك، لم يتمكن أحد من فهم سبب عدم استيقاظكِ.”
“إيميلي، توقفي!”
قاطعتها المربية بلهجة صارمة. لم تكن ترى من المناسب أن تتحدث الخادمة بمثل هذه التفاصيل أمام السيدة.
لكن إيميلي أضافت، بخوفٍ واضح: “كان الوضع مرعبًا. لم يجرؤ أحد على الاقتراب من السيد. بدا وكأن العالم سينتهي إذا لم تستيقظي.”
“إيميلي!”
جاء صوت المربية أعلى هذه المرة، مما جعل إيميلي تصمت. لكن إيزين، رغم صمتها، شعرت بالتأثر بسبب كلمات إيميلي، وكأنها أعادت رسم صورة لما حدث.
“هل كنتَ خائفًا، كليف؟”
حاولت تخيل ملامحه وهو يجلس بجانبها، ولكن دون جدوى. لم تستطع إلا أن تستدعي صوته الذي كانت قد سمعته منذ لحظات:
“حتى لو متِّ، لن أتركك.”
تذكرت تلك النظرة في عينيه، وتلك القوة التي بدت وكأنها تهدد بكسر كل شيء، حتى نفسها.
“لم تتغير، أليس كذلك؟”
ما زال نفس الشخص، القوي والعنيد، الذي لا يعرف سوى السيطرة والفرض. لطالما شعرت بأنه كان يخنقها، يكسر أجنحتها واحدة تلو الأخرى.
لكن الآن، كانت ترى الأمر بمنظور مختلف.
“لم يكن يعرف طريقةً أخرى.”
كيف يمكن لرجل أمضى نصف حياته في ساحات القتال، يخنق أنفاس أعدائه لينجو، أن يتعلم أسلوبًا مختلفًا؟ كيف يمكن لرجل قضى النصف الآخر من حياته يصارع عداوات العالم أن يرى الحياة بمنظور مختلف؟
تذكرت القلادة التي سقطت من يده. ذلك البندنت القديم الذي احتفظ به لعقود، يحمل صورة باهتة لها.
عرفت أنها لم تكن أبدًا “لا شيء” بالنسبة له. عرفت أنه، بأسلوبه الخاص، بذل كل جهده لحمايتها هي وطفلهما. حتى لو كان ذلك يعني أن يظل حبيسًا في ظلام نفسه إلى الأبد.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات