رمشت إيزين بعينيها، مدركة أن مظهرها يبدو مشوشاً، لكنها لم تستطع منع نفسها من التأمل في المشهد أمامها. سرير أبيض، أغطية بيضاء، جدران مزخرفة ولوحات أنيقة…
إنه غرفتها. لا تزال في غرفتها.
لكنها لم تعد الغرفة ذاتها التي غمرتها الأمطار وظللتها الكآبة، حيث جثا هو بينما كانت برودة الموت تحتل جسده. الآن، غمر ضوء الشمس المكان، وتناهت إلى أذنها أصوات تغريد الطيور التي بدت غريبة عنها. لم تكن هناك أي آثار للدماء أو البرك الحمراء، ولا حتى… هو.
“هل تشعرين بتحسن؟ هل تعرفينني؟”
“أنتِ… ديا؟ هذا المكان هو…؟”
“إنه غرفة نومك، سيدتي. هل تتذكرين شيئاً؟ هل تشعرين بدوار؟”
كانت الأسئلة تنهمر بلا توقف، صوتها المتلعثم يحمل قلقاً واضحاً ولمسة من الحنان لا تخفى.
“هل تذكرين أنك أغمي عليكِ بعد ولادة الطفل؟ لقد كنتِ نائمة، سيدتي. نائمة لمدة ثلاثة أشهر كاملة. حتى أطباء القصر لم يعرفوا السبب، ولم يكن بوسعنا سوى مراقبتكِ وانتظار استيقاظكِ…”
استدارت إيزين ببطء لترى ديا، التي كانت دموعها تسيل بغزارة. كان وجهها مألوفاً، وفي أعماق ذاكرتها الغائمة وجدت إيزين شظية من ذكرى تربطها بها.
“كم كنتِ تعانين… سيدتي المسكينة. لو أنني فقط اعتنيت بالصغير بشكل أفضل… كله خطئي. أرجوكِ سامحيني يا سيدتي.”
كانت ديا تبكي وهي تمسك بمنديلها، وجهها الحنون يفيض حزناً وندماً. فجأة، ارتسمت على ذهن إيزين صورة لديا وهي تحمل بين يديها طفلاً صغيراً…
ــ “إنه صبي، سيدتي! صبي وسيم وقوي!”
في تلك اللحظة، شعرت إيزين بشيء يشبه الانفجار في ذاكرتها، وكأن شيئاً من الماضي ينفجر في حاضرها.
“سيدتي!”
نهضت إيزين فجأة من السرير.
“لا يجب أن تجهدي نفسكِ بعد، الطبيب أمر بالراحة التامة ــ”
“كليف! أين كليف؟”
“ماذا؟”
أمسكت إيزين بيد ديا وتشبثت بها وكأن حياتها تعتمد على الإجابة.
“كليف… هل هو على قيد الحياة؟ هل نجا؟”
في لحظة وجيزة، ظهر الارتباك جلياً في عيني ديا. لم يكن واضحاً إن كان ذلك بسبب غرابة سؤال سيدتها أو بسبب ذكر اسم سيد القصر، وهو أمر نادر.
“كـ… كليف؟ آه، سيدتي، إنه الآن في مكتبه، يستقبل ضيفاً. في الواقع، طلب قبل قليل أن يُبلّغ فور استيقاظكِ. لقد كان بجانبكِ طوال اليوم منتظراً. أما الطفل فهو في الغرفة المجاورة مع السيدة ماري ــ”
لم تكمل ديا عبارتها، إذ هرعت إيزين فجأة خارج الغرفة، غير عابئة بجسدها الذي لم يتعافَ بعد، ولا بالألم الذي كان ينهش عظامها.
اندفعت عبر الممرات، عيناها تتجولان في أنحاء القصر. لم تكن تلك الممرات المعتمة التي عرفتها جيداً، بل أصبحت مضاءة بفخامة لم تعهدها من قبل. الثريات البراقة، الأرضية الرخامية اللامعة، والزخارف الراقية على الدرجات…
كل شيء بدا وكأنه ينتمي إلى عالم آخر، وكأن القصر قد استحال إلى انعكاس مختلف تماماً لما كان عليه.
لكن كل هذا لم يكن يعني شيئاً لإيزين.
ما كان يهمها الآن هو شيء واحد فقط.
كانت بحاجة إلى رؤيته بعينيها.
ما زالت برودة جسده الجليدية عالقة في ذاكرتها، ووجهه الجامد الذي كان يحدّق إلى السقف كأنه نقش على جليد، يثقل قلبها ببرودة عميقة. كيف لها أن تفكر في شيء آخر؟
كانت تلهث وهي تركض، وكأن أنفاسها تختنق عند حلقها. نبض قلبها يكاد يُسمع من شدته، والصداع الخفيف الذي رافق ركضها زاد من إحساسها بضعف جسدها. يبدو أن كلمات الخادمة عن أنها قضت وقتاً طويلاً مستلقية كانت صحيحة، فحركتها المفاجئة والاندفاع غير المألوف أرهقا قدميها، حتى بدت وكأنهما ستخذلانها في أي لحظة. ومع ذلك، حتى هذا الشعور المرهق لم يستطع إيقافها.
رأت مكتبة كليف أسفل الدرج. لم يكن يفصلها عنها سوى بضع درجات تنزلها، وكان الباب المصنوع من خشب الماهوجني الأحمر خلفها يخفيه. كان قلبها يخفق بعنف.
خطت إيزين دون تردد نحو الدرج، لكنها لم تنزل سوى خطوات قليلة قبل أن تتعثر. دفعتها عجلتها إلى فقدان التوازن، وبدا جسدها وكأنه يترنح فوق الدرج، تحاول الإمساك بشيء دون جدوى.
“إيزين!”
كان صوتاً عميقاً، حاداً كالسيف، يتردد من الأعلى. أغلقت عينيها بإحكام وهي ترى حافة الدرج القاسية تقترب منها. في ذات اللحظة، أحاطت بها ذراعان قويتان واحتضنتها بحزم، مانعة إياها من السقوط.
لا تزال أنفاسها متسارعة، والقلب الذي يكاد ينفجر في صدرها لم يهدأ بعد. تسربت إلى أنفها رائحة عميقة من المسك الدافئ، وشعرت بحرارة لم تكن تنبع منها فقط، بل من الجسد الذي أنقذها.
“ما زلتِ!”
كان الصوت العميق يصدر فوق رأسها، ممتزجاً بالغضب. ضغط الذراعان حول خصرها ازداد للحظة، كأنما يمنعها من الهروب.
رفعت إيزين رأسها ببطء لتواجه عينيه.
“ما زالت زوجتي تحلم بالهرب مني، على ما يبدو.”
كانت كلماته مشبعة بسخرية مريرة، صوته العميق كالصدى الذي يتردد في كهف. حتى مع أنفاسه الغاضبة، كان يتمالك نفسه بصعوبة ليمنع الغضب من الانفجار.
رغم أن قبضته على خصرها خفّت، إلا أن تأثير كلماته وملامحه لم يكن أقل قسوة. كان ينظر إليها بعينيه الزرقاوين اللامعتين، بوجه مليء بالصرامة، كأنه يُحاكمها بنظراته.
تعلقت إيزين بثيابه، يداها ترتجفان كما لو أنها تستمد قوتها من هذه القبضة. كانت ملامحها مشوهة بالارتباك والخوف، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من النظر إليه، أو تصديق ما تراه.
كليف مور… كان على قيد الحياة.
كان يقف أمامها، جسده ينبض بالحياة، وهواء أنفاسه الدافئة يكاد يلمس بشرتها. لم تستطع تصديق ذلك. حتى عيناه الزرقاوان التي تتطابق مع ذكرياتها كانت تبدو وكأنها تشكك في الحقيقة.
“إيزين.”
ناداها بصوت منخفض، لكنّها لم تجبه. بدلاً من ذلك، رفعت يديها المرتجفتين نحو صدره، أمسكت بملابسه بشدة، وبدأت تحرر أزرار قميصه بعصبية.
“إيزين، ماذا تفعلين؟”
لم تكن تستمع إلى صوته المرتبك. كان كل ما يهمها الآن هو رؤية ما تحت قميصه، لمساحة الصدر التي اخترقها السلاح يومها. كانت يداها ترتعشان وهي ترفع القماش لتكشف عن بشرته.
لكنها لم تجد شيئاً.
المكان الذي كان من المفترض أن يحمل جرحاً قاتلاً كان سليماً تماماً، نظيفاً كأنه لم يتعرض لأي أذى.
“لا…”
شهقت وهي تهمس بالكلمات بصوت يكاد لا يُسمع. شحب وجهها، واهتزت شفتيها المرتجفتان.
“إنه حي…”
كانت كلماتها تخرج وكأنها تنهيدة ثقيلة، همسات تحمل كل مشاعرها المكبوتة. مدت يدها المرتعشة لتتأكد مرة أخرى، لكنها لم تجد أي أثر.
في تلك اللحظة، انهارت ساقاها تماماً. لولا ذراعي كليف التي استقبلتها، لكانت سقطت على الأرض.
كان كليف مور حياً.
لم تعرف السبب الذي أعاده للحياة، ولم تهتم لذلك. كل ما كان يهمها هو أنه هنا، وأنه لم يعد من ذكريات الماضي المؤلمة، بل حقيقة قائمة أمام عينيها الآن.
ـ يا إلهي.
حتى لو كان ذلك مجرد عبث من القدر، لم تكن لتبالي. مجرد أن ترى زوجها حيًا، يتنفس الهواء نفسه في المساحة ذاتها، كان كافيًا لتجعلها تسجد شاكرة عند أقدام الخالق.
لقد كان ذلك كافيًا لتشعر بالامتنان. لأن أمنيتها الأخيرة، أن لا يُترك وحيدًا، قد استجيبت.
لم يكن يهمها من أين بدأ التغيير أو إلى أين انتهى. سواء أكانت قد عادت إلى العالم الذي غادرته، أو إلى عالم مختلف تمامًا لا تعرفه، لم تكن لتكترث.
ولكن مع ذلك، كان على إيزين أن تواجه ماضيها مرة أخرى.
بدلاً من الأثر الذي كان من المفترض أن يتركه النصل في صدره، رحبت بها ندوب لا تعد ولا تحصى غطت جسده. ندوب لم تعالج أبدًا، تركت لتلتئم بطريقة وحشية وحدها، مما جعلها أكثر وضوحًا وقسوة، كأنها شواهد على الألم الذي عاناه. كانت مشاهدتها تمزق قلبها.
يا لها من سخرية من القدر.
إيزين كروفورد، رغم فرحتها ببقاء كليف مور على قيد الحياة، وجدت نفسها مجبرة على مواجهة هذه الندوب كدليل على ارتباطهما، وعلى ما عاناه بسببهما.
الأشياء التي كانت تتخيلها فقط، كانت الآن تُعرض أمامها بوضوح قاسٍ. بل إنها هي من نبشت تلك الجروح بنفسها.
“تبا!”
صرخت بداخلها، كأنها تناجي السماء.
ـ لماذا؟ لماذا لم أستطع أن أمنع هذا؟
خرجت كلماتها كأنها همسات من الألم، مليئة بالمرارة. إن كان القدر سيعيده إليها على أي حال، فلماذا كان عليها أن تنتظر كل هذا الوقت؟
كانت ترغب في البكاء بصوت عالٍ، لعل دموعها تغسل عجزها. لو كان بإمكانها العودة إلى الماضي، إلى زمن لم تمسسه يدا والدها الذي أذاق كليف هذا العذاب، لربما استطاعت إنقاذه.
“هل أردتِ أن تتحققي من الآثار التي تركها والدكِ عليّ؟”
صوته كان بارداً كالسيف، لكنه حمل ثقلاً كالجبل. يبدو أنه أساء فهم تصرفها، واعتبره رغبة في رؤية الجروح التي خلّفها والدها.
تحولت ملامح وجهها إلى شحوب قاتم، وكأن كلماته أصابتها بسهم في قلبها.
“هل أردتِ أن تذكّريني بأنني ما زلت عبداً لأشباح الماضي؟ إن كان هذا ما تسعين إليه، فقد نجحتِ.”
رفع ذراعه ببطء، ليكشف عن الندوب الحمراء التي نقشها والدها على جسده.
“هذا الوشم لن يُمحى أبدًا. وسيظل يذكّركِ بأنكِ فوقي، وبأنني تحت رحمتكِ إلى الأبد.”
شعرت وكأن أنفاسها قد توقفت. كانت الندوب أمام عينيها أكثر مما تستطيع تحمله.
أمسك بكتفيها بقوة، لكنها لم تكن قوة جسدية فقط؛ بل كانت قوة من المشاعر المكبوتة، الغضب والحزن والخيانة.
“ولكن هذا يعني أنكِ، طوال حياتكِ، ستتحملين وجودي بجانبكِ. نحن كالأغلال مربوطين دائما ببعضنا إلى الأبد.”
رغم قوته التي كان بإمكانها أن تحطمها بسهولة، لم ينقل إليها سوى دفء لا يوصف. يده التي كانت تمسك بكتفها انزلقت ببطء نحو ذراعها، كأنما تلامسها برفق لا مبرر له.
“لن يكون الأمر سيئًا بالنسبة لكِ.”
توقف للحظة، كأن شيئًا بداخله قد انهار.
“أنتِ تعلمين… أنني دائمًا كنتُ خاضعًا لكِ.”
كانت كلماته الأخيرة تخرج وكأنها تنهيدة ثقيلة، مليئة بالضعف والاستسلام.
مد يده الأخرى لتحتضن خصرها، وجذبها نحوه، وكأنها باتت جزءًا لا يتجزأ من وجوده.
“لذا.”
صوت خافت تردد في أذنيها، كأنه يناشدها، يتوسلها.
“لا تفكري أبدًا في كسر هذه السلاسل أو الهروب منها، إيزين.”
رائحة المسك التي كانت دائمًا تميزه غمرت أنفاسها مجددًا.
“حتى لو متُّ، لن أسمح لكِ بالابتعاد عني.”
*** تفاعلوا مع البارت يا حلوين
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "14"