كان الوقت وقت الذروة، والطرقات مزدحمة عند انتهاء الدوام.
عندما وصل هوو يانشياو إلى المنزل، كانت نيه آن آن قد انتهت بالفعل من إعداد ثلاث أطباق، ولم يتبق سوى قليّ الخضار وتسخين الحساء الذي أعدّته في وقتٍ سابق.
ما إن سمعت بعض الأصوات خلفها، حتى استدارت فرأت هوو يانشياو يدخل البيت مرتديًا بذلته الرسمية.
كانت ملامحه حادة، حاجباه وعيناه يوحيان بالقوة والنفوذ، وعلى الرغم من أن وجهه بدا هادئا وواثقا، إلا أن الهالة التي تحيط به أضفت عليه طابعا زاهدا صارما.
ومع ذلك، كانت نيه آن آن تعرف جيدًا أن طريقه إلى القمة لم يكن هادئا أبدا بل كان مليئًا بالهيمنة والقسوة.
توقفت عيناه للحظة عند وجهها الصغير المشرق قبل أن يحول نظره بعيدًا ويتماسك كعادته.
قالت نيه آن آن وهي ترفع رأسها نحوه
“جيجي.”
كانت لا تزال ترتدي المئزر، وحين استدارت نحوه، ربما بسبب ضعفها أو انخفاض مستوى السكر في دمها، تعثّرت قليلًا وكادت أن تسقط.
لكن الرجل مدّ ذراعيه في اللحظة المناسبة تمامًا، فالتقطها قبل أن تهوي، فاصطدمت بخاصرته وصدره العريض.
كانت رائحة جسده مزيجًا من عطر الليمون المنعش، تملأ الهواء من حولها وتُشعرها بالارتباك.
رفعت نيه آن آن نظرها نحوه، كان وجهها شاحبًا قليلًا، وعيناها تلمعان بضعف، حتى صوتها بدا واهنًا متوسلًا
“لقد فقدتُ توازني فحسب، جيجي.
اذهب واغسل يديك، العشاء سيكون جاهزًا بعد قليل.”
يا لها من مشهدٍ مؤثر بهذه الحال الضعيفة ما زالت تصرّ على إعداد الطعام له.
لا بد أنها أحنّ أخت في العالم. تُرى، هل سيُبدي بعض اللطف تجاه الفتاة التي وجدت نفسها فجأة في هذا العالم الغريب؟
كانت يد هوو يانشياو ما تزال تستقر على خصرها.
وبشكلٍ عابر، مرّت أصابعه على نقطة محددة في أسفل ظهرها.
وفي تلك اللحظة، شعر ببروزٍ صغير على شكل نصف قمر ندبةٌ يعرفها جيدًا، تركتها معركة خاضتها عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها.
لم يظهر أي تغير على ملامحه، لكن في داخله تسلّل الشك
‘هي هي… لكنها ليست هي؟’
‘أو ربما… تشبهه أكثر مما تظن؟’
تركها أخيرًا، وبعد أن استعادت توازنها قال بهدوء
“دعي الخدم يتولّون هذه الأمور في المستقبل.”
ابتسمت نيه آن آن بلطف قائلة
“لا بأس، في الآونة الأخيرة أصبحت أستمتع بالطبخ فعلًا، وأظن أن لدي موهبة فيه أيضًا.”
لم يُعلّق هوو يانشياو على كلامها، بل استدار وصعد إلى غرفته ليبدّل ملابسه.
وحين نزل مجددًا، وجد على المائدة أطباقًا مرتّبة بعناية وشهية المنظر.
جلسا يتناولان الطعام في هدوءٍ تام، إلى أن قطع هوو يانشياو الصمت وكأنه يذكر أمرًا عابرا
“آن آن، وقّعت اليوم عقد الشراكة مع عائلة تشين.”
رفعت نيه آن آن رأسها، وقالت بعفوية في عينيها البريئتين
“رائع، يبدو أن شركتك تزداد نجاحًا يومًا بعد يوم.”
تناول هوو يانشياو رشفة من الحساء، ثم قال بنبرةٍ خفيفة وكأنه لا يقصد شيئا
“ليس في العاصمة سوى عائلة تشين واحدة إنها عائلة تشين زيمينغ.”
“آه.” قالت نيه آن آن وهي تضع قطعة من شرائح السمك في فمها.
انتشر الطعم الطريّ في فمها فابتسمت له قائلة
“جيجي، أنا لم أعد أحبه بعد الآن.”
“حقًا؟” نظر إليها هوو يانشياو مباشرةً، وصوته هادئ لكن نبرته فاحصة، ثم قال
“سمعتُ أن عائلتي تشين ونيه كانتا تخططان للتحالف من خلال زواجٍ بين العائلتين، لكن لسوء الحظ أن نيه تشنغ فنغ لم يُبدِ اهتمامًا بأخت تشين زيمينغ، كما أن عائلة نيه لم يكن لديها ابنة لتتزوجه.”
تجمدت نيه آن آن لثوانٍ وهي تحاول استيعاب كلماته، ثم خفق قلبها بقوة.
تذكرت شيئًا قرأته ذات مرة في أحد المنتديات.
لم تكن قد أنهت قراءة الرواية الأصلية أصلًا، لأن شخصية نيه آن آن تموت في النهاية ميتة مأساوية.
كانت تُحب شخصية هوو يانشياو أثناء القراءة، لكنها قرأت حرقًا للقصة يُفيد بأنه هو الآخر يموت في النهاية بمرضٍ خطير.
لهذا السبب توقفت عن متابعة الأحداث بعد موت البطلة الأصلية، وفاتها كثير من التفاصيل.
لكنها تذكرت تعليقًا واحدًا من المنتدى قبل الحادث الذي جعلها تنتقل إلى هذا العالم
“يا إلهي! كنت أتساءل لماذا اسم نيه آن آن يحمل لقب ’نيه‘! اتضح أنها دائمًا كانت تنتمي لعائلة نيه! لو كانت تعرف منذ البداية، لما فعلت كل ما فعلته! المؤلف كان قاسيًا حقًا!”
وهذا يعني أن نيه آن آن صاحبة الجسد الأصلية قد تكون في الحقيقة الابنة المفقودة لعائلة نيه، إحدى العائلات العريقة في العاصمة.
في ذلك الوقت، كانت نيه آن آن قد قرأت ذلك النقاش في المنتدى بشكلٍ عابر فقط، إذ كان كل اهتمامها منصبًّا على قراءة الأجزاء التي يظهر فيها هوو يانشياو.
لاحظت أن عددًا كبيرًا من القرّاء أحبّوه تمامًا كما أحبّته هي، لكن موته المفاجئ في الرواية جعل الكثيرين يطالبون الكاتبة بكتابة فصلٍ إضافي عنه.
وفي تلك اللحظة بالذات، سمعت إعلان الصعود إلى الطائرة.
صعدت، ثم ماتت في حادث التحطّم… لتستيقظ في هذا العالم الجديد.
لقد عاشت بنفسها داخل الرواية، والتقت بهوو يانشياو وجهًا لوجه دون أن تدري حتى إن كانت الكاتبة قد كتبت ذلك الفصل الإضافي الذي كانت تتمنّاه بشدّة.
تحوّلت إلى الأخت التي يُفترض أنه يحبّها ويغمرها بالحنان، لكن العلاقة بينهما لم تكن كما وصفتها الرواية على الإطلاق.
وحين لاحظ هوو يانشياو أنها لم تردّ عليه، أضاف قائلًا:
“عائلة تشين لا ترضى عن صديقة تشين زيمينغ الحالية، لذا إن كانت لعائلة نيه ابنة، فسيُتمّون الزواج فورًا.”
في تلك اللحظة، أدركت نيه آن آن بوضوح نيّته.
هوو يانشياو كان يختبرها.
لو كانت هي نيه آن آن الأصلية، واكتشفت أنها قد تكون الابنة المفقودة لعائلة نيه، لما ضيّعت فرصة الزواج من وريث عائلة تشين لتوطيد التحالف بين العائلتين.
لكن، في هذا الجزء من القصة، البطلة الأصلية لم تكن تعلم شيئًا عن هويتها الحقيقية، بل إنها حتى في لحظة موتها لم تكتشف ذلك أبدًا.
أي أن هوو يانشياو لم يكن فقط يحاول معرفة إن كانت ما تزال تحبّ تشين زيمينغ، بل كان يختبر هويتها الحقيقية أيضًا.
لقد بدأ يشكّ بأنها ليست نيه آن آن الأصلية!
بدأت تشعر بقشعريرة تسري في جسدها.
ماذا لو اكتشف حقيقتها؟
ماذا لو عرف أنها غريبة جاءت من عالمٍ آخر وسكنت جسد أخته؟
هل سيأخذها إلى مختبر ليجري عليها التجارب؟
وربما… ربما كان قد شكّ فيها منذ اليوم الأول الذي وصلت فيه إلى هذا العالم وذلك يُفسّر بروده وجفاؤه في الأيام الأخيرة.
واليوم… كان يختبرها بشكلٍ مباشر.
تعرّقَت راحتيها، لكنها تذكّرت ما تعلّمته طوال حياتها يجب أن تبقى هادئة مهما حدث، فاللين يغلب القسوة دائمًا.
“جيجي، أنا حقًا لم أعد أحبّه بعد الآن! لا يهمّني من سيتزوّج!”
كانت تشبه حيوانًا صغيرًا جريحًا عيناها حمراوان من الدموع لكنهما تلمعان بالصدق، ومع شحوب وجهها بدت شديدة الرقة والضعف.
“جيجي، أنا فقط أريد أن أبقى بجانبك من الآن فصاعدًا… لن أرتكب الحماقات بعد اليوم.”
تحرّك حاجباه قليلًا، وبدت نبرته ألين وهو يقول
“حسنًا، لقد أغمي عليك اليوم. عليك أن تأكلي أكثر.”
أومأت نيه آن آن برأسها قائلة
“همم.”
كانت وجنتاها منتفختين قليلًا، وعندما خفّضت رأسها لتأكل مجددًا بدت كطفلةٍ ظُلمت وتحاول التظاهر بأنها بخير.
وحين نهضت لتحضر الحساء، أخذ هوو يانشياو الوعاء منها بنفسه وملأه لها.
بعد العشاء، لم يغادر المنزل كما فعل في اليوم السابق، بل نهض وجمع الأطباق ليغسلها بنفسه.
وقفت نيه آن آن عند باب المطبخ تراقبه، وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها وهي ترى قامته الطويلة تتحرك في المطبخ بهدوء.
لكن لسوء الحظ، بعد أن أنهى كل شيء ورتّب المطبخ بعناية، لم تستطع نيه آن آن مقاومة هوسها بالنظام، فعادت بعده لتعيد ترتيب الأدوات بحسب أطوالها مرة أخرى.
تلك الليلة، وبعد أن أنهت استحمامها وهمّت بالنوم، وصلتها رسالة نصية من إحدى صديقاتها المقربات.
شيا شياو ون
“آن آن، يجب أن تحضري الحفلة غدًا! لدينا مفاجأة لكِ.”
تذكّرت نيه آن آن تسلسل الأحداث في الرواية، وعرفت ما المقصود، لكنها أجابت رغم ذلك
“ما نوع المفاجأة؟”
شيا شياو ون
“السيد تشين سيحضر أيضًا! الحفلة صغيرة تنظمها عائلة نيه في نادي لان. لدي ثلاث دعوات، سأعطيكِ اثنتين لتأتي مع أخيك. انظري كم أنا لطيفة!”
عرفت نيه آن آن أن شيا شياو ون كانت معجبة بهوو يانشياو، وأنها أعطتها الدعوتين لسببين الأول لتجلب هوو يانشياو معها، والثاني لتجعلهما مادة للسخرية أمام الآخرين.
لكن بما أن الحفلة من تنظيم عائلة نيه، كان لا بد أن تحضرها.
كانت بحاجة لمعرفة ما إذا كان هذا الجسد حقًا مرتبطًا بعائلة نيه.
وفوق ذلك، كانت واثقة أن الحفلة لن تخلو من الدراما.
~انتهى الفصل ~
_____________________
لا تنسو تخلولي تعليقاتكم لاعرف رايكم واستمر و تصويتاتكم للتشجيع .
وللمزيد من معلومات اكثر زورو صفحتي على الانستغرام @luna.aj7
التعليقات لهذا الفصل " 5"