هو يان شياو لم يكن ينوي النزول إلى الطابق السفلي، لكن عندما قطعت نيه آن آن عمله وذكرت الطعام، شعر فجأة بالجوع بعد أن غادرت.
لم يكن من عادته تناول وجبات خفيفة بعد العشاء، لذا قرر فقط أن يأخذ لنفسه كوبًا من الماء.
ولسوء الحظ، كانت آلة المياه في الطابق العلوي قد نفدت منها المياه، فاضطر إلى النزول للأسفل لاستخدام الأخرى.
وما إن وطأت قدماه أسفل الدرج حتى باغته عبير طعامٍ شهيٍّ يملأ المكان.
لم يكن ذلك الرائحة النفّاذة المعتادة لنودلز نيه آن آن الفورية، بل كانت أشبه برائحة أطباق أعدها طاهٍ محترف في مطعمٍ فاخر.
ارتسمت على وجهه علامات شك خفيف، فتقدّم بخطواتٍ هادئة نحو غرفة الطعام وهو يحمل كوب الماء.
كانت نيه آن آن جالسة بظهرها إليه، لا تعلم أنه يراقبها.
ومن موقعه، استطاع أن يرى طريقة جلوسها الرقيقة وهي تتناول طعامها بهدوءٍ وأناقة، بينما كانت رائحة الأطباق الشهية تتسلل إلى أنفه وتغري حواسه.
هل خرجت قبل قليل لتشتري هذا الطعام؟
ظل هو يان شياو صامتا، بلا أيّ تعبير على وجهه، ثم استدار وغادر عائدًا إلى الطابق العلوي دون أن ينبس بكلمة.
لكن، بعدما جلس مجددًا في مكتبه، ظلّ عبير الطعام عالقا في ذاكرته، وكأنه ما زال يتنفسه. وحتى بعد أن شرب كوب الماء بأكمله، بقي الشعور بالجوع ينهشه.
ضغط بأصابعه على صدغيه محاولًا أن يُركّز على أوراقه من جديد.
في الأسفل، أنهت نيه آن آن وجبتها، جمعت أطباقها، أدت بعض التمارين الخفيفة لتسهيل الهضم، ثم عادت إلى غرفتها.
كان يوما طويلًا ومرهقًا بالنسبة لها، وما إن تمددت على السرير حتى غرقت في النوم بسرعة.
في منتصف الليل، غادر هو يان شياو مكتبه أخيرا، أخذ حماما سريعًا، وجلس يطالع الأخبار على هاتفه بينما كان ينتظر أن يجف شعره.
كانت الإعلانات في التطبيق تتوافق مع اهتماماته المعتادة، لكن بينما كان يتصفّح، لفت انتباهه إعلان عن نوعٍ من صلصات السلطة، وكانت الصور تُظهر أطباقا شهية جعلته يبتلع ريقه رغما عنه.
وفجأة، عادت إلى ذاكرته صورة الأطباق التي كانت نيه آن آن تأكلها في وقتٍ سابق.
وقبل أن يدرك ما يفعله، وجد نفسه ينزل إلى الطابق السفلي بخطواتٍ ثابتة.
سار حتى وصل إلى المطبخ وفتح باب الثلاجة.
كانت الأطباق التي تناولت منها نيه آن آن موضوعة هناك بعناية.
إلى جانبها خضروات وفواكه ولحوم مرتبة بعنايةٍ لافتة.
شعر هو يان شياو بدهشة خفيفة، ولاحظ أن التوابل المصطفة على سطح الطاولة كانت مرتبة حسب الطول من الأعلى إلى الأدنى كأنها صفّ أطفالٍ في طابورٍ مدرسي.
تعمّقت نظراته للحظة، ثم أخرج الأطباق الثلاثة ووضعها في المايكرويف واحدًا تلو الآخر.
وما إن سخنت الأطباق حتى انتشر عبيرها اللذيذ في المطبخ بأكمله.
التقط عيدانه الخشبية وتناول حبة جمبري أولًا.
وانفجرت النكهة في فمه طريّة، مقرمشة، وغنية في آنٍ واحد. بدت الدهشة واضحة في عينيه.
وبفضولٍ هادئ، جرّب الطبقين الآخرين. لم يكونا أقل روعة من أطباق مطعم حاصل على نجوم ميشلان.
سكب لنفسه وعاءً من الأرز البارد، ثم أضاف إليه القليل من حساء القرع الشتوي المغلي فامتزجت الحرارة والبرودة بنكهةٍ مثالية.
جلس أمام المائدة، وبحركاتٍ متقنة وأنيقة، أنهى كل ما في الأطباق دون أن يترك شيئًا خلفه.
استيقظت نيه آن آن في السادسة والنصف صباحًا في اليوم التالي.
بعد أن انتهت من غسل وجهها واستعدت، نزلت مباشرة إلى المطبخ.
لكنها لاحظت فورًا أن شيئًا ما قد تغيّر بدا وكأن أحدهم عبث بترتيب الأدوات على الطاولة. كانت الزجاجات قد أُعيد تنظيمها بشكلٍ مختلف عن طريقتها المفضلة، فعبست قليلًا ثم أعادتها إلى ترتيبها الدقيق الذي يبعث على الراحة قبل أن تفتح باب الثلاجة.
تفاجأت نيه آن آن حين لاحظت أن الأطباق الثلاثة التي أعدّتها ليلة أمس قد اختفت تمامًا.
لكنها استوعبت الأمر بسرعة لا بد أن هو يان شياو شعر بالجوع بعد أن عمل حتى ساعةٍ متأخرة من الليل وأكلها كلها.
رفعت رأسها ونظرت نحو الطابق العلوي.
لقد رأت أن باب غرفته لا يزال مغلقًا حين استيقظت، مما يعني أنه لم يستيقظ بعد… وسيحتاج بالتأكيد إلى إفطارٍ مغذٍ حين ينهض.
كانت نيه آن آن قد فكرت مسبقًا في ذريعةٍ مناسبة إن تساءل هو يان شياو عن مهارتها المفاجئة في الطبخ.
فإن ساوره الشك وسألها، فستجيبه ببساطة بأنها سمعت في الأخبار أن تناول الوجبات الجاهزة أو النودلز الفوري باستمرار مضرٌّ بالصحة، ولهذا قررت أن تبدأ بتعلّم الطهي بنفسها.
وبالصدفة أو بالأحرى بفضل عبقريتها الطبيعية اتضح أن مذاق طعامها كان مذهلًا منذ أول مرة جربت فيها اتباع الوصفات!
لم تكن تلك القصة مختلقة بالكامل.
فقبل انتقالها إلى هذا العالم، كانت نيه آن آن قد دخلت المطبخ للمرة الأولى وهي في الثامنة من عمرها فقط.
كانت بالكاد تصل إلى موقد الغاز، فوضعت كرسيًا لتقف عليه، وطهت طبقًا من ضلوع الخنزير الحلوة والحامضة.
وما زالت تتذكر جيدًا نظرة الدهشة على وجه جدّها عندما تذوّق الطبق غير أن دهشته لم تمنعه من إلقاء محاضرةٍ طويلة عليها عن مدى خطورة ما فعلته، وكيف أن المقلاة الساخنة كانت قد تنقلب عليها ويتناثر الزيت المغلي (فقد كانت الوصفة تتطلّب القلي العميق).
تذكُّرها لجدّها الذي توفي وهي في السادسة عشرة من عمرها أضفى حزنًا رقيقًا على ملامحها، لكنّها سرعان ما تمالكت نفسها.
الإفطار هو أهم وجبة في اليوم ولهذا كان لابد من موازنة العناصر الغذائية بعناية.
بدأت نيه آن آن بعجن العجين، وبينما كانت تتركه ليتخمّر، شرعت في تحضير المكونات الأخرى.
وسرعان ما بدأ حساء فطر الخيزران (المعروف أيضًا باسم كرش الغنم) والزيتون الصيني في الغليان داخل طباخة الأرز، ناشرًا عبيرًا عطِرًا ودافئًا في أرجاء المطبخ.
كانت نيه آن آن قد أعدّت مسبقًا مكونات اللحم والخضار لكلٍّ من الزلابية والخبز المحشوّ على البخار.
كان في أعلى كل قطعة من الخبز ثمانية عشر طيّة متطابقة تمامًا، وكذلك الزلابية؛ كلها متناسقة كأنّ من صنعها يعاني وسواسًا قهريًا في الدقة.
كانت حشوة الخبز نباتية، بينما كانت الزلابية محشوة باللحم.
بعد أن وضعت نيه آن آن كلا من الخبز والزلابية داخل جهاز التبخير، قامت بتحضير عدد من المقبلات الباردة.
وأخيرًا، كانت الأطباق الرئيسية قد اكتملت، والحساء نضج تمامًا.
من جديد، انتشرت رائحته الزكية في أرجاء المكان.
وبينما كانت نيه آن آن على وشك ترتيب المائدة، دخلت القاعة هيئةٌ ضخمة.
كان هوو يانشياو يرتدي ملابس رمادية فاتحة ذات طابعٍ غير رسمي، إلا أن هالته المهيبة جعلت حتى هذا اللباس يبدو أكثر بساطة.
يبدو أنه انجذب إلى هناك بسبب الضجة القادمة من المطبخ، وملامحه ما تزال خالية من التعبير.
أمالت نيه آن آن رأسها نحوه بابتسامة وقالت
“صباح الخير، جيجي! تفضّل! لنتناول الفطور معًا!”
هوو يانشياو لم يتحرك.
كانت نيه آن آن قد اقتربت منه بالفعل، ترددت قليلًا، ثم أمسكت بذراعه برفق وجذبته نحو الكرسي.
لم يعترض، بل جلس بهدوء.
رؤية ذلك جعلت نيه آن آن تفهم الموقف جيدًا.
لم تكن تظن أن هذا الرجل يمكنه مقاومة تناول الفطور بعدما تذوّق طعامها في الليلة السابقة. أرأيت؟ ها هو يستسلم تدريجيًا.
أما عن سبب تصرفه الغريب معها، فسيأتي الوقت المناسب لاكتشافه لاحقًا.
قدّمت نيه آن آن الطعام، وناولته عيدان الأكل والوعاء بابتسامة انحنت معها عيناها.
قالت “جيجي، لقد أعددت الكثير من الطعام. كل ما تشاء.”
أمعن هوو يانشياو النظر في ملامحها دون أي تعبير للحظة، ثم امسك عيدان الأكل.
بدأ بتذوّق براعم الخيزران المبردة.
كانت بدرجة حارة مثالية، مقرمشة وشهية جدًا.
وبينما كانت نيه آن آن تجلس مقابله، دفعت نحوه طبق الزلابية والخبز بالبخار قائلة
“جيجي، هذه الزلابية تحتوي على مجموعة من المكونات: جمبري، لحم بقر، فطر، أرز لزج، وكرفس. أما الخبز فهو نباتي، مصنوع من الجزر ونبتات الفاصوليا.”
“همم.” جاء رده الهادئ أخيرًا، بينما التقط قطعة زلابية.
كل الرجال يحبون اللحم، لذا لم تتفاجأ نيه آن آن من اختياره.
تناولت طعامها بصمت، تنتظر أن يسألها متى تعلمت الطبخ.
لكن حتى بعد أن أنهيا فطورهما كاملا، لم يطرح أي سؤال.
ألَم يشك بالأمر إطلاقا؟
ثم ألا يلاحظ أنها تتصرف بشكل مختلف تمامًا عن صاحبة الجسد الأصلية منذ الليلة الماضية؟ أليس هذا غريبًا بالنسبة له؟
بدأت نيه آن آن تفكر فيما إذا كان يجدر بها أن تذكر مهارتها في الطبخ عرضًا…
لكن رنّ هاتف هوو يانشياو فجأة.
أجابه، ويبدو أنه كان اتصالًا يتعلق بالعمل، إذ أصبح أكثر جديّة بعد أن تحدث قليلًا.
غادر المكان بسرعة وهو ما يزال ممسكًا بالهاتف.
لم يكن بيدها شيء تفعله حيال ذلك، لذا بدأت نيه آن آن بتنظيف الطاولة.
وكعادتها، رتبت جميع عبوات التوابل بحسب ارتفاعها بدقة تامة دون أي استثناء.
وعندما أنهت التنظيف، كان هوو يانشياو قد عاد إلى الأسفل مرتديًا بذلته الرسمية.
عاد معه ذلك الجو البارد الذي يحيط به دائمًا، وكأن الهواء من حوله أخذ يتحرك مع خطواته.
وعندما مرّ بجانب نيه آن آن قال بنبرة هادئة
“سأتوجه إلى العمل.”
ابتسمت نيه آن آن وقالت
“حسنًا، جيجي. أتمنى لك يوم عملٍ موفق!”
وبعد أن ودّعته، قامت ببعض تمارين ما بعد الأكل، ثم نظرت إلى الساعة وبدّلت ملابسها استعدادًا للخروج.
وصل كيوكَمبَر إلى القصر تمامًا في الساعة الثامنة والنصف صباحًا ليأخذ نيه آن آن إلى صالون الوشوم.
وما إن رآها صاحب المحل حتى تقدّم إليها بابتسامة مألوفة قائلا
“الآنسة آن آن هنا اليوم؟ أين تريدين أن نرسم الوشم هذه المرة؟”
جلست نيه آن آن وقالت بجدية
“أريد إزالة كل الأوشام عن وجهي!”
تفاجأ صاحب المحل قائلًا:
“كلها؟ ظننت أنها المفضلة لديك!”
ارتجفت زاوية فم نيه آن آن بامتعاض. مفضّلة؟ هذه الأوشام كفيلة بإرعابها في منتصف الليل!
قالت
“فلنزلها أولًا، لم أعد أحبها. عندما أجد شيئًا يعجبني سأستبدلها به.”
“حسنًا، حسنًا.”
وافق الرجل على الفور، واستدعى فنان الوشوم المعتاد الذي يتولى عمل نيه آن آن.
كانت قد سمعت من قبل أن إزالة الوشم مؤلمة، وهذه أول مرة تختبرها بنفسها وبالفعل، كانت مؤلمة جدًا.
بعد أكثر من ساعة من العذاب، شعرت وكأنها ستموت هنا فور انتقالها إلى هذا الجسد!
وحين أعلن فنان الوشوم “انتهينا”، بدت كلماته في أذنها كأنها موسيقى عذبة.
نهضت بسرعة وأمسكت المرآة اليدوية لتتأمل وجهها.
~انتهى الفصل ~
_____________________
لا تنسو تخلولي تعليقاتكم لاعرف رايكم واستمر و تصويتاتكم للتشجيع .
وللمزيد من معلومات اكثر زورو صفحتي على الانستغرام @luna.aj7
التعليقات لهذا الفصل " 3"