عند اقتراحي، قطّب القائد الأعلى حاجبيه بحدة.

 

“السير جيرارد؟ تعنين نائب قائد فيلق الفرسان الرابع؟”

 

بالطبع، القائد الأعلى كان يعرف جيدًا طبيعة العلاقة المتوترة بين قائد الفيلق الرابع ونائبه، السير جيرارد.

ومن المؤكد أنه لم يُعجبه اقتراحي على الإطلاق…

 

لكن، لم يكن ذلك يهمني.

 

“أليس كذلك؟ نائب القائد كفؤ للغاية. أعتقد أنه قادر على إعادة الاستقرار إلى الفيلق الذي يعيش حالة فوضى الآن.”

 

تابعتُ بمرح:

 

“وبالمقابل، إن نفذتَ ما اقترحتُه، فلن أُثير مسألة الخطر الذي وُضعتُ فيه. ما رأيك؟”

 

“…همم.”

 

أطلق القائد الأعلى تنهيدة ثقيلة.

 

وفي تلك الأثناء، كنتُ مشغولة بإجراء حساباتي الداخلية.

 

بصراحة، لو كان الأمر بيدي، لانتهزتُ الفرصة وتخلصتُ من هذا القائد الأعلى غير الكفؤ أيضًا.

 

‘لكن هذا غير ممكن على الأغلب.’

 

ففي النهاية، لم أتعرض لإصابة خطيرة في هذه الحادثة، وطبقًا لقوانين الجيش، فأنا أُعتبر فارسة.

 

وبالتالي، حتى لو كنتُ قد متُّ، فلن يُحمَّل أحد المسؤولية.

 

وفوق ذلك…

 

‘حتى الدودة تتلوى إن دُعست.’

 

لو ضغطتُ أكثر وحاولتُ إسقاط القائد الأعلى أيضًا، فقد يردّ عليّ بهجوم مضاد، وهذا قد يضعني في مأزق.

 

ثم إن الفرصة لإسقاطه ستأتي لاحقًا على أي حال.

 

“إذن، ماذا ستفعل؟”

 

سألتُه مرة أخرى بلهجة عادية.

 

والحقيقة أن الإجابة كانت محسومة سلفًا.

 

“…حسنًا. فلنفعل ذلك.”

 

خفض القائد الأعلى رأسه وتمتم بصوت مستسلم.

 

“ممتاز.”

 

أومأتُ برأس المنتصرة، ثم وقفتُ من مقعدي.

 

“شكرًا على الشاي.”

 

“يسعدني أنه راقَ لذوقك.”

 

أجاب القائد الأعلى بوجه كالميّت.

 

وبنبرة رقيقة سألتُه سؤالًا آخر:

 

“أوه، بالمناسبة، رائحة الشاي كانت رائعة. هل هو شاي أسود فاخر من ماركة توف؟”

 

“……”

 

رمقني القائد الأعلى بنظرة عابسة، وكأنها تقول: وكيف عرفتِ هذا أصلًا؟

 

ابتسمتُ بخبث وأجبت:

 

“كما تعلم، أنا شخص استهلاكي بعض الشيء. وعندما يتعلق الأمر بالكماليات… فلا أحد يعرفها أكثر مني.”

 

الكماليات.

 

ربما كلمة مثيرة للاشمئزاز بالنسبة للقائد الأعلى.

 

والدليل؟ رأيتُ فكه يتشنج قليلًا، فقد كان يطحن أسنانه.

 

وبنفس الوقت، ارتسمت على وجهي ابتسامة مقوسة كالهلال.

 

“ذلك الشاي الأسود—إن لم أكن مخطئة—أغلى من الفضة وزنا.”

 

“……”

 

“وبالنسبة لشخص مثلكم، يا سيدي القائد، الذي يُفترض أن يكون قدوة للفرسان… يثير الأمر تساؤلًا.”

 

نظرتُ إليه وهو عاجز عن الرد، ثم رفعتُ كتفيّ بلامبالاة استفزازية.

 

“ألا ترى أن هذا الشاي ترفٌ مبالغ فيه؟”

 

وبهذه الكلمات الأخيرة—

 

غادرتُ المكتب بخطوات سريعة.

 

آه… حقًا.

يا له من شعور منعش!

 

***

بعد خروج كاسيا من المكتب،

 

وقف القائد الأعلى وهو يرتجف من الغضب، وتوجه بخطوات ثقيلة نحو الطاولة.

 

وفجأة، قبضت يده الكبيرة على فنجان الشاي الموضوع عليها.

 

“اللعنة!”

 

صرخ وهو يقذف بالفنجان بعيدًا.

 

طنين!

 

تحطم الفنجان الفاخر إلى قطع صغيرة وهو يصطدم بالجدار.

 

لكن حتى بعد ذلك، لم يهدأ غضبه.

 

“تلك المرأة الملعونة!”

 

تحطيم! تكسّر!

 

حطم القائد الأعلى ليس فقط ما تبقى من الفناجين، بل حتى إبريق الشاي، ولم يبدأ بالتنفس بعمق إلا بعد ذلك.

 

ومع ذلك، لم يخفُت الغضب الذي فاض حتى رأسه.

 

ظل يحدّق بعينين جاحظتين في الباب الذي خرجت منه كاسيا.

 

***

بعد ذلك.

 

تم عزل قائد فيلق الفرسان الرابع فورًا.

 

كما تمت معاقبة عدد من الفرسان الذين ساهموا في نشر الفوضى.

 

أما المنصب الشاغر لقائد الفيلق، فقد تولاه السير جيرارد.

 

وعلى حد ما سمعت، فإنه يعمل جاهدًا على تدريب الفرسان بقسوة لإعادة الانضباط إليهم.

 

وقد نجح السير جيرارد فعلًا في ضبط رجاله، كما أبدى وُدًّا تجاه فرسان “الفجر اللازوردي”.

 

وهكذا، نشأت أخيرًا علاقة تعاون بين الفيلقين.

 

صحيح أنها ليست علاقة ثقة عميقة تصل إلى حد التضحية بالأرواح من أجل بعضهم البعض، لكنها على الأقل لم تعد علاقة يُعيق فيها كل طرف الآخر.

 

وفي تلك الأثناء، كانت كاسيا مشغولة باستمرار.

 

‘إذن، المؤن اللازمة لترميم المركز الحدودي…’

 

لم يعد الحبر يجف عن أصابعها البيضاء النحيلة.

 

وبالتالي، أصبح مكتب الضابطة الإدارية هو:

 

أول مكان يضاء في مساكن فرسان “الفجر اللازوردي”، وآخر مكان تُطفأ أنواره.

 

***

لكن رؤية كاسيا وهي تعمل هكذا جعلت الفرسان يشعرون بقلق متزايد.

 

“بصراحة… صحيح أن الضابط الإداري أستريد تكفلت بالكثير من الأمور عنا.”

 

بدأ السير دانيال يتحدث بحذر.

 

“منذ أن وصلت، وحياتنا اليومية أصبحت أكثر راحة بكثير.”

 

“صحيح. حتى في مسألة أحجار الحاجز الأخيرة—لو لم تتعامل الضابطة الإدارية مع الأمر بالشكل الصحيح…”

 

أضاف السير رودريغو بصوت خافت.

 

“لكنا سنُجبر على تحمّل المسؤولية كاملة.”

 

“……”

 

“……”

 

سادت لحظة من الصمت بين الفرسان.

 

فالحق يُقال، لم يكن من الممكن تجاهل الأمر بعد الآن.

 

ومهما كان سلوك كاسيا في الماضي، فقد بات واضحًا أن كاسيا الحالية تبذل جهدًا حقيقيًا وتهتم بإخلاص بأمر فرسان الفجر اللازوردي.

 

ومع ذلك، كانوا قد تقبّلوا كل رعايتها واهتمامها وكأنه أمر مُسلَّم به.

 

لم يعتذر لها أحدٌ منهم يومًا على الكلمات الجارحة أو الأفعال السيئة التي أظهروها نحوها.

 

“…علينا أن نعتذر لها، أليس كذلك؟”

 

بصوت متنهّد، قال السير باتريك، فأومأ الفرسان الآخرون برؤوس مثقلة بالموافقة.

 

ولأن الفرصة بدت سانحة، أسرعوا جميعًا للذهاب إلى كاسيا والاعتذار لها.

 

لكن فجأة—

 

“هاه؟ ما هذه الرائحة؟”

 

تشمّم السير رودريغو الهواء.

 

كانت رائحة شهية تتصاعد من مكان ما.

 

رائحة لحم فاخر يُشوى بالزبدة ويُقلى بالزيت… عبق غني بالدهون.

 

ورغم أن جودة ووفرة الطعام قد تحسنت كثيرًا منذ قدوم كاسيا، إلا أن فرسان الفجر اللازوردي الذين قضوا سنوات طويلة وهم يتضورون جوعًا في أثناء الخدمة، صاروا يستجيبون للطعام استجابة غريزية أشبه بالمسحورين…

 

فانساقوا كأن قوة خفية تقودهم نحو مصدر الرائحة الشهية.

 

“آه، أنتم هنا؟”

 

التفتت كاسيا، التي كانت منشغلة بالحركة في قاعة الطعام برفقة الطهاة، بابتسامة مشرقة وهي ترحّب بالفرسان.

 

كعكات مزينة بالكريمة والفاكهة، أطباق مقلية متنوعة، دجاجة فاخرة محشوة بالفواكه والمكسرات ومحمّصة كاملة…

 

مختلف أنواع الأطعمة كانت مصطفة على الطاولة.

 

وبمجرد رؤيتها، سال لعاب الفرسان لا إراديًا.

 

حدّقوا بكاسيا بعيون متسعة كالأرانب المذعورة.

 

“أيتها الضابطة الإدارية، ما كل هذا…؟”

 

ضحكت كاسيا بخجل وحكّت وجنتها بأصابعها.

 

“آ-آه، كنت أفكر أنه ربما يمكننا أن نقيم احتفالًا صغيرًا أو شيئًا من هذا القبيل.”

 

“احتفال؟”

 

“نعم. بما أن جميع المساكن قد أُعيد ترميمها بالكامل، ولأنكم مررتم بالكثير مؤخرًا، فـ…”

 

وبدا عليها خجل غير معتاد وهي تُحوّل نظرها بعيدًا.

 

“فكرت أن يكون من الجميل لو قضينا جميعًا يومًا واحدًا معًا.”

 

“……”

 

“……”

 

في تلك اللحظة، شعر الفرسان بانقباض مفاجئ في صدورهم.

 

هل سبق أن اعتنى بهم أحد إلى هذا الحد؟

 

بالتأكيد لا.

 

لقد بذل جيسكار كل ما في وسعه من أجلهم، وكانوا يبادلونه الاحترام والثقة، لكن مهام قائد فرسان الفيلق كانت ثقيلة للغاية لدرجة يستحيل له أن يمنحهم مثل هذا القدر من الاهتمام الشخصي.

 

فضلًا عن ذلك، كان كلٌّ من القيادة الشمالية والعائلة الإمبراطورية يغضّان الطرف عن فرسان الفجر اللازوردي .

 

وفي مواجهة كل تلك الصعوبات، لم يكن من الوارد حتى أن يحلموا برعاية حانية كالتي منحتهم إياها كاسيا.

 

“احتفال… حقًا؟”

 

“لم نختبر شيئًا كهذا منذ تأسيس الفيلق .”

 

وربما لأنها أساءت فهم صمتهم، أظلمت ملامح كاسيا قليلًا.

 

“إن كان هذا قد أزعجكم، فأنا آسفة. فقط… أردت—”

 

“ليس الأمر كذلك!”

 

“على الإطلاق!”

 

سارع الفرسان إلى مقاطعتها، ثم تبادلوا النظرات فيما بينهم، وكأنهم يزنون كلماتهم.

 

“لقد كنا قساة جدًا عليكِ، أيتها الضابطة.”

 

“ورغم ذلك، ظللتِ تعتنين بنا بهذا القدر…”

 

ثم انحنى جميع الفرسان أمامها.

 

“نحن حقًا آسفون.”

 

“وممتنون أيضًا.”

 

ارتبكت كاسيا بشدة وحاولت أن ترفعهم بسرعة.

 

“يا إلهي، ماذا تفعلون؟! انهضوا، أرجوكم!”

 

لكن، على وجهها أزهرت ابتسامة مشرقة لم تستطع كبحها.

 

أخيرًا… فتح الفرسان قلوبهم لها.

 

“أتطلع للعمل معكم جميعًا من الآن فصاعدًا.”

 

وفيما كانت هي والفرسان يتقاسمون هذه اللحظة الدافئة—

 

صرير

 

انفتح الباب، ودخل جيسكار.

 

“ما الذي يحدث هنا…؟”

 

وفي اللحظة نفسها، ارتجّت عيناه الزرقاوان كما لو أصابها زلزال.

 

فرسان ينحنون أمام كاسيا.

 

وكاسيا تحاول بجد أن تجعلهم ينهضون.

 

سقط الصمت الثقيل على المكان.

 

᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽