بالطبع، وعلى خلاف كاسيا الأصلية، لم أكن لأنطلق في التجوال داخل الموقع العسكري وحدي كالمجنونة.
كل ما فكرت به هو أن أخرج إلى غرفة المعيشة قليلًا، علّني أجد بعض التغيير.
وعندما وصلت، ألقيت نظرة متفحّصة حولي.
المكان كان ساكنًا على نحو غريب، يلفّه صمت ثقيل لا يقطعه شيء.
ولأكون صادقة، لم يكن يليق به حتى أن يُسمى غرفة معيشة.
كل ما كان فيه: طاولة قديمة مهترئة، بضع كراسٍ مهزوزة بأرجل غير متساوية، ومدفأة باردة لم تُشعل منذ زمن طويل لا أذكره.
إلى متى سيتركون هذا الأثاث البائس دون أن يبدلوه؟
تنهّدت في داخلي، ثم فجأة رفعت بصري نحو النافذة.
خلف الزجاج، كان الليل حالكًا، تتناثر فيه النجوم كقطع زجاج متكسّرة، تشع ببريقٍ أخّاذ.
متى كانت آخر مرة تأملت فيها السماء هكذا؟
غرقت في النظر إليها، وقد تملكني شرود عميق.
منذ انضمامي إلى فرسان الفجر اللازوردي، لم أذق طعم الراحة قط.
أوراق تكدّست فوق أوراق، ليالٍ طويلة بلا نوم، عمل متواصل لا ينتهي… لم يتبقّ أي وقت للترف أو الهدوء.
لقد مرّ زمن طويل منذ أن عشت ليلة على هذا النحو.
لكن، كلما أطلت النظر إلى عتمة السماء، شيء آخر كان يستيقظ بداخلي.
شيء مرعب… أسود كالحلكة… كابوسي يتسرب إلى عقلي رغماً عني.
انقبض وجهي تلقائيًا.
أنا خائفة.
حتى تغييري للمكان لم يجلب لي أي راحة.
الخوف لا يزال ينهشني…
خوف من الوحوش الشيطانية.
شبكت يدي المرتجفتين ببعضهما، محاوِلة تهدئة نفسي.
جرّبت أن أُشغل ذهني؛ أن أركّز على النجوم، أو على ما يشغلني من قضايا…
لكن لم يفلح شيء.
لن أنام الليلة.
ضغطت على أسناني بمرارة.
إن استسلمت للنوم الآن، ستنقضّ عليّ الكوابيس لا محالة.
ذكريات اليوم المرعب تحاصرني، تجرّني من كل اتجاه.
وفجأة وجدت نفسي واقفة وجهاً لوجه أمام وحش شيطاني.
كان ضخمًا، يحدّق بي من علوٍ، فمه الهائل يتسع كفوهة جحيم.
أسنان حادة كالسكاكين.
لعاب لزج يتقطر بغزارة.
وعيون لامعة شرسة، ترمقني وحدي.
كره متجسّد يطوّق عنقي.
رغبة جامحة في تمزيقي إربًا، والقضاء عليّ فورًا.
هل سأُقتل هكذا فعلًا؟
تمامًا كما في القصة الأصلية؟
وفجأة—
بوووم!
اهتزّت الأرض تحت قدميّ، وانفجر الوحش أمامي إلى شظايا.
تجمّد جسده كله بثلجٍ قرمزيّ متألّق، ثم تحطّم إلى قطع متناثرة.
في اللحظة نفسها، امتدت يد قوية تمسكني من كتفي وتجذبني إلى الخلف.
شعرت بصدركبير وصلب يلتصق بظهري.
وكفّ واسعة دافئة غطّت عيني برفق.
وصوت رجولي ثابت دوّى خلفي:
لا تقلقي.
كان صوتًا أعرفه جيدًا.
ما دمتُ هنا… فلن يُمسّ شعركِ بسوء، يا موظفة الإدارة أستريد.
بمجرد أن سمعت تلك الكلمات، توقّف ارتجافي فجأة… كأن سحرًا قد خفّف كل رعشاتي.
ثم—
“…موظفة الإدارة.”
“……”
“موظفة الإدارة، أستريد!”
شهقت!
كأنني كنت أغرق في هاوية، ليجذبني أحدهم فجأة إلى السطح.
لهاثي كان متقطعًا، وأنفاسي مضطربة.
أدركت أن جيسكار كان يقف أمامي، وقد سبقني بالاقتراب، يتأملني بعينين غارقتين بالقلق.
“هل أنتِ بخير؟!”
“…آه.”
حدّقت به مذهولة.
وبينما كانت الرؤية ضبابية، أخذت تتضح تدريجيًا.
معها صفا ذهني وكأن ماءً بارداً قد صُبّ على وجهي.
لقد انكشف خوفي تمامًا أمامه.
يا للعار…
احمرّ وجهي خجلاً.
لقد بدوت أضحوكة أمام جيسكار.
الفرسان الآخرون لم يرمش لهم جفن أمام تلك الوحوش.
أما أنا… فأي فارسة تتصرف هكذا؟
سارعت أتمتم:
“آسفة… إنها أول مرة أرى فيها وحشًا كهذا، فارتبكت قليلًا.”
لكن جيسكار حين سمع اعتذاري، شدّ شفتيه وكأن شيئًا أثقل صدره.
وعيناه الزرقاوان غاصتا في تفكير عميق، حتى اسودّ بريقهما.
وفجأة قال بحدة:
“ولماذا تعتذرين؟”
أربكني كلامه.
ما الذي أثار غضبه فجأة؟
هل قلت شيئًا خاطئًا؟
“من الطبيعي أن يشعر المرء بالخوف.
إن كان شخص ما قد عاش حياته مدنيًا، مثلك يا موظفة الإدارة أستريد، فهذا أوضح وأشد.”
تابع بصوتٍ صارم:
“حتى المدنيون العاديون، لمجرد رؤيتهم وحشًا، يُصابون بصدمة قد ترافقهم طوال حياتهم.
وأنتِ… ألم تكد حياتك تنتهي اليوم بسببه؟”
“…القائد؟”
ناديت اسمه بحذر.
فهو كان غاضبًا، هذا لا شك فيه.
لكن، وسط غضبه، أحسست بشيء آخر…
أنه يحاول مواساتي.
كان من الطبيعي لو أنه يقلق على سلامتي الجسدية.
فبما أنني أنتمي للعائلة الإمبراطورية، فقد يُثير وضعي الكثير من الإشكالات لو حدث لي مكروه.
حتى في القصة الأصلية، بعد مقتل كاسيا على يد وحش… انحدرت مكانة فرسان فجر اللازوردي إلى الحضيض.
لكن الآن—
شعرت أنه قلق فعلًا عليّ أنا.
ليس فقط على جسدي، بل على قلبي أيضًا.
ذلك الجانب من جيسكار بدا… غريبًا عليّ.
لم يكن ذلك أمرًا سيئًا—بل على العكس تمامًا.
غير أنّ هذا الإحساس الغريب، الدافئ والمرتبك في صدري… ما هو بالضبط؟
“……”
عضضت شفتاي السفلى بلا سبب واضح.
وفي هذه الأثناء، بدا أن جيسكار قد رتّب مشاعره أخيرًا.
“هاه…”
تنفّس زفرة طويلة، وكأنها خرجت من أعماق صدره، ثم أعاد ملامحه إلى رباطة الجأش.
وبنبرة خافتة، اعتذر:
“أنا آسف.”
كان صوته يحمل رسميّة واضحة.
“يا موظفة الإدارة أستريد… لم ترتكبي أي خطأ، ومع ذلك صببت غضبي عليكِ.”
“لا، لا بأس .”
أسرعت أنفي اعتذاره برأسي.
فمن الطبيعي أن يفقد المرء أعصابه قليلًا حين يكون قلقًا.
بل إنّ كون هذا القائد الصارم المعتاد قد أظهر مشاعره على هذا النحو…
لقد شعرتُ فعلًا أنه بدأ يتقبلني كرفيقة سلاح.
وما إن اجتاحتني تلك الموجة من العاطفة—
حتى دوّى صوت خافت:
“في الحقيقة… حتى أنا أشعر بالخوف أحيانًا.”
“هاه؟”
اتسعت عيناي بدهشة من كلماته غير المتوقعة.
تمتم جيسكار بنبرة تحمل تنهيدة مكتومة:
“في كل مرة أواجه فيها وحشًا… ينتابني خوف. خوف من أن أفقد أحد فرساني. من أن يموت أحد بسبب وحش لم أتمكّن من إيقافه.”
“هذا…”
“وحين ينفد إكسير التطهير، ويعجز فرساني عن استخدام الهالة كما ينبغي، ويعانون من آثار الإرهاق… أشعر بالغضب من عجز نفسي. لكن—”
رفع جيسكار بصره نحوي بهدوء.
وعيناه الزرقاوان العميقتان، كان فيهما دفء غريب…
هل كان ذلك محض خيال؟
“أنتِ، أستريد… أنتِ من حللتِ كل تلك المشاكل.”
“القائد…”
“لم أعد أخشى فقدان أحد فرساني عبثًا. وهذا—”
نطق كلماته بوضوح، مؤكّدًا على كل حرف.
“—كله بفضلك، أستريد.”
“أنت تبالغ.”
أجبته وأنا أشعر بارتباك يتملكني.
“هذا عملي فحسب.”
نعم، هذا ما هو عليه.
وظيفة موظف الإدارة هي توفير الموارد ودعم الفرسان، وضمان أن يحظوا بظروف مريحة للعيش.
لكن جيسكار هزّ رأسه معترضًا:
“قد تسمينه عملك، لكن الحقيقة أنه ليس كذلك.”
وأضاف بجدية:
“إنها المرة الأولى.”
“المرة الأولى؟ في ماذا؟”
واصل جيسكار كمن عزم على قول كل ما في قلبه:
“المرة الأولى التي يحظى فيها فصيلنا بموظف إدارة يهتم بهم. المرة الأولى التي تُزوَّد فيها جماعتنا بإكسير التطهير بوفرة. المرة الأولى التي يهتمّ أحد حقًا براحة الفرسان وصحتهم. و—”
عضّ على شفته السفلى قليلًا، ثم أنهى حديثه بصوت منخفض:
“…المرة الأولى التي يغضب فيها أحد من أجلنا.”
“القائد…؟”
“كل ما فعلتِه—أستريد—كنتِ أنتِ الأولى.”
لماذا يرفعني إلى هذه المرتبة فجأة؟
شعرتُ بالارتباك وأنا أبادله النظرات.
لكن عينيه كانتا صادقتين، تخلوان من أي تكلّف.
ثم—
“وإن كان متأخرًا… شكراً لكِ، حقًا.”
انحنى جيسكار برأسه بعمق نحوي.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 44"