“……”
“……”
ساد الصمت مجددًا.
لقد كانت كلمات كاسيا واضحة وضوح الشمس، لا تترك مجالًا للجدال.
ومع ذلك، بقي شخص واحد يحاول التمسك بأي شيء حتى النهاية.
“هـ-ذلك الحجر لم يُخصص لنا! بل أُعطي إلى فرسان الفجر الأزرق، أليس كذلك؟!”
كان المتكلم هو قائد فيلق الفرسان الرابع نفسه، وقد صار الآن محاصرًا بلا مخرج.
وبينما كان يتلفت في ذعر، التقت عيناه بعيني السير جيرارد.
عندها التوت ملامحه في عبوس قبيح.
“نعم! نائب القائد هو من بدّل أحجار الحاجز سرًا!”
تشبّث قائد الفيلق الرابع باتهامه للسير جيرارد، صارخًا:
“لقد تآمرت مع فرسان الفجر اللازوردي لتلفيق التهمة لي، أليس كذلك؟!”
لكن ملامح السير جيرارد تحولت إلى برود قاتل.
“يا قائد… هل تظن أنني رجل دنيء مثلك؟”
اتسعت عينا قائد الفيلق الرابع غضبًا.
“أيها الوغد؟!”
“أنصحك أن تنتقي كلماتك بعناية.”
واجهه السير جيرارد مباشرة، دون أن يتراجع ولو خطوة.
“لن أسمح لك بعد الآن بأن تدنس شرفي.”
وفي تلك اللحظة، تقدّم جيسكار إلى الأمام.
“تصرّ على إذلال نفسك حتى النهاية، يا قائد الفيلق الرابع.”
“سير رومانوف!”
“هل تظن حقًا أننا لن نعرف أنك سرقت حجر الحاجز الخاص بنا؟”
ولزيادة الطين بلة، تكلّم حتى السير باتريك، الذي ظل صامتًا طوال الوقت.
“لقد رأيت الأمر بنفسي.”
“رأيت ماذا؟!”
بوجه متحجّر كالصلب، حدّق السير باتريك في عيني قائد الفيلق الرابع.
“رأيتك تأخذ حجر الحاجز من مخزننا.”
ارتسمت الدهشة على وجه القائد.
“أكاذيب!”
حينما فرّت الوحوش من الختم، كان في عجلة كبيرة.
كان عليه أن يستبدل أحجار الحاجز قبل أن يكتشف فرسان الفجر اللازوردي أمره.
فتسرّع ودخل أقرب مخزن، وأخذ أول حجر حاجز وصلت يده إليه.
لكن بعد خروجه أدرك أن الحجر يخصّ فرسان الفجر الأزرق.
ومع ذلك، لم يقلق حينها.
فالأحجار كلها كانت متشابهة، وفكّر: “ما دمت أبدلها قبل أن يلاحظ أحد، فلن تكون هناك مشكلة.”
لكن ما لم يتوقعه… أن تكون الأحجار قد عُدّلت بوسم سرّي.
“اللعنة… من كان ليتخيّل أنهم عبثوا بالأحجار…”
بدأ قائد الفيلق الرابع يتراجع للخلف بلا وعي.
ولو استطاع، لفرّ هاربًا في تلك اللحظة.
“قيّدوه فورًا.”
أصدر جيسكار الأمر ببرود.
تشنج وجه القائد رعبًا.
“م-ماذا تقول؟! أنا قائد الفيلق الرابع! كيف تجرؤون على معاملة قائد زميل بهذا الشكل؟!”
لكن جيسكار واجهه بنظرة صارمة كالحديدة:
“أليس من واجب القائد أن يحمي الإمبراطورية، ويحرس المدنيين، ويؤدي واجبه؟”
“وأنت لم تفعل شيئًا من هذا. وبذلك فقدت حقك في أن تُدعى فارسًا.”
“سير رومانوف!”
“وعليه… لم تعد قائدًا. بل أصبحت فقط…”
تلألأت عيناه الزرقاوان بالاحتقار والاشمئزاز.
“…مجرد قمامة دنّست ختم البوابة وتسببت في إطلاق سراح الوحوش.”
في اللحظة نفسها، اندفع فرسان الفجر اللازوردي وأمسكوا بقائد الفيلق الرابع.
أداروا ذراعيه إلى الخلف، وقيّدوه بالقوة.
“أتركوني—آااخ! هذا مؤلم!”
صرخ القائد وهو يتخبط بعنف.
“أ-أنا ابن شقيق القائد الأعلى! أتظنون أنكم ستفلتون من العقاب إن عاملتموني هكذا؟!”
لكن محاولاته اليائسة باءت بالفشل أمام فرسان الفجر اللازوردي الذين صقلتهم سنوات القتال.
وفي تلك الأثناء، كان فرسان الفيلق الرابع مذهولين وهم يشاهدون قائدهم يُقيد.
“ق-قائد!”
“لكن… أليس هذا عقابًا قاسيًا بعض الشيء؟…”
عندها فجأة، رفعت كاسيا يدها إلى جبينها، متظاهرة بالوهن.
“آه… أشعر بدوار شديد… أظن أنه سأغشى عليّ.”
“المسؤولة أستريد؟!”
تفاجأ جيسكار والتفت إليها بسرعة.
ظهرت كاسيا بمظهر الضعف، وارتجفت عيناها القرمزيتان تحت ظل رموشها الكثيفة، وقالت بصوت خافت مرتجف:
“فقط… هذا الحادث جعلني أدرك كم كنت قريبة من الموت حقًا.”
“……”
“……”
تجمد فرسان الفيلق الرابع عند سماع كلماتها.
نعم… لقد كان كل شيء فوضويًا للغاية فلم يستوعبوا فداحة الموقف.
لكن الحقيقة كانت واضحة:
هذه الحادثة وضعت الأميرة الشرعية الوحيدة للإمبراطورية على حافة الموت.
حتى لو كانت مشاغبة ومتهورة… فهي ما تزال أميرة.
ومجرد أن أحد أفراد الدم الإمبراطوري تعرض للهجوم يعني أن العائلة المالكة ستتعامل مع الأمر بمنتهى الجدية.
وفوق ذلك، فإن أسرة دياز الدوقية، أقوى بيت نبيل في الإمبراطورية وعائلة كاسيا من جهة الأم، ستتدخل بالتأكيد في القضية.
لكن ما كان أشد وقعًا من كل ذلك…
“أن سبب هذه الكارثة… هو نحن—فيلق الفرسان الرابع.”
ابتلع الفرسان ريقهم بارتباك، بلا وعي.
كان أمرًا أن يصدر القائد أوامره بتأجيل استبدال حجر الحاجز.
لكن الخطأ الأكبر أنهم أطاعوه.
والآن… ومع وجود حجر الحاجز المنقوش كدليل لا يُدحض، أصبحت المسؤولية واقعة عليهم جميعًا بلا مفر.
وضعت كاسيا يدها على جبينها وكأنها مثقلة بالدوار، ثم قالت بصوت عالٍ يكفي ليصل إلى مسامع الجميع:
“قائد فيلق الفرسان الرابع، بدلًا من أن يكون قدوة لفرسانه، أهمل واجبه، وحاول إخفاء الأدلة، بل وسعى لتلفيق التهمة على فرسان الفجر الأزرق؟”
ولشخص ادّعى أنها على وشك الإغماء، كان صوتها ونبرتها صافيين، حادّين، وراسخين.
“إنني أشعر بخوف شديد… أظن حقًا أنه يجب تقييد قائد الفيلق الرابع على الفور.”
“……”
“……”
ساد صمت ثقيل في المكان.
جرأتها الوقحة جعلت حتى فرسان الفجر الأزرق يتجمدون من الدهشة لوهلة.
أما قائد الفيلق الرابع فقد بدا عاجزًا عن إخفاء ارتباكه.
في حين أن شراسة اتهاماتها المباشرة قد نزعت الدماء من وجوه فرسان الفيلق الرابع، فصاروا شاحبين كالأشباح.
ثم فجأة—
“إذن…”
“لم يعد أمامنا سوى خيار واحد.”
تبادل فرسان الفيلق الرابع النظرات، ثم اندفعوا نحو قائدهم نفسه.
“قائد، أرجوك ابقَ هادئًا!”
“إن تركنا الأمور تتفاقم أكثر من هذا، سنُباد جميعًا!”
وفي النهاية، اتخذ فرسان الفيلق الرابع قرارهم—
التخلّي عن قائدهم.
*باعوه ههههههههههههههه *
“ك-كيف تجرؤون؟! ألهذا تخونونني؟!”
صرخ القائد وهو يتخبط، لكن فرسانه لم يترددوا لحظة.
وفي النهاية، أُجبر على الركوع أرضًا على يد رجاله أنفسهم.
كان السير جيرارد يراقب المشهد بوجه غارق في التعقيد.
فهذا الرجل الذي دمّر حياته يومًا… قد حان دوره الآن ليتذوق السقوط.
“ههه.”
لم تستطع كاسيا إخفاء ابتسامة الرضا على وجهها.
أما جيسكار…
“مبهرة.”
كانت عيناه الزرقاوان المتألقتان بالإعجاب مثبتتين على كاسيا.
هذه الأميرة التي قضت حياتها كلها داخل جدران القصر محمية من كل الأخطار…
ظاهريًا، بدت متماسكة، لكن لا شك أن أحداث اليوم كانت صادمة لها بقسوة.
ومع ذلك، لم يستغرق الأمر منها سوى لحظة واحدة لتستعيد رباطة جأشها، وتُقيّم الوضع، وتحدّد ما يجب فعله بدقة.
لم تكتفِ بذلك فقط، بل أمسكت زمام الموقف بيدها وقادت الجميع إلى حل حاسم وسريع.
إنها وبلا شك… بصمة القائد الحقيقي.
“أكثر كفاءة من الأمير فيرناندو بكثير…”
وبينما ظلّت عيناه معلقتين بعينيها الحادتين المتقدتين، تسلل هذا الاعتراف إلى أعماقه من غير وعي.
***
وأخيرًا… انتهى اليوم الطويل.
كنتُ قد قررت مع جيسكار أن نعود إلى مقر فرسان الفجر الأزرق في الغد.
ولكي نتمكّن من المغادرة باكرًا، كان عليّ أن أنام قليلًا.
لكن—
“…لا أستطيع النوم.”
كنت أحدّق بالسقف البالي بعينين مفتوحتين على اتساعهما.
“بصراحة… لقد شعرت بخوف حقيقي.”
كانت يداي متعرّقتين من العرق البارد، فقبضت على الغطاء بإحكام وكأنني أتشبث به.
تذكرت اللحظة التي واجهت فيها الوحش.
لمجرد استدعاء تلك الذكرى، أخذ جسدي كله يرتجف بلا سيطرة.
أنفاسه اللاهبة وهي تلسع وجهي.
نظراته الوحشية المخترقة التي التصقت بعيني.
عداؤه الخامّ الذي شعرت به يلسع جلدي.
مطاردته العنيدة وكأنني فريسته الوحيدة.
“لا… عليّ أن أتوقف عن التفكير في هذا.”
حاولت أن أجرّ نفسي إلى أي موضوع آخر.
“على الأقل، خرجت بفائدة من أحداث اليوم.”
وأعظم نتيجة بلا شك كانت فرصة التخلص رسميًا من قائد الفيلق الرابع.
وبينما أنا في ذلك، يمكنني كذلك أن أطهّر بعض الفرسان الوقحين الذين كانوا يدينون له بالولاء.
“قد يكون من الحكمة أن أعزّز مكانة السير جيرارد هنا.”
فلو أصبح قائدًا، لَما اضطر فرساننا إلى المعاناة في التعاون مع الفيلق الرابع مستقبلًا.
لكن…
“هاه…”
زفرت تنهيدة ثقيلة.
مهما حاولت أن أوجّه فكري إلى اتجاه آخر، بقيت ظلال تلك المواجهة الحالكة ماثلة أمام عيني.
وما إن أدركت حتى وجدت أطراف أصابعي التي تقبض على الغطاء قد تجمّدت من البرد.
“لا فائدة…”
البقاء مستلقية هكذا لن يجلب النوم.
فنهضت فجأة جالسة.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
التعليقات لهذا الفصل " 43"