“…هذه الحادثة… تقع مسؤوليتها على عاتق كتيبتنا الرابعة على الأرجح.”
“…….”
“…….”
مع هذا التصريح المفاجئ الذي دوّى كالقنبلة، خيّم الصمت على المكان كما لو صُبّت دلاء من الماء البارد فوق الرؤوس.
وحده السير جيرارد ظلّ متماسكًا.
“ولأكون أكثر دقة…”
تحولت نظرات السير جيرارد صوب قائد الكتيبة الرابعة.
“إن من دبّر الأمر هو قائدنا، أما الفرسان التابعون له فقد اكتفوا بتنفيذ أوامره.”
“ماذا؟!”
اتسعت أعين فرسان فجر اللازورد ذهولًا.
“ما الذي تقوله بحق السماء، يا نائب القائد؟!”
أما فرسان الكتيبة الرابعة فقد رمقوه بنظرات غاضبة، وارتفعت أصواتهم احتجاجًا.
أما قائدهم—
“أي هراء يثرثر به ذلك الرجل الآن؟!”
فقد تظاهر على السطح بالحنق، فيما قلبه يغوص في الرعب.
غير أن السير جيرارد استمر في حديثه بهدوئه المعهود ونبرته الرصينة:
“ولذا… وإن تأخرت، فإني أنوي أن أضع الأمور في نصابها الصحيح.”
“…….”
“…….”
عشرات الأعين صارت مركزة على السير جيرارد.
لكنه واجهها جميعًا بتعبير ثابت لا يتزعزع.
في الحقيقة، تلك المشاعر التي انعكست في عيون فرسان الكتيبة الرابعة لم تكن غريبة عليه:
عداء… كراهية… ضيق… وغضب.
لكن، في المقابل، كان ما رآه في أعين فرسان فجر اللازورد شيئًا آخر، شيئًا لم يعتد عليه:
بصيص أمل، توقع… و— امتنان لمن امتلك الشجاعة ليجهر بالحقيقة.
“…….”
وجد السير جيرارد نفسه يستشعر شعورًا غريبًا.
كم مرّ من الزمن منذ آخر مرة وُجهت إليه مثل هذه النظرات؟
وفي تلك اللحظة، التقت عيناه بعيني كاسيا.
فابتسمت على الفور بابتسامة مشرقة واثقة، كأنها تقول له:
قل كل ما ترغب بقوله.
وكأن تلك النظرة قد شحنت صوته بالقوة، فتابع قائلاً بحزم:
“على أقل تقدير، من المؤكد أن قائدنا كان على علم باحتمال هروب الوحوش الشيطانية.”
“جيرارد! هل تدرك أيّ هراء تنطق به؟!”
ارتفع صوت القائد صارخًا، أشبه بالعويل.
لكن السير جيرارد ظل ساكنًا، لا يتأثر بالانفجار الغاضب.
“بل وحاول التستر على الأمر.”
ثم حوّل بصره برفق نحو أحد الفرسان تحديدًا.
“أليس كذلك، يا سير مونتيرو؟”
“…….”
تجمد الفارس الذي نودِيَ فجأة في مكانه، وقد اتسعت عيناه من الذهول.
مستحيل…
قبل قليل فقط، حين تلقى السير مونتيرو سرًا أمر القائد باستبدال حجر الحاجز—
تدخل السير جيرارد، وعرض أن يتولى هو المهمة بنفسه.
في ذلك الوقت، ظنّ مونتيرو أن الأمر مجرد صدفة سعيدة أزاحت عنه عبئًا ثقيلًا…
لكن… كنتَ تعرف كل شيء مسبقًا؟! وفعلت ذلك عمدًا؟!
تتابعت كلمات السير جيرارد في شرح هادئ:
“لقد أمر قائدنا السير مونتيرو باستبدال حجر الحاجز، لكني تطوعت للقيام بالمهمة بنفسي. غير أن…”
حبس الفرسان أنفاسهم، وأصغوا بكل جوارحهم.
“للأسف، في تلك اللحظة تحديدًا انفلتت الوحوش الشيطانية، واضطررت أنا ووحدتي للانشغال في صدّها. ومع ذلك… حجر الحاجز الخاص بنا ما زال سالمًا .”
ألقى السير جيرارد نظرة عابرة على الحجر الشفاف المتوهج.
“هذا مجرد استنتاج مني، لكني أعتقد أن قائدنا استغل الفوضى ليستبدل الحجر الملوث بآخر سليم مسبقًا. ثم…”
تنحنح قليلًا، قبل أن يختم بيانه بحزم:
“تم وضع الحجر الملوث في مكان حجر فرسان فجر اللازورد.”
“…….”
“…….”
ساد صمت ثقيل حتى خُيّل أن إبرة تسقط قد تُسمع بوضوح.
ثم فجأة—
“إذن، أولئك الأوغاد…”
بمجرد أن نطقت كلمات السير جيرارد، اسودّت ملامح فرسان فجر اللازورد على الفور.
“حاولوا إلصاق خطأهم بنا؟!”
زمجر السير رودريغو، لينفجر السخط في صفوفهم.
“يا للوقاحة! وبعد كل ذلك التعالي علينا؟!”
“أما عندهم ذرة من شرف كفرسان؟!”
“لو كان فيهم ذرة حياء، لما ارتكبوا مثل هذا الفعل المشين!”
ارتفعت أصوات فرسان فجر اللازورد بغضب موحّد.
أما فرسان الكتيبة الرابعة، فقد كان من الصعب عليهم تصديق مزاعم السير جيرارد.
“ه-هذا كذب!”
“يا نائب القائد، ما الذي تفعله بحق؟!”
“كيف تجرؤ على تشويه سمعة رفاقك؟!”
نائب القائد.
ما إن دوّى ذلك اللقب في آذانه، حتى ارتسمت على شفتي السير جيرارد ابتسامة باهتة.
لطالما عاملوه كمهمّش منبوذ.
لكن، الآن وقد صاروا في مأزق، تذكّروا فجأة لقبه؟
“لقد اتبعت ببساطة صوت ضميري كفارس.”
قالها بهدوء، ثم أعلن بثبات لا يتزعزع.
غير أن قائد الكتيبة الرابعة لم يكن ليسمح للأمر أن ينتهي هكذا بسهولة.
“هـ-هذا محض افتراء!”
وأشار بإصبعه متهمًا السير جيرارد وهو يرفع صوته:
“لا يوجد أي دليل سوى شهادة هذا الرجل!”
وفي تلك اللحظة—
“أوه، في الواقع…”
قاطع صوت صافٍ واثق الجدل المحتدم بين الرجلين.
لقد كانت كاسيا.
نظرت إلى الاثنين بالتناوب، ثم ابتسمت بهدوء.
“هناك دليل.”
ماذا؟!
بدت على قائد الكتيبة الرابعة ملامح من كان على وشك الإغماء من هول الصدمة.
“هذا مستحيل!”
وفي اللحظة نفسها، اتسعت ابتسامة كاسيا أكثر، مشبعة بالثقة الكاملة.
“الدليل أمامكم مباشرة.”
بإيماءة مبالغ فيها، أشارت كاسيا بيدها نحو اتجاه معيّن.
أصبعها الممتد توقف عند…
“حجر الحاجز؟”
تمتم أحد فرسان الفيلق الرابع بنبرة مشككة.
وكان ذلك منطقيًا—فلم يكن لديهم أي سبب لتوقع شيء كهذا.
لقد أشارت كاسيا إلى حجر الحاجز الخاص بهم هم أنفسهم.
حتى وسط الظلام، كان الحجر يتلألأ بصفاء وشفافية.
“كيف يُفترض أن يكون هذا دليلًا؟”
“لا أعلم… ولكن…”
بدأ الفرسان يتهامسون بينهم.
وفي تلك الأثناء، التفتت كاسيا نحو جيسكار.
“أيها القائد.”
“ما الأمر، يا أيتها الضابطة الإدارية أستريد ؟”
بصوت ماكر، تقدمت كاسيا بطلب:
“هلّا ضخَختَ بعض الهالة في حجر الحاجز ذاك؟”
ارتبك الفرسان.
“الهالة؟ في حجر الحاجز؟ لماذا؟”
“وما الفرق الذي سيُحدثه ذلك؟”
لكن ردّ فعل جيسكار كان مختلفًا.
فكأن شيئًا ما قد خطر بباله، إذ تلألأت عيناه الزرقاوان بالفضول.
“…حسنًا.”
أومأ بثقة، وتقدّم نحو حجر الحاجز بخطوات ثابتة.
انتزع الحجر من البوابة المختومة، وضخ فيه هالته.
سرعان ما امتلأ الحجر الشفاف بهالة زرقاء عميقة.
وبالتزامن مع ذلك، ظهرت أحرف متوهجة…
[A. D. K]
الأحرف الأولى لاسم فرسان الفجر اللازوردي.
تألقت الأحرف الثلاثة في الظلام بضياء أزرق براق.
“ما هذا بحق …؟”
“أليست هذه… الأحرف الأولى لفيلقنا؟”
انتشرت الهمسات بين صفوف الفيلقين.
وفي تلك اللحظة، تحدثت كاسيا ببرود:
“إذن… ماذا تقولون الآن، يا فرسان الفيلق الرابع؟”
تشنجت أجسادهم فور سماعها، دون وعي.
لكن كاسيا، غير مبالية، تابعت:
“أنا على دراية تامة بمدى إهمالكم في أداء واجبات الدوريات. وعندما تنشأ المشاكل بسبب ذلك الإهمال، تلقون عبء التنظيف على عاتقنا بكل بساطة.”
“هـ-هذا غير صحيح…!”
حاول أحد فرسان الفيلق الرابع الاعتراض،
لكن كاسيا اكتفت بهز كتفيها وأكملت:
“لقد بلغني أن الوحوش تمكنت بالفعل من الهرب مرتين بسبب الأختام الضعيفة. وفي كلتا المرتين، كان فيلقنا هو من اضطر للتعامل مع العواقب.”
ساد صمت ثقيل.
ارتبك الفرسان الرابعون، عاجزين عن الرد.
تابعت كاسيا ببطء، مستغلة صمتهم:
“وبالنظر إلى كل ذلك، لم يسعني سوى أن أفكر مليًا.”
عيناها القرمزيتان، الباردتان كالجليد، جالتا على وجوههم الشاحبة واحدًا تلو الآخر.
“إن لم يعد فرساني راغبين في حمل عبء إخفاقاتكم…”
تركت كلماتها معلّقة، قبل أن ترسم ابتسامة جليدية.
“…فماذا يُفترض بنا أن نفعل؟”
أثارت كلماتها شيئًا عميقًا في نفوس فرسان الفجر اللازوردي.
كلمتها: “فرساني”.
قد لامست قلوبهم مباشرة.
“لهذا السبب نقشنا علامتنا على أحجار الحاجز المخصصة لفيلقنا. بحيث تظهر أحرفنا الأولى عند ضخ الهالة فيها.”
اختتمت حديثها، ثم التفتت نحو قائد الفيلق الرابع.
كان وجهه شاحبًا كالميت، وقد تلاشى لونه كليًا.
تطلعت كاسيا في عينيه المرتجفتين بثبات، ثم وجهت الطعنة الأخيرة:
“وفوق ذلك… هذه الدفعة من أحجار الحاجز لم تُوزَّع إلا مؤخرًا.”
“مستحيل!”
اتسعت عينا قائد الفيلق الرابع، وارتجفت حدقتاه كما لو أن زلزالًا أصاب روحه.
“بمعنى آخر…”
أعلنت كاسيا بحزم، مراقبة رد فعله:
“إن وجود حجر كهذا هنا، هو بحد ذاته الدليل على أن أحدهم قد بدّله.”
…
شعر القائد بأن قواه تتسرب من جسده.
أما ابتسامة كاسيا، فقد ازدادت عمقًا.
لكن نظرتها صارت أكثر حدّة من أي وقت مضى.
“لأن الأحجار التي تحمل علامتنا لم تكن قد وُزعت بعد حين كان من المفترض استبدال الأحجار الأصلية.”
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
التعليقات لهذا الفصل " 42"