الفصل الرابع
“…هل تقولين حقاً إنك ترغبين في الانضمام إلى فرساننا؟”
“نعم، هذا ما أريده.”
أومأتُ برأسي بجدية لأُظهر إخلاصي.
عندها تجعّد وجه جيسكار.
“أرجوكِ أعيدي التفكير. حياة الفارس شاقة للغاية.”
“لا بأس. فأنا لا أنضم طلباً للراحة، كما تعلم”
هززت كتفي بخفة وأضفت بنبرة مازحة:
“إنني أنضم لأؤدي واجبي بما يفرضه النُبْل، أليس كذلك؟”
“…….”
جيسكار، الذي أصيب بالذهول للحظة، قبض على أسنانه وقال مجدداً:
“سيتعيّن عليكِ ارتداء زيّ الفرسان فقط، لا تلك الفساتين الفاخرة التي ترتدينها عادةً، يا صاحبة السمو.”
“أوه، هذا رائع. لقد بدأ يُزعجني التفكير بما سأرتديه كل يوم بالفعل.”
“كما أنه لن يكون هناك حلويات فاخرة، ولا شاي أسود، ولا سكر.”
“جيد. في الحقيقة، أشعر أنني أُفرط في الأكل مؤخراً، وكنت أفكر في التخفيف من الحلويات.”
“لا… ماذا بحق…؟”
حدّق بي جيسكار فاغراً فاه بوجه مذهول.
لماذا؟ أليس من الجيد أنني أفكر بجدية في التجنيد؟
أترى؟ لهذا السبب لا يجب أن تستفز الناس بتهوّر، أليس كذلك؟
ابتسمت بخبث.
وفي الوقت نفسه، تصلّبت كتفا جيسكار.
عيناه المرتجفتان بدتا وكأنهما شهدتا رعباً كونياً… لا، هل يكره كاسيا إلى هذا الحد؟!
لكنني كنت قد عقدت العزم مسبقاً على رفض أي اعتراض.
“على حد علمي، فإن فرسان فجر اللازورد يقبلون الأعضاء طالما وافق عليهم القائد، أليس كذلك؟”
النص الأصلي كان قد أوضح أن الأمر لا يحتاج إلى إذن من العائلة الإمبراطورية ولا من المقر العام.
وذلك لأن جيسكار حين أسّس الفيلق كان قد اشترط قدراً أدنى من الاستقلالية.
“هذا…”
تردّد جيسكار متلعثماً.
رمقته بنظرة حادّة تشتعل نيرانها في عيني.
“نعم؟ أليس كذلك؟”
“ن… نعم، هذا صحيح.”
أجاب جيسكار أخيراً، ووجهه يتجعّد وكأن أحدهم أرغمه على ابتلاع دواء مُرّ.
هاه! ما رأيك الآن، أليس هذا شعور من ركل نفسه بقدمه؟
“هو هو هو.”
قهقهتُ ضاحكةً بخبث، بينما أفاق جيسكار متأخراً واحتج بيأس:
“أنا لا أريد أن أقضي حياتي العسكرية مع امرأة قد تتسلل إلى سريري! ذلك سيؤدي إلى خرق للانضباط العسكري!”
لكن لم تكن لدي أي نية للتخلي عن زمام المبادرة الذي انتزعته أخيراً.
“سير رومانوف، أليس هذا شيئاً من تضخيم الأنا؟”
هززت رأسي بحزم وحدّقت فيه وأنا أبسط أصابعي، ثم بدأت أطويها واحدة تلو الأخرى.
“لقد اعتذرتُ عن تمسكي بك طوال الفترة الماضية.”
إصبع أول.
“ووعدتُ أنني لن أتشبث بك مجدداً.”
إصبع ثانٍ.
“وكاعتذار عن وقاحتي السابقة، وافقتُ على تزويدك بإكسير التطهير بشكل عاجل.”
إصبع ثالث.
عندها ارتجفت حدقتا عينيه كما لو أن زلزالاً أصابهما.
“أنتَ من قلتَ لي أن أنخرط أولاً، يا سير رومانوف.”
قلتُ ذلك وذراعاي متقاطعتان، أنظر إليه بابتسامة متعجرفة.
“لماذا؟ هل تخشاني”
وبمجرد أن أضفت كلمة ” تخشى” إلى سؤالي، حتى انتفخ عرق بارز في جبينه.
تابعتُ بلهجة مرحة مبتسمة:
“في النهاية، إن أصبحتُ الضابط الإداري في فرسان فجر اللازورد، فسأنتهي كتابعة تحت قيادتك، أليس كذلك؟”
“حسناً، هذا صحيح، ولكن…”
“إذاً ستُمنح الحق القانوني في ضبط تصرفاتي. فما المشكلة إذن؟”
أعدتُ استفزازه مجدداً.
“أما تلك المشاكل الأخرى التي كنتَ تقلق بشأنها، مثل… إذا تسببتُ بخرق للانضباط العسكري.”
خطوتُ خطوة أقرب منه.
وفي تلك اللحظة تدفقت إلى ذهني صور أفعال كاسيا الشائنة تجاه جيسكار كعرض بانورامي…
يا إلهي، كاسيا!
حتى لو كنتِ مدللة، كيف تجرؤين على لمس شفتيه عشوائياً هكذا؟!
آه… أنا محرجة لدرجة أنني قد أموت!
لكنني حاولت جاهدة أن أبدو غير مكترثة وأنا أُكمل كلامي:
“في تلك الحالة، تفضّل بمعاقبتي وفقاً للقانون العسكري.”
بصراحة، كنت أعتقد أن بطلنا الملتزم بالمبادئ هذا، وبسبب حساباته لموقف البلاط الإمبراطوري، لن يُقدم على معاقبتي فعلاً.
‘هذا يكفي لتهدئة جيسكار، أليس كذلك؟’
بهذا الحكم في ذهني، واجهته بثقة.
ثم…
‘هاه؟’
رمشتُ بعيني في ذهول.
ذلك لأن جيسكار الذي أمامي كان يرمقني بوجه مشوّه، وعينين تلمعان بغضب.
لا… لماذا يُخرج فجأة مثل هذا التعبير؟!
“القانون العسكري، تقولين. يبدو أن الأميرة ما زالت تعيش في حديقة الزهور.”
“سيدي؟”
“هذه الإمبراطورية الملعونة… لو كانت بلداً تُحترم فيه المبادئ حقاً…”
عضّ على فكه بشدة، غير قادر على كبح جماح غضبه.
“لما اضطررتُ لأن أكون هنا اليوم.”
في تلك اللحظة، لفتت بقع الدم الجافة الملتصقة بزيّ جيسكار انتباهي بوضوح.
‘آه…’
شعرتُ بقشعريرة تسري على ظهري.
” هاه، لا بأس…”
في الوقت نفسه، زفر جيسكار تنهيدةً مُرفقة بابتسامة، وهو يمسح جبهته بكفه.
لكن المشاعر الكامنة وراء تلك الابتسامة كانت…
إرهاقاً عميقاً واستسلاماً مريراً.
“حقاً… ماذا أفعل هنا أصلاً؟”
“انتظر، يا سيدي.”
“أنا راحل الآن.”
“سيدي!”
وبذلك، استدار جيسكار وغادر، والريح الباردة تلفح الفراغ الذي خلّفه وراءه.
كان ظهره المتباعد يبدو مرهقاً للغاية لدرجة أنني لم أستطع أن أوقفه.
وعوضاً عن ذلك…
“انتظرني فحسب، يا سير رومانوف!”
في الشرفة الصامتة، حيث لا أحد سواي، تردّد صدى ندائي الحازم في الأجواء.
“سأجعل فرسان فجر اللازورد أغنى فيلق فرسان على الإطلاق!”
بعد أن تركتُ جيسكار يرحل على ذلك النحو،
جررتُ خطواتي المثقلة عائدة مباشرة إلى قصر الأميرة.
“س… صاحبة السمو؟”
ارتبكت الخادمات اللواتي رأينني فجأة، وجمدت أجسادهنّ تلقائياً.
شحب لون وجوههن وكأن أحداً يطوّق أعناقهن بخناق غير مرئي…
‘حقاً، أي شخص سيظن أنهن قد رأين شبحاً للتوّ.’
تمتمتُ في داخلي باستياء، ثم أسرعتُ أعيد التفكير.
حسناً، من وجهة نظر الخادمات، كاسيا أشدّ رعباً من الأشباح.
فهي دأبت على إمساك الخادمات كالفئران متى شعرت بالملل، وتوبيخهن لساعات طويلة.
وأحياناً، لم تتردد حتى في رفع يدها عليهن إذا كانت في مزاج سيئ…
لذا، من منظورهن، لا يتنفسن الصعداء إلا عندما تكون الأميرة في الولائم.
‘لكن هذه الأميرة المزعجة عادت إلى القصر مبكراً على غير العادة، أليس كذلك؟’
عادةً، لا تعود كاسيا في مثل هذا الوقت.
فزهرة المجتمع الراقي كانت تقضي روتينها المعتاد في الاستمتاع بالولائم حتى ساعات الصباح الأولى، لتُحمل بعدها شبه فاقدة للوعي.
‘يا للعجب… حتى أنا لو كنت مكانهن لكنت أكرهها.’
نقرتُ بلساني في داخلي، ثم لوّحت بيدي ببرود لأصرف الخادمات.
“يكفي. يمكنكن الانصراف جميعاً. أريد أن أرتاح.”
“حاضر!”
أطاعت الخادمات على الفور وهرعن إلى الخارج.
ثم…
“هااااااه…”
وحين بقيت وحدي، أطلقتُ تنهيدة طويلة خرجت من أعماق صدري.
آخر صورة رأيتها لجيسكار ظلت تتكرر أمام عينيّ.
‘لقد بدا جيسكار مرهقاً فعلاً.’
وجهه الخالي، كما لو كان وحيداً في عاصفة شتاء أبدي.
بالطبع، ذلك الوغد جيسكار متشدّد للغاية، ولا يتردد في انتقاد أفراد العائلة الإمبراطورية نفسها إن لم يعجبه أمر.
ولو كنت أنا نفسي المعتادة، لكنت سأكرهه بشدة لدرجة أنني لا أرغب حتى برؤيته.
لكن رغم ذلك…
‘في القصة الأصلية، جيسكار حاول إنقاذ العالم بكل ما أوتي من قوة، مهما حدث.’
رُفض من الجميع.
ورفاقه الأعزاء سقطوا واحداً تلو الآخر.
ومع ذلك، ظل الكثيرون لا ينظرون إلا إلى جيسكار.
ولم يستطع جيسكار أن يتخلى عنهم.
أما النهاية التي انهار فيها جيسكار بعد أن فقد كل شيء…
‘أليس هذا ظلماً كبيراً؟’
لذا، هذه المرة…
‘لن أدع جيسكار يفشل.’
تصلّبت نظراتي المليئة بالعزم.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
التعليقات