كنت أتجول في مقرّنا، أعاين الأماكن التي تحتاج إلى ترميم، حين فجأة رفعت رأسي.
“انتظر… هذا الصوت؟!”
دنغ… دنغ… دنغ! دنغ… دنغ… دنغ!
دوى في الأفق رنين الأجراس الطارئة، متلاحقًا، ثلاث دقات متتابعة بنظام ثابت.
“هذا… ليس أمرًا حسنًا.”
عضضت على أسناني بقوة، وبرودة قاسية سرت في ظهري كأن يدًا جليدية قد مسّتني.
كان عدد رنات الجرس يرمز إلى عدد الوحوش الشيطانية التي انفلتت من البوابة.
فدقّتان تعني أقل من عشرة، أما ثلاث دقات… فتعني أن العدد تجاوز العشرة!
“عشرة وحوش أو أكثر قد أفلتت من البوابة؟!”
لقد سمعت دومًا أن أسوأ ما يحدث عادة لا يتعدى هروب واحد أو خمسة بالكثير.
فكيف يظهر الآن أكثر من عشرة فجأة؟!
“لماذا ضعف الحاجز على نحو مفاجئ؟”
لم يمر وقت طويل على استبدال حجر الحاجز…
وفجأة—
كيييرررك… كييييرررك…
انبعث صوت غريب، حاد وبارد، أشبه بما يُسمع حين تُخدش سبورة بالأظافر.
ارتجف جسدي من قشعريرة تسللت إلى عظامي.
“ما هذا…؟”
تجمدت في مكاني، وأدرت رأسي ببطء.
فإذا بي أرى خلفي وحشًا حالك السواد، كأنه جُبل من الظلام نفسه.
هيئته مشوّهة، نصفها أسد ونصفها كلب، وأنيابه الطويلة تبرُز من فمه مهددة، بينما جسده الضخم كان يفوقني طولًا بأكثر من ضعفين.
تسمرت عيناي فيه.
“هذا الوحش…”
جفّ حلقي.
“إنه نفسه الوحش الذي قطع جيسكار رأسه وقدّمه في مهرجان الفجر!”
تساءلت برعب: لماذا هو هنا مجددًا؟
وفجأة ارتسم في ذهني مشهد من القصة الأصلية.
“كاسيا… ماتت أيضًا بسبب وحش شيطاني، أليس كذلك؟”
لكنني لم أنضم دون حساب.
ففي القصة الأصلية، موت كاسيا على يد الوحش لم يحدث إلا بعد زمن طويل من الآن!
إذًا، لا يُفترض بهذا الوحش أن يظهر في هذا التوقيت مطلقًا!
غرووووو…
زمجر الوحش، فاتحًا فمه العريض، وأسنانه اللامعة تبرق وكأنها على وشك التهام جسدي.
سيل من اللعاب انحدر من فمه، ونفَسه الساخن العفن لطم وجهي.
تجمد قلبي من الرعب، كأن قطعة جليد انغرست فيه.
“عليّ أن أهرب…”
حاولت أن أحرّك ساقيّ المثبتتين في الأرض.
“لا يمكن أن أموت هكذا…”
قبضت كفيّ المرتجفتين بقوة.
فلتذهب تلك القصة التي تقضي أن أموت الآن إلى الجحيم !
لن أموت هنا!
سأعيش… بأي ثمن!
وفي تلك اللحظة—
“أستريد!”
اخترق نداء يائس الهواء.
وفي الحال اجتاحت المكان برودة حادة، كالسكين المغموسة في الجليد.
كلااانغ!
اندفع الوحش بعيدًا صارخًا صرخة بائسة، قبل أن يهوي إلى الأرض بقوة.
ارتطم جسده بالأرض، ومن عنقه تدفق سائل أحمر متجمّد يلمع كالجوهر.
لقد اخترقت عنقه شوكة جليدية ضخمة، وحول موضع اختراقها غطت طبقة من الصقيع اللحم المتشقق.
حدقت في المشهد، عاجزة عن صرف بصري.
“لقد… واجهتُ وحشًا حيًا…”
ارتجفت ساقاي بعنف، وانهارت قواي كلها.
فإلى الآن لم أرَ سوى رأس مقطوع أتى به جيسكار في مهرجان الفجر.
أما الآن، فكان وحشًا حيًا يتنفس، حاول تمزيقي بالفعل…
“هيه!”
اندفع جيسكار نحوي، وأمسك كتفيّ بقوة، يوجّه وجهي بعيدًا عن الجثة.
“هل أنتِ بخير؟!”
“……”
“هل أصابك شيء؟!”
كانت ملامحه غارقة في القلق وهو يحدق فيّ.
رفعت بصري إليه شاردة، ثم عضضت على شفتَي حتى سال الدم.
‘تماسكي يا كاسيا.’
لقد اخترتِ أن تدعمي فرسان الفجر الأزرق وأن تنقذي هذا العالم.
فكيف تجمدين خوفًا هكذا؟!
‘خصوصًا وأن رفاقنا…’
شدّدت قبضتي بعزم.
‘هؤلاء الفرسان يقاتلون هذه الوحوش يوميًا، يغامرون بحياتهم.
لا وقت للارتجاف والشلل.
يجب أن أبذل نصيبي من الجهد مثلهم.’
فتحت شفتيّ الجافتين بصعوبة:
“…أنا بخير، أيها القائد.”
كان صوتي مهتزًا ومشوّشًا حتى على مسامعي، لكنه أوصل ما أردت.
“ بخير؟! هذه أول مرة تواجهين فيها شيئًا كهذا…”
تنهد جيسكار بعمق، ثم فجأة صارت عيناه أكثر حدة.
جذبني إلى صدره بيد، ورفع الأخرى إلى الهواء.
وفي لحظة، تشكّل في قبضته سيف جليدي حاد، كأنه نُحت من بلورات الثلج.
وبلا تردد، لوّح به—
كلااانغ!
دوى في الفضاء صوت حاد، كصليل معدنين يتصادمان بشراسة.
كييييك!
انطلقت صرخة مروّعة، تلتها دمدمة ثقيلة ارتطمت بالأرض خلفي.
بفعل الغريزة، التفتّ بسرعة.
كان وحش شيطاني، شبيهًا بالسرعوف، يتراجع مترنحًا، وذراعه اليسرى المبتورة متيبسة بالجليد، وقد تلون سطحها كله بحمرة الدم المتجمد.
لقد كان أثر هالة جيسكار—تجسيد قوته المتجمدة.
“الضابطة الإدارية.”
شدّني جيسكار إلى صدره بقوة.
“ابقي قريبة مني.”
همس صوته العميق في أذني:
“لا تتركي يدي… مهما حصل.”
تمسكتُ به، بينما عيناي ما زالتا معلقتين بالوحش الذي كان يرمقني بنظرة متوحشة، مشبعة بالرغبة في الفتك.
لكن ما إن خطا الوحش خطوة أخرى نحونا، حتى اتسعت عيناي دهشة.
“مستحيل…!”
من الجرح حيث بُترت ذراعه، بدأت طبقات بيضاء من الجليد تنتشر بسرعة مذهلة، لتغلف جسده بأكمله في ثوانٍ معدودة.
سناب!
أطلق جيسكار فرقعة بإصبعه.
وفي لحظة، تهشّم الوحش إلى شظايا حمراء وسوداء، تناثرت متناثرة على الأرض.
“كنت أعلم أن بطلنا هو الأقوى في هذا العالم، لكن…”
رفعت بصري إلى جيسكار، ناسـية في تلك اللحظة أنني كنت قبل قليل غارقة في الرعب.
“إنه يقضي على هذه الوحوش كما لو كان يحتسي شرابا باردًا…!”
لكن شيئًا ما بدا غير طبيعي.
“هنالك خطب ما…”
عضضت على باطن شفتي، بينما شعور مزعج أخذ يزحف إلى صدري.
وفي الوقت ذاته، قطّب جيسكار جبينه.
“الأمر… مريب.”
رفعت رأسي بسرعة عند كلماته.
“هل تظن ذلك أيضًا، أيها القائد؟”
لقد ساورني الشعور ذاته منذ لحظات.
مصدر ذلك القلق كان واضحًا…
“يبدو أن الوحوش الشيطانية تستهدفك أنتِ، الضابطة أستريد… وليس أنا.”
كان محقًا.
منذ البداية، لم تكفّ تلك الوحوش عن مهاجمتي أنا وحدي، متجاهلة جيسكار كليًا، رغم أن من المفترض أن ترتعد بالفطرة أمام فرسان الهالة.
كأن غايتها الوحيدة… القضاء عليّ.
تعمق الخط بين حاجبي جيسكار الوسيمين.
“الوحوش الشيطانية تحدد قوة خصومها غريزيًا. ومن النادر أن تهاجم فرسان الهالة بهذا العنف… لكن ما نراه الآن مخالف تمامًا للطبيعة.”
“……”
لاذ لساني بالصمت.
أيمكن أن يكون مجرد صدفة؟
وإن لم يكن كذلك… وإن كانت تلك الوحوش تستهدفني فعلًا…
“انتظر لحظة…”
أضاءت عينيّ بفكرة.
“في هذه الحالة… لما لا نستغل الأمر لصالحنا؟”
“تستغلينه؟” سأل جيسكار ببطء.
“يمكنني أن أكون الطُعم… أستدرج بها الوحوش.”
على الفور، انعقد حاجباه بحدة، وقال بازدراء:
“هل تدركين ما تقولينه؟!”
“لكن، أيها القائد—”
“مستحيل. هذا خطر لا يُغتفر.”
هزّ رأسه بحزم، رافضًا رفضًا قاطعًا.
عادةً كنت سأذعن لكلمته دون جدال.
لكن الآن…
“لقد أفلت بالفعل أكثر من عشرة وحوش من البوابة.”
“……”
لأول مرة، ساد الصمت على شفتي جيسكار.
فاغتنمت اللحظة، وواصلت إقناعه:
“إن لم نتحرك بسرعة، فقد يخترق هؤلاء الوحوش خط الدفاع… ويصلون إلى مناطق المدنيين.”
“…ذلك…”
غاص جيسكار في حيرة، يعض شفته السفلى حتى سال منها الدم.
كان يعلم أنني على حق.
رغم أنه قضى بالفعل على وحشين، إلا أن كثيرين ما زالوا يتجولون.
وإن اجتاحوا القرى والمدن…
“إن أصيب المدنيون، فسيتحول الموقف إلى كارثة.”
قلتُ ذلك بنبرة هادئة ثابتة.
“أما إذا أخذتُ مخاطرة صغيرة… فقد نُنهي الأمر بسرعة وكفاءة.”
ردّ بحدة، صوته يقطر غضبًا مكبوتًا:
“كلامك هذا… معناه أنك، الضابطة أستريد، على استعداد للتضحية بحياتك.”
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
التعليقات لهذا الفصل " 39"