في تلك اللحظة، كان ثمّة من يراقب صامتًا ظهر كاسيا وهي تبتعد.
لم يكن سوى السير جيرارد، نائب قائد فيلق الفرسان الرابع.
“تلك الأميرة…”
أظلم بصره، وتعمّقت في عينيه نظرة تفكّر.
“إنها حقًا شخصية مدهشة.”
وعاد يتردّد في ذهنه الحوار الذي دار بينه وبينها قبل أيام قليلة.
“سيدي نائب القائد، هل لي بكلمة على انفراد؟”
كان ذلك حين قصد فيلق الفرسان الرابع مقرّ فرسان الفجر الأزرق لتقديم اعتذار رسمي. هناك طلبت كاسيا حديثًا منفردًا مع جيرارد.
ثم فجأة…
“ألا ترى أن حياة الفرسان الرابع مجحفة؟”
لقد ألقت قنبلة في وجهه.
وللصدق… سيكون كذبًا لو أن تلك الكلمات لم تبعث شيئًا من الانتعاش في قلبه.
فقد كان السير جيرارد منذ زمن بعيد ناقمًا على أسلوب حياة الفيلق الرابع.
ومع ذلك، مترددًا في صدق هذه الأميرة المتهوّرة كما كانت تُلقّب، أجاب بحذر:
“أرى أنه لا خيار لي. كفارس، عليّ أن ألتزم بمبدأ الطاعة للأوامر…”
لكن كاسيا سرعان ما رفعت حاجبًا باستياء:
“آه… يا له من خذلان.”
“ماذا؟”
كلمتها الصريحة جعلت جيرارد يتشنج على الفور.
إلا أنها واصلت كلامها دون أدنى تردّد:
“كنت أظن أن نائب القائد شخص يدرك الظلم، وسيسعى لتغييره.”
“……”
ما الذي تعرفينه أنتِ…!
كاد يرفع صوته، لكنه عضّ على أسنانه وكتم غضبه.
ثم، بعد أن استعاد هدوءه، تحدّث بنبرة خافتة مكبوتة:
“مهما حاولت، لم يتغير شيء.”
لقد بذل جهده مخلصًا لوطنه، مستخدمًا كل ما أوتي من قدرات بصفته نائب قائد فيلق مكلف بحراسة الختم.
كان يفكر دومًا بعقلانية قدر المستطاع، مؤمنًا أن فرسان الفجر الأزرق حلفاء لا أعداء، وأن التعاون سبيل النجاة.
لكن ما النتيجة؟
لم يلقَ سوى التجاهل من جميع الفرسان.
وانعكس ذلك الامتعاض في عينيه، فما كان من كاسيا إلا أن هزّت كتفيها ببرود وقالت:
“إذن، هل ستكتفي بالرضوخ والاستسلام؟”
“ماذا؟!”
شعر جيرارد لوهلة وكأن مطرقة هوت على رأسه.
الرضوخ… الاستسلام.
كلمتان اخترقتا أعماقه بلا رحمة.
ومنذ نطقت بهما، لم يستطع أن يمنع نفسه من التساؤل:
هل أعيش حقًا وفق ما يمليه عليّ قلبي؟
وكان الجواب، على الأرجح… لا.
قالت كاسيا بصوت هادئ ولكن نافذ:
“لا أطلب منك أن تتخلى عن شرفك أو كبريائك كفارس. كل ما أريده أن أعرف معنى أن “تتصرف كفارس”.”
“أن أتصرف كفارس؟”
“نعم.”
أومأت برأسها، وحدّقت مباشرة في عينيه.
“هل تعتقد حقًا أن الفروسية تعني أن تبقى صامتًا، وتشيح ببصرك عن الخطأ حين تراه؟”
“….”
سؤالها اخترق قلبه مرّة أخرى.
ولِم لا؟
لقد كان سؤالًا يطارده منذ انضمامه إلى صفوف الفيلق الرابع.
لكن مواجهة ذاته المحطّمة أخيرًا… كان شعورًا لا يُطاق.
كان الأسوأ.
رفع السير جيرارد بصره نحوها بحذر وسأل:
“ولماذا تخبرينني بهذا؟”
فأشرق وجه كاسيا بابتسامة مضيئة، ساطعة كالنور:
“لأنك الفارس الوحيد هنا الذي ما زال يحتفظ بذرة ضمير، يا سير جيرارد.”
ثم مدّت يدها فجأة، كأنها تعرض مصافحة.
حدّق جيرارد بيدها في ذهول.
“إذن… ما الذي ستفعله؟”
لوّحت بيدها أمامه مطالبة بجواب.
“إن كنت فارسًا يعرف معنى الشرف، فسأكون إلى جانبك، وسأدعمك.”
“….”
“ما رأيك، أيها النائب؟”
ارتجّت كلمتها في أعماقه.
كيف لا أمدّ يدي؟
وبعد تردّد طويل، مدّ السير جيرارد يده أخيرًا.
لتبتسم كاسيا ابتسامة عريضة، وتقبض على يده بلا تهيّب.
“إذن… سأعتمد عليك من الآن فصاعدًا، اتفقنا؟”
كانت يدها الناعمة، التي لم تمسك يومًا بما هو أثقل من مروحة، مغطاة ببقع من الحبر، لكنها قبضت على يده بثبات.
…نعم، هذا هو الصواب.
غاص بصر السير جيرارد في الأعماق، متثاقلاً بالهموم.
وما طلبته منه كاسيا لم يكن أمرًا جللاً ولا تكليفًا يفوق طاقته.
كل ما أرادته ببساطة هو أن يرفع صوته كلما شهد فسادًا أو ظلمًا بين الفرسان.
ومن ثم، عزم جيرارد على أن يبذل ما بوسعه ليحقق رجاءها.
لأنه آمن في قرارة نفسه أن هذا هو ما يليق بفارس حقيقي.
***
مضى وقت طويل بعد ذلك.
وكان الفرسان منشغلين بترتيب الأمتعة في المخزن.
وفي خضم هذا الانشغال، انسحب أحد فرسان الفيلق الرابع بخفية، وهو يحمل حجر حاجز جديد مطوّقًا بذراعيه.
“لماذا أنا بالذات…؟”
تمتم الفارس بضجر، وقد ارتسم على ملامحه انقباض عميق.
فمنذ لحظات قليلة فقط، كان قائد الفيلق الرابع قد استدعاه سرًّا.
“اذهب واستبدل حجر الحاجز حالاً.”
لقد مر زمن طويل منذ صدر الأمر باستبدال الحجر، لكنه لم يُنفّذ بعد.
وبما أن هناك سوابق لانفلات وحوش شيطانية من البوابة، كان القلق ينهش قلب الفارس.
صحيح أن فرسان الفجر الأزرق قد تصدوا لمثل تلك الحوادث ببراعة في كل مرة، فلم يقع شيء جلل.
لكن…
“ماذا لو تسلّل وحش لحظة انشغالي باستبدال الحجر…؟”
أأموت ميتة عبثية كهذه؟
ازدادت هواجسه، فعضّ شفته السفلى بقلق.
وفي تلك اللحظة بالذات—
“سير مونتيرو.”
ناداه صوت من خلفه. استدار الفارس متجهمًا قليلًا.
“ما بال هذا الرجل… لماذا الآن؟”
ولم يكن مستغربًا، إذ إن الذي خاطبه لم يكن سوى نائب القائد، السير جيرارد، ذاك الذي طالما هُمِّش وأُقصي بين صفوف الفيلق.
“……”
تجاهله الفارس متعمدًا، وأدار بصره بعيدًا.
لكن السير جيرارد، غير مبالٍ بتلك القسوة، أعاد الكلام بنبرة ودودة:
“أأنت ذاهب لاستبدال حجر الحاجز؟”
“……”
ظل الفارس صامتًا.
وحين رأى جيرارد ذلك، قال بصوت خافت فيه شيء من المواربة:
“أتريد أن أتولى هذه المهمة عنك؟”
وأخيرًا، اهتزّ الفارس الذي ظل صامتًا منذ البداية.
وأشرق وجهه فجأة، كأنه لم يسبق له أن تجاهله قط.
“أوه، سأكون شاكرًا لك إن فعلت.”
“حسنًا.”
ابتسم السير جيرارد، وتناول الحجر من يده.
وما إن تخلّص الفارس من عبء المهمة، حتى انصرف مبتهجًا دون أن يلتفت.
“……”
ظل السير جيرارد يحدّق بصمت في حجر الحاجز الذي بين يديه، وقد تجهمت ملامحه شيئًا فشيئًا.
“هل يُعقل… أنهم لم يستبدلوا الحجر حتى الآن؟”
لقد ظل مُبعدًا طويلًا عن سير الأوامر داخل الفيلق، فلم يعرف يقينًا ما يصدر عن قائده.
إلا أن شعورًا غريبًا ظل يساوره دومًا.
والآن، بعد أن علم أن القائد أمر سرًّا فارسًا باستبداله…
“مهما كان الأمر، فإن في ذلك تهديدًا خطيرًا للبوابة.”
قبض السير جيرارد على الحجر بقوة.
لطالما ساوره الشك في أن الفيلق الرابع يتهاون في أمر أحجار الحاجز.
غير أن الصدمة كانت في أن القائد نفسه، الذي كان ينبغي أن يصحّح هذا الإهمال، هو من يشجّع عليه!
“لكن… لقد كان بيني وبين الضابطة الإدارية أستريد عهد.”
كبح جيرارد مشاعره المتأججة، وزفر تنهيدة طويلة.
“أظن أنّ عليّ أن أتحرك.”
رفع رأسه فجأة، فانحبس نفسه في صدره.
فوق الفرسان المنهمكين، كان قرص الشمس يميل إلى المغيب.
والأفق يتشح بلون قرمزي، أحمر كالدماء الساخنة المراقة للتو.
ولكن… لماذا بدا له ذلك المشهد بهذا القدر من الشؤم؟
وفي تلك اللحظة—
دنغ… دنغ… دنغ! دنغ… دنغ… دنغ!
دوّى من بعيد رنين الأجراس الطارئة، صاخبًا، مرتجًا في الأفق.
فانتفض الفرسان جميعًا، ورفعوا رؤوسهم بفزع.
“ما الذي يحدث؟!”
“لا يمكن… هذا الصوت…!”
وفي تلك الأثناء، تجمّدت ملامح السير جيرارد.
فقد كان معنى ذلك الجرس واضحًا لا لبس فيه.
لقد انكسر ختم البوابة—
وبالتالي…
“الوحوش الشيطانية… قد أفلتت!”
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
التعليقات لهذا الفصل " 38"