الفصل الرابع والثلاثون
ما هذا الشعور بحق السماء؟
بالطبع، كانت تعرف في قرارة نفسها.
جيسكار رجل يقدّر فرسانه بشدة.
والسبب الوحيد الذي يجعله يعتني بها جيدًا هو لأنها مجرد عضوة في فرسان الفجر الأزرق.
مع أنها تعرف ذلك جيدًا… إلا أن عينيها الحمراوين ارتجفتا بعنف للحظة.
لكن ذلك لم يدم طويلًا.
سرعان ما استعادت كاسيا رباطة جأشها.
“سيدي القائد.”
“…..”
تلاقت نظرات عينيه الزرقاوين مع عينيها بحدة.
ابتسمت كاسيا ابتسامة مشرقة.
“شكرًا جزيلًا لك. أشعر بالكثير من الطمأنينة لأنك قائدي الأعلى.”
ثم شبكت ذراعيها ونظرت بثبات إلى قائد الفيلق الرابع متحديةً.
“إذًا، متى ستعتذر عن وقاحتك؟”
“المسؤولة أستريد، أرجوك…!”
ناداها القائد الأعلى بنبرة متوسلة، وقد بدا عليه الاضطراب.
وكأن تدخّله لتهدئة الموقف لم يكن كافيًا، فإذا بها تستفز جيسكار أكثر!
“لماذا؟”
أجابت كاسيا بإيماءة خفيفة، متجاهلة كلامه تمامًا.
ولم تكتفِ بذلك.
“لن أغادر هذا المكان ما لم أسمع اعتذارًا.”
تلاشى اللون من وجه قائد الفيلق الرابع.
بعد ذلك…
لم يجد قائد الفيلق الرابع مفرًّا سوى الاستسلام وتقديم اعتذار.
وبالنظر إلى الدموع التي تجمّعت في عينيه، بدا واضحًا أنه كان يتألم بشدة.
’آه… هذا مرضٍ جدًا.’
حبست ضحكة في صدرها وهي تستعيد مشهد معصمه المنتفخ الذي رأته سابقًا.
’لا أظنه قد انكسر…’
لكن من المؤكد أن معصمه سيؤلمه طويلًا، وسيجد صعوبة في استخدامه لبعض الوقت.
ركبت كاسيا العربة وهي تشعر برضا غامر.
لكن فجأة برزت مشكلة غير متوقعة.
وهي…
’لماذا يبدو جيسكار مكتئبًا فجأة؟!’
منذ أن خرجا من مكتب القائد الأعلى، كان جيسكار يتجهّم، وجهه قاتم وكئيب!
ومهما حاولت أن تفكر، لم تستطع أن تفهم السبب.
’هل فعلتُ شيئًا خاطئًا؟’
فالمشكلة بدأت من قائد الفيلق الرابع أولًا،
وقبل أن يتسنّى لها حتى أن تغضب، كان جيسكار هو من تدخّل أولًا!
“المسؤولة أستريد.”
“لا، لم أفعل أي شيء خاطئ!”
رفعت صوتها باستياء، محاولة الدفاع عن نفسها.
“أنا لم أخطئ هذه المرة! قائد الفيلق الرابع هو من بدأ المشكلة أولًا، وأنا فقط…”
“أعلم.”
“هاه؟”
توقفت في منتصف جملتها، وقد كانت تسرد مبرراتها بتوتر.
لكن جيسكار كان يحدق بها، حاجباه معقودان قليلًا.
“المسؤولة لم تفعل شيئًا خاطئًا. من قال غير ذلك؟”
“أوه…”
ظننتُ أنك ستوبّخني…
أطرقت عينيها بتردد، مشوشة الأفكار.
ثم زفر جيسكار تنهيدة وتابع كلامه.
“أنا فقط أردت الاعتذار للمسؤولة.”
“…هاه؟”
أمالت رأسها بدهشة.
“تعتذر؟ لماذا؟”
“لو كنت أكثر كفاءة… لما اضطرّت المسؤولة إلى تحمل مثل هذه الإهانة.”
قالها بجدية، وصوته يثقل بالحزن.
“عجزي… يشعرني بالإحباط.”
يا إلهي… لماذا يبدأ بتحطيم نفسه فجأة هكذا؟
ضيقت عينيها ونظرت إليه بحدة قائلة:
“دعنا نوضح أمرًا ما، حسنًا؟”
“ماذا؟”
نظر إليها جيسكار بارتباك.
’حقًا… هل يجب أن أقول هذا بنفسي؟’
تنهدت في سرها قبل أن تنطق.
“أولًا، السبب الذي جعل قائد الفيلق الرابع يستهدفني… هو سلوكي أنا طوال الفترة الماضية.”
سعلت قليلًا محاولة إخفاء ارتباكها، ثم قالت بصوت منخفض:
“بصراحة… لقد كنت أتبعك كجرو صغير طوال الوقت.”
“…”
انعكس في عينيه الزرقاوين بريق غريب لا تستطيع تفسيره.
لكنها لم تعبأ.
قالت له بصدق كل ما كان يدور في ذهنها.
“قد يبدو غريبًا أن تقول أميرة مثل هذا الكلام… لكن الحقيقة أن العائلة الإمبراطورية أهملت فرساننا طيلة هذه الفترة، أليس كذلك؟”
“…هذا…”
“وعلى العكس… من المدهش حقًا أنك استطعت إدارة الفيلق بهذه الكفاءة رغم هذه الظروف البائسة.”
هزت كتفيها بخفة.
“وفوق ذلك… أشكرك لأنك وقفت إلى جانبي آنفًا.”
ابتسمت ابتسامة مشرقة.
“كنت سعيدة حقًا.”
وكانت صادقة في ذلك.
فهي لم تتوقع يومًا أن يتدخل لأجلها بهذه القوة.
’بصراحة… لقد تأثرت قليلًا.’
ظل جيسكار يحدق بها بذهول للحظة، ثم فجأة أشاح بوجهه بعيدًا.
“…لقد كنت فقط أقوم بواجبي.”
لكن أذنيه كانتا قد احمرّتا بالفعل.
ما هذا يا جيسكار…؟ هل تشعر بالحرج الآن؟!
اتسعت عيناها كعيني أرنب مندهش، فسارعت لتحويل بصرها نحو النافذة.
وإلا لكان سيمسكها مبتسمة ابتسامة لم تستطع منعها من الظهور على شفتيها.
***
بعد بضعة أيام…
تلقى فرسان الفجر الأزرق زيارة غير متوقعة.
الزوار لم يكونوا سوى فرسان الفيلق الرابع، أولئك الذين اعتادوا التصادم معهم كـ “القطط والكلاب”.
“نحن نعتذر!”
“لقد أخطأنا!”
ما إن وصل فرسان الفيلق الرابع إلى الثكنات، حتى انحنوا مقدمين اعتذارهم لفرسان الفجر الأزرق.
وبين صفوف الفرسان، انتشرت همهمات الدهشة.
“ما الذي أصابهم؟”
“هل أكلوا شيئًا فاسدًا؟”
فقد كان فرسان الفجر الأزرق طوال الوقت هم الطرف المظلوم، المتهم ظلمًا، ولم يتلقوا يومًا أي اعتذار.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.
“سمعت أن قائد الفيلق الرابع نُفي إلى مهمة حراسة البوابة؟”
“هل عوقبوا يومًا بهذه الطريقة من قبل؟”
عادةً، كانت مثل هذه الحوادث تمر مرور الكرام، أو يُكتفى بعقوبة شكلية لا تذكر.
أما الآن، فلأول مرة، شعر فرسان الفجر الأزرق أن كرامتهم المهانة بدأت تُستعاد.
وصاحبة الفضل في هذا المعجزة لم تكن سوى…
’المسؤولة أستريد.’
كاسيا سورتز ديل أستريد.
الأميرة المجنونة التي كانت يومًا مهووسة بالقائد، ترتكب تصرفات غريبة تثير السخرية.
لكن لا، لم تعد مجنونة بعد الآن.
’إنها مسؤلتنا الإدارية!’
’المسؤولة هي سيدة التموين!’
صحيح، لقد أدمن الفرسان الإمدادات الوفيرة والحلوة التي أغدقتها عليهم كاسيا.
وفي ظل هذا كله، نجحت أيضًا في انتزاع اعتذار مباشر من الفيلق الرابع!
فأصبح فرسان الفجر الأزرق يمطرونها بالمديح مع كل خطوة تخطوها.
وفي تلك اللحظة بالذات…
كان نائب قائد الفيلق الرابع، جيرارد، غارقًا في التفكير العميق.
’المسؤولة أستريد…’
لم يتابع أحد إنجازاتها بانبهار مثلما فعل هو.
قائد الفيلق الرابع، الذي طالما استبدهم كملك متسلّط بفضل حماية القائد الأعلى للشمال…
كم كان مذهلًا أن تجبره هي على الاعتذار!
وفوق ذلك، فإن أسلوبها الحازم في معالجة المظالم المختلفة كان منعشًا كنسمة باردة.
’لو كان لدي شخص مثلها بجانبي…’
*قلت لكم من أول مرة ظهر فيها أنه بطلنا الثاني*
لكن سرعان ما ارتسمت ابتسامة مرة على وجه السير جيرارد.
يا له من تفكير عقيم.
فمثل هذه الأماني الرومانسية لا تجلب سوى الخيبة.
وفجأة…
“نائب القائد!”
صوت مشرق ناداه من الخلف.
فانتفض جيرارد والتفت سريعًا.
وصاحبة ذلك الصوت لم تكن سوى…
“أمم، أود التحدث معك قليلًا يا نائب القائد. هل يناسبك الآن؟”
وبابتسامة واثقة تزين محياها، وجمال آسر يخطف الأنفاس، وقفت أمامه…
“…المسؤولة أستريد.”
الأميرة المجنونة التي لا يمكن التنبؤ بخطواتها.
والمسؤولة الإدارية البارعة، التي قلبت حياة فرسان الفجر الأزرق رأسًا على عقب بفضل مبادرتها الفريدة.
إنها كاسيا.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
التعليقات لهذا الفصل " 34"