الفصل الثامن والعشرون
توقف جيسكار عن الكلام لحظة وهو يحدّق في قائد فيلق الفرسان الرابع، ثم قال ببرود:
“هذا يثير السخرية.”
“مـ… ماذا تقصد بالسخرية؟”
“أليس قائد الفيلق الرابع هو من بدأ بانعدام الاحترام أولاً، حين تفوّه بتلك الترهات عن الوحوش؟”
واو… بطلنا اليوم حقاً يشتعل غضباً!
تتابعت الأحداث بانفجارات متلاحقة، منعشة مثل رشفة من مشروب غازي بارد، حتى شعرتُ بالرضا التام.
‘إنه يكتفي بالتحديق فقط، لكن حضوره وهيبته لا تُطاق!’
وبينما كنت أستغرق في دهشتي، نزع جيسكار قفازه الجلدي.
‘أوه… أيمكن أن يكون؟!’
اتسعت عيناي ببريق.
مبارزة!
حين يختلف الفارسان أو القادة على أمر، كان الحل القديم هو الاحتكام لمبارزة تُخاطر فيها بالشرف والكرامة.
عادة قديمة بالكاد تُمارس اليوم، لكنها ما زالت تعني الكثير.
ثم ـ طَرق! ـ
ألقى جيسكار القفاز عند قدمي قائد الفيلق الرابع.
حدّق القائد به مندهشاً، ثم رفع نظره إلى جيسكار.
‘من الطبيعي أن يشعر من ينقصه شيء بالغيرة ممن يتقدم عليه.’
قالها جيسكار بنظرة متعجرفة، هي نظرة من اعتاد أن يقف في مصاف ورثة العروش، حيث تتجلى في كل حركة منه سلطة لا جدال فيها.
“سأمنحك الفرصة.”
حتى أسلوبه في الخطاب تغيّر؛ لم يعد يكلّف نفسه التلفظ بعبارات اللباقة التي كان يستخدمها بدافع المجاملة.
تشنج وجه القائد غيظاً.
“تـ… تمنحني؟! ماذا تعني بذلك؟!”
“لقد كنتَ تهذي عنّا، وتصفنا بالوحوش لأننا نستخدم الهالة.”
قال جيسكار باستخفاف وهو يهز كتفيه بخفة:
“إذاً سأبارزك بلا استخدام للهالة… لأهبط إلى مستواك المتدني. فما رأيك؟”
“…”
انقبض فك القائد وهو يطحن أسنانه غيظاً.
رفض المبارزة عار، لكن قبولها بشروط كهذه إذلال أكبر.
التراجع الآن يعني سحق كرامته نهائياً.
“مـ… مهلاً!”
في تلك اللحظة، دوّى صوت المُقيِّم وقد ارتبك واندفع يعترض:
“هل أنتما جادان؟! مبارزة بين قائدي فيلقين؟! هذا أمرغير مقبول! عليكما أن تكونا قدوة لفرسانكما، لا أن تجرّوا سمعة القيادة في الوحل!”
لكن، مهما حاول المُقيِّم أن يُخفي الأمر تحت غطاء القدوة والسمعة، كانت دوافعه الحقيقية واضحة.
فإذا خسر قائد الفيلق الرابع، سيكون المشهد برمته فضيحة مدوية.
ومن جهة أخرى، سيجد نفسه في موقف بالغ الإحراج أمام القائد الأعلى لاحقاً.
“يجب ألا تتسببا بمزيد من المتاعب!”
صرخ بذلك، ثم استدار نحوي فجأة وكأنه يبحث عن طوق نجاة:
“صاحبة السمو، أعني… الضابطة الإدارية أستريد، قولي شيئاً من فضلك!”
“هاه؟ أنا؟”
رمشت بدهشة، ثم ابتسمت بخجل مصطنع وقلت:
“في الواقع، أنا أؤيد المبارزة.”
“…”
“…”
“…”
سقط الصمت على المكان كله.
لم يبدُ الذهول فقط على المُقيِّم الذي خاطبني، بل حتى قائد الفيلق الرابع الذي كان يتوق لتسوية تحفظ ماء وجهه، فقد صُدم من جوابي.
أما جيسكار، فقد رمقني بنظرة بدت وكأنها تقول:
‘إنه لأمر مطمئن أن يكون إلى جانبي مجنونة مثلك’.
ابتسمتُ ابتسامة صغيرة لأبادله الثقة، وشددت قبضتي بحزم.
“افعل ما تشاء يا بطلنا… هذه الأميرة المشاغبة ستتكفل بترتيب ما بعد الكارثة!”
عندها ارتسمت على محياه ابتسامة خفيفة، وأعلن بثقة:
“وبشأن الشاهد الذي سيضمن نزاهة النزال… أختار الضابطة الإدارية أستريد.”
“مـ… ماذا قلت؟!”
هتف المُقيِّم مذهولاً.
أما أنا، فواصلت صب الزيت على النار، وقلت بابتسامة عذبة:
“إنه لشرف عظيم أن يضع القائد ثقته بي.”
ثم أضفت برقة ظاهرية:
“أعدكم أن أراقب النزال بكل عدل وإنصاف.”
بالطبع، معنى كلمة “العدل” هنا متروك لتأويلي أنا وحدي.
“يبدو أنها وافقت.”
قالها جيسكار بخبث، ثم التفت إلى المُقيِّم متسائلاً:
“فهل تنوي أنت أن تكون شاهداً لصالح قائد الفيلق الرابع؟”
شحب وجه المُقيِّم وكأنه رأى شبحاً.
كان صوت عقله يكاد يُسمع:
إن انحاز للقائد الرابع، أثار غضب الأميرة المتهورة الواقفة أمامه.
لكن إن تخلى عنه، أغضب القائد الأعلى في الشمال.
فما كان منه إلا أن حاول، للمرة الأخيرة، أن يدفع باتجاه المصالحة:
“ومع ذلك… أليس مبالغاً أن يتبارز قائدان؟ أنتما في النهاية جزء من القيادة الشمالية ذاتها!”
لكن جيسكار عاجله برد صاعق:
“أوه؟ إذاً من الطبيعي أن يتبادل أعضاء القيادة الواحدة الاتهامات البشعة مثل “وحوش”؟!”
أطلقها ببرود دون أن يرمش، فنسف حجّته الضعيفة تماماً.
‘همم… يبدو أن جيسكار يستمتع فعلاً بهذا الوضع؟’
شعرتُ بقليل من القلق.
لكن ما دام اختار هذه الجرأة بدلاً من الخضوع لفيلقهم كما في الماضي، فأنا راضية.
وهكذا قررت أن أساعده قليلاً:
“يا مُقيِّم… أنا حقاً خائبة الأمل منك.”
قلت وأنا أحدّق فيه بعينين نصف مغمضتين.
ازداد وجهه شحوباً.
“هـ… خائبة الأمل؟”
“أليس الأمر واضحاً؟ لقد التزمتَ الصمت حين أُهين فرساننا.”
ارتجف المُقيِّم وانكمشت كتفاه.
تابعتُ كلامي، أزيده سخرية:
“والآن حين نحاول معالجة تلك الإهانة عبر مبارزة عادلة، تأتي لتمنعنا؟”
“لـ… لا، ليس هذا ما قصدت…”
كان على وشك الاعتراض، لكنه عض شفته السفلى بقوة وسكت.
إذ لم يجد في جعبته شيئاً يقوله.
في الواقع، كان المُقيِّم قد أظهر انحيازاً واضحاً حتى الآن.
“إذاً… ماذا عن مسألة الشاهد لصالح قائد الفيلق الرابع؟”
واصلتُ الضغط عليه أكثر.
“أنا أعارض هذه المبارزة.”
قال المُقيِّم أخيراً بعد تردّد، ووجهه يعكس الارتباك.
“كيف يمكنني أن أكون شاهداً لأي طرف؟”
حجة واهية.
لكن بالنسبة لي لم يكن ردّاً سيئاً.
‘جيد.’
هززت رأسي برضا.
يبدو أن المُقيِّم قد قرر قطع الحبل الذي يربطه بقائد الفيلق الرابع.
فهو، في النهاية، السبب في كل هذه الفوضى منذ البداية.
وسيكون من المخجل أن يستمر المُقيِّم في الانحياز له أكثر من هذا.
لكن، مع ذلك، فإن تراجعه بهذه الطريقة البائسة، مكتفياً بالقول: “لن أنحاز لأي طرف”، بدا لي مثيراً للشفقة.
‘لا بأس… هذا يكفيني.’
رفعت كتفيّ بلا مبالاة، ثم أكّدت الأمر من جديد:
“إذاً… هل سيُكمل قائد الفيلق الرابع المبارزة من دون شاهد؟”
رمق قائد الفيلق الرابع المُقيِّم بنظرات متوسّلة، لكن الأخير حاد ببصره بعيداً وتجاهله تماماً.
“لا داعي لإضاعة المزيد من الوقت، أليس كذلك؟”
قلتُ بصوتٍ مرح وكأني أُعلن بداية احتفال.
“فلنبدأ المبارزة الآن، ما رأيكم؟”
تقدّم كلٌّ من جيسكار وقائد الفيلق الرابع إلى ساحة التدريب.
كان الفرسان الذين أنهوا تدريبهم للتو يتابعون المشهد بتعابير متباينة.
“انتصر من أجلنا يا قائد!”
“نحن نثق بك!”
هتف فرسان الفجر اللازوردي بحماس، يلوّحون بقبضاتهم في الهواء.
لقد بدا جليًا أنهم ما زالوا منتشين من نصرهم الساحق في التدريب المشترك.
أما فرسان الفيلق الرابع، فقد لزموا الصمت، يحدّقون بوجوه متجهمة نحو قائدهم الذي يقف الآن في الساحة.
“…”
“…”
بعد أن ذاقوا الهزيمة بأنفسهم، لم يسعهم أن يهتفوا له أو يتمنوا له النصر بصوتٍ عالٍ.
لكن عيونهم اليائسة كانت تصرخ برجاءٍ خفي:
‘أيها القائد… اربح هذه المبارزة وأعد لنا كبرياءنا المهدور.’
“تبا.”
تمتم القائد بشتيمة بين أسنانه.
في الجهة المقابلة، وقف جيسكار ممسكاً بسيفه الخشبي باسترخاء، يواجهه بلا أثر لأي توتر.
ومع ذلك…
‘إنه يبدو كجدارٍ شاهق.’
في عيني القائد، بدا جيسكار كأنه حصن ضخم راسخ، جدار مصقول لا يُطال، تقف فوقه كتيبة كاملة من الفرسان المدججين بالسلاح.
قلعة منيعة يستحيل اقتحامها.
‘لا، لقد قال إنه لن يستخدم الهالة.’
عضّ القائد على أسنانه بقوة.
‘في هذه الحالة… لدي فرصة للفوز.’
*تعريف الحمار الطموح:*
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
التعليقات لهذا الفصل " 28"