9
الفصل 9
“هـ.. ماذا؟ كح كح!”
“الآنسة أديلين، إنكِ تشبهين الحاكمة آريا.”
تلعثمتُ حتى شرقت من وقع كلامه الغريب، غير مصدّقة ما سمعت. أردت أن أوبّخه ليتوقف عن هذا الهراء، لكن حين التفتت عيناه نحو صورة الحكام، تغيّر بصره فجأة؛ صار حالماً، ضائعًا في شيء لا أستطيع أن أتبينه.
عينيه الخضراوين كانتا مثل غابة كثيفة، تخفي في طياتها مشاعر متشابكة ومعقّدة.
لماذا يبدو هذا الكاهن المتدرّب وكأن في قلبه قصة طويلة؟
مهما كانت تلك المشاعر الغامضة، إلا أنّ حبه الصادق واحترامه للحكام كانا واضحين في عينيه، يشعّان بلا لبس.
حسنًا، في النهاية من الطبيعي أن يحب الكاهن ويجلّ الحكام. يبدو أن كريس حقًا سيصبح كاهنًا صالحًا يوماً ما.
للحظة، سمحت لنفسي أن أتمنى شيئًا: حين يصل كريس يومًا إلى مقام الكاهن الأكبر، لعلّ كنيسة ماياريا تتغير على يده. أمنية بعيدة جدًا… لكنها وجدت طريقها إلى قلبي.
***
مع مغيب الشمس، أنهى كريس عمله الموكَل إليه. توجهتُ نحوه لأودّعه:
“سأسبقك. لتكن البركة معك يا كريس.”
“لقد تعبتِ اليوم، آنسة أديلين. استريحي جيدًا. لتكن بركة الإلهة معكِ أيضًا.”
غادرتُ إلى مسكني، لكن الخطوات كانت أثقل من المعتاد.
لم أفعل شيئًا مرهقًا حقًا، لكن قضاء يوم كامل مع هذا الـ”معجب المتحمس” أرهق أعصابي أكثر مما توقعت.
شعرت بعضلات رقبتي وكتفيّ مشدودة ومتيبّسة.
إي تشان-مي، الكاتبة التلفزيونية، اعتادت العيش بجسدٍ مشدودٍ دومًا، لكن أديلين مختلفة تمامًا… أديلين تعيش بلا ضغط ولا مشقة. لذلك كانت كتفاها دائمًا… مرتخيتين، طريتين.
كانت طرية ومرنة.
منذ أن تجسّدت في هذا الجسد، عشت حتى اليوم وأنا أبذل قصارى جهدي للحفاظ على هذه الطراوة، أفعل ما يحلو لي وأعيش كما أشتهي.
في الحقيقة، للمرة الأولى في حياتي تجرأت على التصرّف بوقاحة وكنت خائفة جدًا، لكن بسبب سمعة أفعال أديلين السابقة الكثيرة، لم يجرؤ أحد على قول شيء لي، بل كانوا يعتذرون لي بدلًا من ذلك. وإن كان في ذلك ما يُسمّى ضغطًا، فهذا كان هو.
يكفي أن تتغيّر نظرة عيني حتى يبدأ الخدم أو الكهنة المبتدئون الذين يرافقونني بالارتجاف.
وهل يقتصر الأمر على هذا فقط؟
حتى حين أخفقت في امتحان القديسة، كان الكهنة الكبار يكتفون بالصلاة لتسكين قلوبهم، ولم يجرؤوا على توبيخي.
بفضل أديلين عشت لأول مرة في حياتي كما يحلو لي، مرتاحة البال.
بالطبع، لم أتمكّن بعد من حلّ المهمة الكبرى المتمثّلة في الهروب من الكنيسة، لكن كان عندي إيمان راسخ بأن هذا أيضًا سينجح في النهاية.
ومع كل هذا التفاؤل، فإن تصلّب رقبتي وكتفي اليوم كان بسبب كريس وحده.
حين فكرت أن خطّة ذلك العجوز الراكون قد نجحت، ازداد شعوري سوءًا.
(بفضلكم تلقيت مقلبًا رائعًا بالفعل.)
وبينما كنت في داخلي أمضغ وألوّك وأمزّق صورة الـ “كبير الكهنة” وأستمتع بذلك، أبصرت من بعيد خلف السور الكبير شخصا.
“كبير الكهنة!”
ناديت، فرأيته يتحرّك بسرعة لافتة للنظر.
(يبدو أنه يدرك ما ارتكبه بحقي اليوم.)
أسرعت الخطى نحوه، لكن…
(مهلًا، لماذا لا تقترب المسافة بيننا؟ هذا الذي لا يتوقف عن الغناء عن الوقار والهيبة، كيف يمكنه أن يكون سريعًا إلى هذا الحد غير الواقعي؟)
بدا وكأن كبير الكهنة يستخدم فنون الانتقال الخفي أو حتى “المشي على الريح” لمجرد أن يتفاداني بكل جوارحه، وهو ما أثار في داخلي عنادًا غريبًا.
فجأة اشتعلت في قلبي نار التحدّي.
لم أرد أن أخسر أمامه، فقبضت على أطراف فستاني وانطلقت أركض بكل قوتي.
(أنا التي كنت دائمًا العدّاءة الأخيرة في سباق التتابع أيام المدرسة!)
ركضت فأثرت الريح خلفي، وتمكنت من اللحاق بكبير الكهنة الذي يفصلني عنه السور.
“كبير الكهنة!”
رأيته ينتفض كتفه عند سماع صوتي.
“لدي ما أود قوله.”
“اليوم أنا مشغول، أديلين. فلنترك الحديث لوقت آخر.”
“إنها نفس العبارة التي ترددها دومًا، لذا أعلم أنك تعرف. على الأقل خذ هذا.”
أخرجت الاستقالة التي كنت أحتفظ بها بعناية وقدمتها له.
“أديلين، أنا في طريقي الآن إلى الفاتيكان. ذلك مكان لا يمكنني أن أحمل إليه شيئًا يُعدّ إنكارًا لسلطة الحكام. سنتحدث لاحقًا.”
بوجه ممتعض وكأنما لا يريد أن يراني ثانية، اختفى مسرعًا.
“آه! حقًا لا شيء يسير كما أريد.”
ركلت الرمال تحت قدمي عبثًا وبدأت أتمتم بضيق.
لكن عندما فكرت مليًا، لم يكن هذا بالأمر الجديد أو المفاجئ عليّ.
بعد أن هدأت مشاعري عدت إلى مقر إقامتي. كل ما رغبت فيه الآن هو أن أغمر جسدي في حوض ماء دافئ وأستريح.
وحين دخلت الحوض، شعرت وكأني في الجنة.
زاد من متعتي أن أنامل “سيرا” التي كانت تدلّك فروة رأسي اليوم بدت أكثر حزمًا وخفة من المعتاد، وكان ذلك يروق لي كثيرًا.
وبينما كنت أستسلم لذلك التدليك، تسللت إليّ مجددًا هواجس التفكير:
(كيف أستطيع أن أجعل كبير الكهنة يلتفت إليّ أكثر مما يفعل الآن؟)
(هل أستطيع أن أخرج من هنا؟ على أي حال، هم لا ينوون اختياري كقديسة. هل يجب أن أفتعل فضيحة ضخمة واحدة على الأقل؟)
بقائي هنا بضعة أيام إضافية لن يغير أحداث القصة الأصلية.
(فالقديسة الكاملة ستكون لِيونا في النهاية على أي حال. ربما فقط سيتسارع تسلسل الأحداث قليلًا، ولن يضر ذلك بالحبكة.)
بدأ جسدي يذوب في حرارة الماء شيئًا فشيئًا، وشعرت بالنعاس يكاد يغلبني، لكن رأسي ظل يموج بالأفكار.
(هل السبب أنني من عامة الشعب؟ لا، هل يكره أحدهم أن يكون من العامة أصلًا؟ أليس رغبتي في الاستقالة أمرًا طبيعيًا؟ أحقًا يعتبرها مسألة كرامة؟ هذا تصرف ضيق الأفق. كم هو متحجر الفكر؛ لا يستطيع تقبل شيء إن خالف ما يراه قليلًا.)
على أي حال، لم يهمني بأي وسيلة، المهم أن أطرد من الطائفة.
فالبقاء هنا إلى جانب لِيونا لأساعدها في مهامها كقديسة لم يكن ضمن خططي أبدًا.
لم أكن أريد شرف القديسة ولا سلطة الطائفة.
***
مرّ الوقت، واقترب عيد ميلاد الحاكمة “آريا”، ولم يبقَ سوى يومين.
دعانا كبير الكهنة، أنا ولِيونا، إلى المعبد.
الغريب أن تعابيره هذه المرة بدت متسامحة وهو يوجّه بصره نحوي.
“أديلين، لقد تعبتِ في تنظيف الكاتدرائية الكبرى طوال الفترة الماضية.”
بالطبع لم أقم بشيء يُذكر، لكنني علمت أن الاعتراض هنا بلا جدوى، فاكتفيت بابتسامة لطيفة.
“ذلك الشيء الذي صنعتِه لكريس أثبت فائدته الكبيرة. بفضله أصبح الكثير من الناس مرتاحين. حقًا، رؤية أديلين وهي تنمو هكذا أمر مبهـر ورائع!”
كان ذلك أول مرة يتم فيها مدح أديلين وحدها أمام ليونا.
ربما لهذا السبب؟ بدا أن ملامح ليونا قد تصلبت قليلًا.
“هل أتخيل فقط؟”
واصل الكاهن الأكبر كلامه موجّهًا النظر إليّ:
“حتى لو كان تفكيرك قاصرًا بعض الشيء، وحتى لو كانت أفعالك ناقصة، يمكنك تعويض ذلك شيئًا فشيئًا. نحن نتطلع لرؤية تطورك المستقبلي.”
لكن كلماته جعلتني أنزعج بدوري.
“معنى هذا الكلام هو أن أبقى كمرشحة للقديسة ريثما أنمو وأتطور؟ وما علاقة صناعة الممسحة بأن أكون قديسة أصلًا؟”
لقد لفّ ودارت كلماته كثيرًا، لكن إن اختصرناها فهي لم تتعدَّ: “أطيعي أوامري.”
وهكذا وصلتُ إلى قناعة: لم يعد من الممكن حلّ الأمر بالطرق الهادئة.
“لا بد من الانتقال إلى الخطة (ب). لن أسمح لنفسي بالانسياق أكثر.”
اتخذت قراري بتغيير المسار.
الكاهن الأكبر، غير مدرك أبدًا لما يدور في ذهني، ما زال ينظر إلينا بنظرة دافئة وقال:
“لقد استدعيتكما اليوم على انفراد من أجل تكليفكما بتنظيف غرفة الحاكمة .”
لا أعلم من الذي وضع هذه القاعدة، لكن تقليديًا كانت غرفة الحاكمة تُنظَّف من قِبل المرشحة لتكون قديسة.
في الوضع الطبيعي كان يتم تقسيم العمل بين عدة أشخاص، فلا يكون مرهقًا.
لكن هذه المرة، الأمر مختلف.
فقد قامت أديلين بطرد كل المرشحات الأخريات، وأصبح عليّ أنا وليونا وحدنا تحمل عبء تلك الغرفة الواسعة.
لم يصرّح الكاهن الأكبر ولا أي شخص آخر بذلك علنًا، لكن الحقيقة أن كل ما نقوم به داخل المعبد كان بمثابة اختبار للأهلية كي نصبح قديسة.
حتى استعداداتنا لمهرجان ميلاد الحاكمة لم تكن سوى امتداد لهذا الامتحان.
المطلوب منا كان: التنظيف، ثم إضفاء القوة المقدسة على الغرفة.
فعندما يدخل عامة الناس إلى مكان مشبع بالقوة المقدسة ويخرجون منه، تختفي آلامهم الجسدية مؤقتًا وتُشفى جراحهم…
…يشعرون بالتحسن.
لقد كانت فرصة نادرة حتى لغير النبلاء كي يختبروا قوة ديانة “مايآريا” مباشرة.
فالناس الذين لا يملكون المال لاستدعاء كاهن حين يمرضون، كانوا يحاولون بشتى الطرق حضور فعاليات الديانة كي ينالوا ولو لمرة واحدة بركة القوة المقدسة.
ومن خلال هذه “المفاجآت” كانت ديانة مايآريا تُمسك بقلوب الناس وتشدّهم إليها.
قد يبدو الأمر أقرب إلى حيلة طائفة مشبوهة، لكن بما أنني اختبرت قوة أديلين المقدسة بنفسي، لم أستطع إلا أن أصدق.
“أديلين، ليونا… أعهد إليكما غرفة الحاكمة .”
وما إن أنهى الكاهن الأكبر كلامه وغاب عن الأنظار، حتى التفتت ليونا نحوي.
لكن على غير عادتها، كان في عينيها برود قاسٍ.
“هل فاتني شيء؟” تساءلت وأنا أسترجع مجريات القصة الأصلية في ذهني.
لكن لم يكن هناك ما يثير الريبة:
فكما في الأصل، ليونا كانت دومًا تتخلى عن عاداتها الأرستقراطية وتنجز ما يُكلَّف إليها بإخلاص كامل، مجسِّدة صورة المرشحة المثالية للقديسة.
أما أديلين فكانت لا تجيد سوى التظاهر بالعمل، لينتهي بها الحال دائمًا في موقف مُخزٍ.
وبينما استحضرت هذه الحبكة المألوفة، صعدت أنا وليونا إلى الطابق العلوي.
كانت “غرفة الحاكمة” مكانًا يُفتح مرة واحدة فقط في العام، في يوم مهرجان ميلاد الحكام، ولهذا كان الناس يتهافتون عليها أكثر من أي وقت آخر.
وكان واجبنا لا يقتصر على تنظيف الغرفة فحسب، بل أيضًا فجر يوم المهرجان كان علينا أن ننفث فيها قوتنا المقدسة في كل زاوية.
ثم فوق ذلك، كان علينا إمساك أيدي الزائرين الخارجين من الغرفة لنمنحهم بركة مباشرة.
“إنهم يستغلون المرشحات للقديسة أسوأ استغلال… يا له من مكان بغيض.”
فلو أن الناس تلقّوا طاقة طيبة من الغرفة المشبعة بالقوة المقدسة، ثم حظوا بعدها ببركة باليد؟
فلن تدوم طويلاً، لكن حتى مجرّد لحظة من ذلك تكفي لجعل كل من يزور الغرفة…لمنحهم إحساسًا مقدسًا يكفي تمامًا.
وكان هذا وحده كفيلًا بجعل كل من يزور الغرفة يؤمن بقوة الحاكمة “آريا” دون أدنى شك.
لكنني، لم تكن لديّ أدنى نية لا لتنظيف المكان ولا لنفث القوة المقدسة فيه.
بعد أن دخلنا “غرفة الحاكمة”، جلست ليونا على الكرسي وظلت أكثر من عشر دقائق دون أن تتحرك قيد أنملة.
بدت هي أيضًا وكأنها لا تنوي القيام بواجب التنظيف.
“إذن… لماذا تتصرف بعدائية معي أنا وحدي؟”
فجأة اجتاحتني غصّة.
هل هذا ما يسمّى “أرستقراطية انتقائية”؟ كلما فكرت في الأمر ازددت غيظًا.
لكنني أسرعت بتهدئة نفسي كي لا يفضحني شيء.
على أية حال، لم يكن قدري أن أسير في الطريق ذاته مع ليونا لأسباب عدة، لذا قررت أن أكون أكثر صفاقة.
فتمدّدت على الكرسي الآخر وأغمضت عيني.
“التنظيف… فليقم به من يريد أن يصبح قديسة.”
حتى بعينيّ المغمضتين شعرت بنظراتها المصدومة عليّ.
كان صوت أنفاسها المضطربة يوحي بأنها غاضبة، لكنني تجاهلتها تمامًا.
‘في النهاية، الخاسر هنا لن أكون أنا، بل ليونا.’
ألم تكن هي الأضعف في هذا الموقف لمجرد أنها من تتوق لأن تصبح القديسة؟
وأنا مستلقية هناك، غلبني النعاس وغفوت شيئًا فشيئًا…
لكن فجأة، ألم حاد اجتاح رأسي وكأن شعري يُنتزع من جذوره.
صرخت مفزوعة: “آاااه!”
فتحت عيني بسرعة، غير مصدّقة ما أراه أمامي. للحظةٍ حسبت أنني ما زلت في حلم.
لكن لا، كان واقعًا صاعقًا:
ليونا، تلك الفتاة التي طالما بدت ملاكًا، تمسك الآن بخصلات شعري وتشّدها بكل قوتها!
استوعبت الموقف وسط الألم، فصرخت بنبرة حادة:
“هيه! ما الذي تفعلينه بحق الجحيم؟!”
قالت ليونا ببرود قاتل:
“وما الذي أفعله برأيك؟ أروّض من هم أدنى مني. من لا يعرفون قدر أنفسهم يجب أن يُعاملوا هكذا. نحن صحيح مرشحتان للقداسة… لكن لا تظني ولو للحظة أننا متساويتان.
يا لجرأتك الوقحة.”
لم أستطع حتى استيعاب كلماتها، كانت صدمة لم تخطر لي على بال.
صرختُ وأنا أشعر بأن فروة رأسي تكاد تُنتزع من مكانها، فيما كنت أُسحب جرًّا بين يديها:
“هيه! ألا تفكرين في تركي؟!”
التعليقات لهذا الفصل " 9"