الفصل 8
“نعم؟”
أربكني كلامه المباغت.
قال بهدوء:
“فلنعد الآن، ما رأيك؟”
“حسنًا.”
تبعت خطوات الكاهن الأكبر بصمت.
وعندما وقفنا أمام مقرّ سكني لنودّع بعضنا، التفت إليّ قائلًا:
“أديلين، إنكِ محاطة بالكثير من المحبة. والمحبة دائمًا ما تستتبعها مسؤولية.”
راقبت ظهره وهو يبتعد بخطوات ثابتة، وفكّرت بمرارة:
“ليته شتمني مباشرة، كان ذلك ليكون أسهل. لكنني أكره هذا النوع من الكلام الذي يترك القلب في قلق واضطراب.”
بالطبع، لو كانت أديلين الحقيقية، لتظاهرت بعدم الاكتراث أيًا كان الكلام.
أما أنا فمختلفة عنها.
لقد عشت حياتي دومًا في موقع “الأضعف”، لذلك أدرك جيدًا ما يشعر به من لا يملك القوة. ولهذا غصت طوال الليل في مستنقع من العذاب.
لم أكن أؤمن بأن مجرد مشاعر أحادية الجانب يمكن أن تجرّ معها “مسؤولية الحب”.
إنما ما شعرت به تجاه الكاهن المتدرّب لم يكن شبيهًا بتلك المسؤولية، بل كان شيئًا آخر.
“اللعنة… لماذا يكون المتضرر بسببي دومًا هو الأضعف؟”
كنت ضعيفة أمام الضعفاء.
وانتهى بي المطاف أن سهرت الليل بعينين ساهرتين حتى بان الصباح، ونهضت بوجهٍ شاحب ومرهق.
“سيدتي أديلين، هل نِمتِ بخير؟”
دخلت سيرا إلى غرفتي بمرحها المعتاد، لكنها توقفت فجأة عند رؤية وجهي المتعب.
ارتسمت على وجهها ملامح الخوف، وارتجفت كتفاها قليلاً، كأنها استحضرت ذكرى ماضية مرعبة.
“عندما كانت حالتها سيئة… كانت أديلين تفرغ كل وحشيتها عليّ.”
ارتديت بمساعدتها فستانًا بسيطًا أنيقًا مخصصًا للأعمال اليومية، ثم توجهت نحو معبد “آريا”.
كان المعبد يتميز بروعة معمارية مذهلة.
حتى أنا، التي لا أملك أدنى اهتمام بعِلم الماياّريا، شعرت بدفء في صدري وانبهاراً بالهيبة الغامرة التي يبعثها المكان.
المعبد يتكوّن من ثلاثة طوابق:
في الطابق الأرضي يقع الصحن الكبير،
أما الطابق الثاني فيه مساحة أعيد فيها تمثيل غرفة الحكام نفسها، بالإضافة إلى قسم عرض القطع المقدسة للإلهة.
أما الطابق الثالث، فذكرت الرواية أن الوصول إليه يقتصر على أعلى المناصب: البابا، الكاردينال، والكاهن الأكبر، ولم تُفصّل الرواية ما يحتويه هذا الطابق.
كان المعبد مخصصًا للحكام فقط، ولا يُفتح إلا خلال مناسبات كبيرة مثل عيد ميلادهم، ما يجعل جميع الأنظار والفضول منصبًا عليه.
“ولكن، هل فعلاً سيسندون لي مسؤولية هذا المكان الهام؟ ليس مع ليونا، بل لي وحدي؟”
تصرف الكهنة الذين وزّعوا الأعمال بهذا الشكل بدا لي استفزازيًا، خاصة بعد ما حدث بالأمس.
“يبدو أنهم يريدون الإيقاع بي… لكن لدي خطتي الخاصة.”
على أي حال، حضرت للعمل لكنني لم أبدأ بالمهام، مكتفية بالراحة حتى المساء، حيث كنت أخطط للتمثيل بالإرهاق في المعبد.
بهذه الطريقة، إذا واصلت الراحة بهذا الشكل، سيعود كل شيء تقريبًا إلى مسار الرواية الأصلي.
عند دخولي المعبد، كان أول ما يجذب النظر هو تمثال في الوسط.
يقف التمثال، شعرهه الطويل متطايرًا في الهواء، بوقار وهدوء ساحر.
كنت أراقب التمثال بذهول، ثم حولت بصري إلى جانب آخر، حيث بدا أن تمثالًا آخر يلوح لي وكأنه يدعوني.
أُحاطت بشعور غريب عندما اقتربت من الجدار،
كان يُقال إن هذه التماثيل تحكي حياة الحكام بالكامل، مجسّدة كل مراحل حياتها في النقوش والتماثيل.
تدفقت الدموع ما إن خطر الاسم ببالي.
دموع لم أكن أتوقعها مطلقًا، حتى أنني ارتبكت من نفسي أكثر.
جلست في زاوية أحاول بصعوبة تهدئة ارتجاف صدري الغريب.
ظللت هكذا لوقت طويل، أحدّق بلا وعي إلى التماثيل
هل كان الحكام يعلمون أن ديانة مايآريا ستنحرف إلى هذا الحد؟
ربما كان مجرد شعور، لكن ملامح الحكام بدت حزينة.
حينها دوّى صوت خطوات سريعة مصحوبًا بنداء عالٍ مفعم بالحيوية قطع عليّ أفكاري.
“آنسة أديلين!”
التفتُ، فإذا به المتدرّب الكهنوتي الذي كان بالأمس ينظّف القاعة الكبرى عوضًا عني.
“هل أنتِ بخير اليوم يا آنسة أديلين؟”
ماذا؟ ما الأمر؟ ألم أكن هنا وحدي؟ كيف ظهر فجأة هذا الشخص؟
أخفيت ارتباكي ونظرت إليه بهدوء.
“لقد تحسّنت بفضل اهتمامك. لكن ماذا جاء بك إلى هنا؟ فهذا المكان من مسؤوليتي…”
كنت أرى بوضوح كيف ارتجفت زاوية فمه بابتسامة مكبوتة.
“لقد كُلّفتُ بهذه القاعة أيضًا. على ما يبدو، بعد أن رآك الأمين الأكبر البارحة، قرر أن يمنحني شرف مشاركتك.”
هل هو حقًا شرف؟ أم أن الأمر مجرد مراقبة لي؟
مع ذلك الثعلب العجوز، لا شك أنه قصد الاثنين معًا:
للكاهن بدا الأمر كعناية، أما لي فهو قيود ورقابة.
بينما كنت غارقة في حساباتي، عاد صوته بنبرة يغمرها الحماس:
“أي فخر أعظم من أن أعمل برفقة آنسة أديلين!”
كان وجهه يغمره انفعال مفرط جعلني أشعر بالحرج…
كان حماسه مبالغًا فيه إلى حدٍ يثير الدهشة.
“آنسة أديلين، من فضلك استريحي. سأقوم أنا بالتنظيف.”
“لا. كيف يمكن أن تترك هذه القاعة الواسعة كلها عليك وحدك؟ هذا غير مقبول.”
رفضت بإصرار، لكنه رفع رأسه بعد لحظة تأمل، وعيناه تتلألآن كأن فكرة عظيمة خطرت له.
“إن كان يحرجك الأمر، فما رأيك أن تراقبي عملي وتشجعيني؟ مجرد وجودك ورؤيتك لي سيمنحني قوة مضاعفة!”
“ماذا؟”
بدت حجته غير منطقية إطلاقًا، لكن ما جعلها مقلقة هو أنه قالها بكل جدية.
“أرجوكِ آنسة أديلين، افعلي ذلك. وإلا سأشعر بذنب شديد.”
لم أفهم تمامًا، لكن إصراره لم يتركني خيارًا آخر.
جلست على أحد مقاعد القاعة أراقبه وهو ينظف.
مرّ الوقت ببطء، وبعد ساعات من الجلوس بلا حراك، أخذ الملل يتسلل إليّ. قررت أن أفتح معه حديثًا.
“أيها الكاهن.”
“نعم، آنسة أديلين.”
“هل سيكون من قلة الأدب إن سألتك عن اسمك؟”
كان منحنيًا يكنس الأرض، لكنه اعتدل فجأة، وعلى وجهه إشراقة فرح غامر.
“آه، بالطبع لا! بل سيكون شرفًا عظيمًا أن تناديني باسمي. اسمي كريس.”
“اسم جميل. سيد كريس، أرجو أن نعمل معًا على خير.”
انحنى بعمق وهو يجيب بامتنان واضح:
“الشرف لي. سأبذل قصارى جهدي.”
بقيت أتساءل في داخلي:
إلى أي حد يعشقني هذا الكريس، ليقبل كل هذه الأعمال الشاقة وهو سعيد؟
أنهى كنس الأرض ثم جثا على ركبتيه ليبدأ بمسحها بقطعة قماش.
“رجل طويل القامة مثله… كم سيكون ذلك متعبًا له؟”
لكن بالطبع، لم يخطر ببالي أن أساعده بنفسي.
بدلًا من ذلك، خطرت لي وسيلة مختلفة.
“سيد كريس.”
“نعم، آنسة أديلين.”
مددت ذراعيّ إلى جانبيّ لأبيّن له حجمًا تقريبيًا وأنا أقول:
“هل يمكنك أن تحضر لي عصًا بهذا الطول تقريبًا؟ ويُفضل أن يكون قطرها في حجم معصمي. وأيضًا لوحًا بحجم كتاب القوانين الخاص بكنيسة ماياريا.”
“انتظريني لحظة! بما أنه طلب من آنسة أديلين، فسأجلبهما مهما كلّف الأمر!”
انطلق مسرعًا دون أن ينتظر حتى جوابي.
وبعد قليل عاد وهو يحمل بين يديه عدّة عصيّ بأطوال مختلفة.
انتقيت منها ما يصلح أكثر لصنع ممسحة طويلة، ثم لففت قطعة القماش على اللوح وربطتها بالعصا.
كان كريس يراقبني بعينين مليئتين بالفضول، لكنه لم ينبس ببنت شفة، وكأنه يخشى أن يقطع تركيزي.
وبخبرتي السابقة في صنع الأدوات البسيطة في مواقع التصوير، انتهيت بسرعة من إعداد ممسحة بدائية.
رفعتها بفخر، وعلى وجهي ابتسامة انتصار، بينما كان كريس يحدّق بي في ذهول.
“آنسة أديلين… ما هذا؟”
ابتسمت وأنا أبدأ في تجربتها، أدفع بها الأرض بخطوات واثقة.
لم تكن مريحة تمامًا مثل الممسحات الحقيقية، لكنها أدت الغرض على نحو مقبول.
وعندما رآني أتحرك بحماس وأنا أمسح الأرض، نظر كريس إليّ باندهاش شديد…
توسّعت حدقتا عينيه بشكل واضح من شدّة الدهشة.
“لقد صنعتها لمساعدتك في أعمال التنظيف يا سيد كريس.”
لم يعرف كيف يعبّر عن امتنانه، وبدا متأثرًا لدرجة أربكتني.
ناولته الممسحة بكلتا يديّ، فتلقّاها بكل احترام كما لو كانت كنزًا مقدّسًا.
‘لم يكن الأمر عظيمًا إلى هذا الحد… لكنه يتصرّف وكأني أهديته المعبد بأكمله، لا مجرد ممسحة.’
“أحقًا… أحقًا تهدينني هذه؟”
“بالطبع.”
راح يحدّق فيها بعينين يملؤهما الإعجاب، كما لو كان يتأمل جوهرة نادرة.
‘لا يا رجل… ليست بحاجة لكل هذه النظرات. إنها مجرد ممسحة…’
شعرت بالحرج من شدّة تقديره.
“لو أنني أعطيته مكنسة كهربائية لاسلكية لربما أغشي عليه من الفرحة… صحيح أنه ما زال متدرّبًا، ومعظم وقته يضيع بين التنظيف والأعمال الصغيرة.”
عاد بنظره إليّ، ممتلئًا بالعاطفة:
“هذه… التي منحتِني إياها، آنسة أديلين، هي…؟”
“ممسحة.”
“آه! سأستخدمها لأبذل قصارى جهدي في تنظيف المعبد!”
ثم انكبّ على عمله بحماس، لا يتوقف لحظة واحدة.
كان منظره وهو يعمل بتلك الروح أشبه بطفل نقيّ القلب، لا يعرف سوى الصدق والاجتهاد.
وكلما أطلت النظر إليه، ازددت اقتناعًا بأنه يمثّل الصورة المثالية لما يجب أن يكون عليه رجل الدين: لا يفسد، ولا يزيّف، بل يكرّس نفسه بإخلاص.
في سرّي دعوت لحاكمة آريا أن تحفظه هكذا، نقيًّا وبعيدًا عن الفساد.
****
ومع مرور الوقت، حلّت ساعة الغداء، فجلسنا جنبًا إلى جنب نتناول شطائر بسيطة.
كان كريس يتناول طعامه بآداب وأناقة فاقت حتى آدابي أنا، المرشحة للقب القديسة.
كان يأكل برقيّ ونظافة لدرجة جعلته يبدو وكأنه أحد كبار الكهنة.
هل يمكن أن يكون منحدرًا من عائلةٍ نبيلة؟
لكنني سرعان ما طردت الفكرة من رأسي. ما جدوى الماضي؟ الآن هو مجرد كاهن متدرّب.
“أعتقد أنّك ستصبح كاهنًا صالحًا بلا شك.”
“ه.. حقًا؟ إن كانت الآنسة أديلين تقول ذلك… عندها أشعر أنني أستطيع حقًا أن أصبح كذلك!”
“يجب أن تصبح كاهنًا صالحًا يا كريس. كاهنًا يضع الناس قبل المراتب والثروة.”
ابتسم بحرارة ثم قال:
“سيكون رائعًا لو أصبحتِ قديسة، وتقودينني بنفسك.”
أجبت بابتسامة خفيفة، وهززت رأسي نفيًا:
> “سبق أن قلت لك… أنا لست كفؤًا لذلك. القديسة يجب أن تكون مثالية، مثل ليونا. هي من تستطيع أن ترتقي بكنيسة ماياريا. أما أنا… فأنا شخص عادي، تهمّني سعادتي الخاصة أكثر من سعادة الآخرين. أفضل أن أمتلك كل شيء على أن أتخلى عن كل شيء.”
حدّق بي مليئًا بالإصرار:
“لا… بل أنتِ مميزة. الإنسان العادي لا يتحدث كما تتحدثين. أظن أن ما تقولينه ممكن فقط لأنكِ حقًا فارغة من الزيف… لأنكِ نزعتِ عنكِ التعلّق الدنيوي.”
“خطأ. لستُ مؤهلة لاحتمال رسالة الإلهة السامية. كل ما أريده هو حياة سهلة أُشبِع فيها رغباتي وأستمتع بها. أن أعيش الحياة ممتلئة، طويلة وواسعة… لا أن أضيّعها في تضحيات وخدمات نبيلة.”
ضحك كريس بصوت صافٍ، صادقًا كنسمة باردة في نهار حار:
> “هاهاها… لم ألتقِ في حياتي بشخص ص
ريح مثلكِ. لكن… الكنيسة بحاجة فعلًا إلى شخص مثلك يا أديلين.”
كان حديثه يبدو وكأنه صادر من شخص أعلى شأنًا مني. لا إراديًا، ابتسمت.
عندها نظر إليّ مباشرة، وعيناه تتلألآن بصدق لا يشوبه تردّد، وقال:
> “الآنسة أديلين… أنا… أحبكِ.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"