6
الفصل 6
إمبراطورية كينستيريا لم تكن بلدًا متطورًا في علم التنجيم.
كان الأمر لا يتجاوز قراءة طالع اليوم للتسلية، لمعرفة إن كان يومًا سعدًا أم نحسًا.
ولهذا لم يكن مجالًا يثير اهتمامًا لا عند معبد ماياريا ولا عند القصر الإمبراطوري.
قد يبدو غريبًا أن أختار التنجيم، خاصة وأنني بلا قدرات خارقة، لكن بالنسبة لشخص مثلي تجسّد داخل كتاب… لم يكن هناك عمل أنسب من هذا.
فأنا أعرف أدق تفاصيل الشخصيات: مظهرهم، ماضيهم، مستقبلهم… أي عمل سيكون أكثر ملاءمة لي من هذا؟
إن كان هناك عمل أنسب، فالرجاء أن يقترحه أحد فورًا! هاهاها.
وفوق ذلك، فقد كنتُ في حياتي السابقة – أيام “لي تشانمي” – قد شاركتُ في “مسابقة بقاء في التنجيم”، فاكتسبتُ كل المهارات المتخصصة التي يحتاجها الممتهن.
تلك الطريقة بحد ذاتها كانت سرًّا من أسرار السماء، من الدرجة الأولى.
من كان يتصور أن ما تعلمته من كبار العرّافين في كوريا سأستفيد منه هنا؟
مرة أخرى أثبتت الحياة أن الإنسان عليه أن يتعلم كل ما يقع تحت يده.
بل أقسمت بيني وبين نفسي ألا أهمل طلب العلم حتى آخر لحظة في حياتي.
بعد أن حسمتُ أمر مهنتي، كان عليّ أن أبدأ بفحص الوضع المالي لأديلين.
فالعمل الحر لا يقوم على الحماس وحده، بل يحتاج إلى رأس مال أساسي.
وطبعًا، لم يكن واردًا أن أطلب قرضًا… فأديلين لم يكن لها إلا خصوم في كل مكان.
لكن لحسن الحظ، أديلين منذ صغرها تلقت الكثير من دعم النبلاء، ولهذا كان بإمكاني أن أعيش مستقلة.
حين رأيت مقدار ما ادخرته على مر السنين، كدت أبكي من التأثر.
حقًّا، لقد أبهرتني قدراتها.
أديلين… شكرًا لكِ. سأجعل حياتكِ أيضًا أفضل.
’سأعيش حياة تستحق التصفيق، حياة يقال عنها: لقد فعلتها حقًّا!’
***
آه… ولكن مجددًا سرحتُ بعيدًا بأفكاري.
ما يجب أن أضعه في الأولوية الآن هو استقلالي.
“ذلك العجوز الثعلب… نائب الكاهن الأكبر. ها هو يهرب مرة أخرى، أليس كذلك؟ كل مرة يزداد مكره دهاءً. لماذا يتشبث بي بهذا الشكل وأنا أقول بوضوح إني لا أريد أن أكون قديسة؟”
لقد صار تشبثه بي أشبه بما يفعله حبيب سابق لزج لا يعرف كيف يبتعد.
لا أفهم لماذا يصرّ ذاك الكاهن الغامض، الذي يحرك خيوط إمبراطورية كينستيريا من وراء الستار، على التمسك بمجرّد شخصية ثانوية مثلي.
طَرق! طَرق!
بينما كنت أمسك رأسي من شدة الضيق، سُمع صوت طرق على الباب.
“نعم، تفضل بالدخول.”
دخل خادم صغير من خدم المعبد.
“آنسة أديلين، حان وقت الغداء.”
“حسنًا.”
اليوم كان موعد الغداء مع الكهنة الكبار. وبالطبع، سيكون نائب الكاهن الأكبر حاضرًا.
“إذن ما الفائدة من هروبي يا ثعلب عجوز؟ سنلتقي سريعًا على كل حال.”
أسرعت بتهيئة نفسي ثم اتجهت إلى قاعة الولائم الصغيرة.
***
كانت ليونا قد وصلت قبل الجميع، وكانت تتبادل التحيات مع الكهنة.
وقوفها بينهم، وسط تلك الهالة المضيئة، بدا أمرًا طبيعيًّا للغاية… كما لو أنها خُلقت لتكون في المركز دومًا.
ربما علي أن أصف ذلك بأنه جمال مألوف… جمال يبدو كأنني طالما رأيته من قبل وأنا بجوارها.
كانت تبتسم بأصفى ابتسامة، وتتعامل مع الناس بأريحية كاملة، تدخل معهم في الحديث بلا تكلف ولا حواجز.
وربما، هذا بالضبط ما كان يثير حسرة “أديلين” في الرواية… أنها لم تستطع أن تمتلك أبدًا مثل هذا النور.
ربما كانت “أديلين” تشعر بالغيرة من صفاء ليونا وإشراقها.
فأديلين أيضًا حلمت يومًا بأن تصبح قديسة.
وجوهر القديسة هو أن تحظى بحب الناس واحترامهم.
ربما كانت تتمنى، في أعماقها، أن تصبح قديسة تشبه ليونا.
لكنني… مختلفة.
كلما استأثرت ليونا بمحبة المعبد أكثر، امتلأ قلبي امتنانًا.
“كما توقعت… يا ليونا البطلة، أنت حقًّا هدية القدر.”
كل ما أرجوه أن يزداد تعلق الناس بليونا أكثر فأكثر… حتى يتخلوا عني سريعًا.
ولو نسوني تمامًا بسبب “فقدان ذاكرة جزئي”، لكان أفضل.
“من هنا، آنسة أديلين.”
قادني الخادم إلى المقعد المخصص لي، وجلست.
عندها دخل نائب الكاهن الأكبر.
فنهض الجميع واقفين لتحيته.
امتلأت كؤوس الكريستال بسرعة بخمر العنب، فرفع نائب الكاهن الأكبر كأسه وقال:
“لتكن بركة الإلهة آريا معنا جميعًا.”
رفعت كأسي مع البقية، وشاركنا في النخب، ثم ارتشفنا الخمر.
ساد الهدوء بينما استمر تناول الطعام حتى قُدّم الحلوى.
وحين انتهينا، نقر نائب الكاهن الأكبر بكأسه مستخدمًا شوكته لينتبه الجميع.
اتجهت إليه أنظار الحاضرين تلقائيًا.
“كما تعلمون جميعًا، حان الوقت لبدء الاستعدادات لعيد ميلاد الإلهة آريا. أرجو أن يبذل كل منكم أقصى جهده في مسؤولياته.”
“نعم، يا سيادة نائب الكاهن.”
كان عيد ميلاد الإلهة آريا أحد أهم ثلاثة احتفالات كبرى لديانة ماياريا.
وكان أيضًا الاحتفال الذي تتدفق فيه أكبر كمية من النذور والتبرعات…
كان الاحتفال من أهم المناسبات التي يبذل فيها المعبد كل ما في وسعه من جهد.
وبما أنه كان احتفالًا يدر أرباحًا عالية، فمن الطبيعي أن يكرّس معبد ماياريا نفسه للعمل بجد، إذ كان المال محبوبًا لديهم.
لذلك، وتحت شعار “إخلاص يُقدَّم للإلهة”، كان جميع ما يُستخدم في عيد الميلاد يُصنع يدويًا على أيدي الكهنة أنفسهم.
بكلمات أخرى، كان احتفالًا يُحضَّر وكأن الكهنة يسكبون فيه أرواحهم.
تذكرت أنني حين كنت أقرأ الرواية، استمتعت بتلك الفصول التي وصفت هذا الاحتفال في بدايته.
فقد كان الغرض منها إظهار هيبة معبد ماياريا.
لكن الفرق شاسع بين أن أقرأه في كتاب… وبين أن أجد نفسي مطالَبة بالمشاركة فيه حقًا.
شعرت بالظلام يطبق على بصري.
“ماذا كانت تفعل أديلين في هذا الجزء من القصة؟ لقد عشت هنا كمرشحة للقديسة دون أن أقوم يومًا بعمل حقيقي بيدي… فهل سأتمكن من شيء الآن؟”
لمجرد أنني فكرت أن عليّ أن أقوم بكل شيء بنفسي، ابتداءً من التنظيف… شعرت وكأنني عدت مجددًا إلى حياتي السابقة كـ لي تشانمي.
“لا يجوز أن أسمح لهذا أن يحبطني. فلأعتبره فرصة.”
على الأقل، أثناء الاستعدادات لعيد الميلاد سألتقي بنائب الكاهن الأكبر مرات كثيرة.
لذا عزمت أن أكتب عدة نسخ من خطاب الاستقالة وأحملها معي دائمًا.
“هذه المرة لا بد أن أحقق حلمي بالاستقالة.”
وإن لم ينجح الأمر… فحتى إن خرّبت الاحتفال عمدًا وطُردت، لربما كان ذلك أفضل.
إن تسببت بكارثة كبيرة، فلن يكون أمام المعبد خيار سوى التخلي عني.
حين عقدت العزم على هذا، شعرت أن الحمل الثقيل الذي كاد يخنقني صار أخف قليلًا.
بعد أن انتهى الغداء وخرجت، لم أتوجه إلى مسكني بل انحرفت نحو الاتجاه المعاكس.
وفي تلك اللحظة، دوّى صوت كاهن عجوز، معروف بصرامته ونفوره مني:
“الآنسة أديلين، إلى أين تعتزمين الذهاب؟”
“إلى نزهة قصيرة.”
فقطعت تجاعيد عميقة جبهته، كاشفة عن انزعاجه الواضح…
ظهر ذلك بوضوح.
قال أحد الكهنة:
“عليك أن تُطهّري أفكارك وروحك استعدادًا لعيد الميلاد المقدّس. كيف يمكن لمرشحة القديسة أن تنغمس في دنيا البشر؟”
فأجبته مبتسمة:
“ولهذا السبب سأذهب. لأُطهِّر النفاق والتزمّ.”
احمرّ وجه الكاهن العجوز وانكمش غضبًا.
“السيدة أديلين! ما معنى هذا الكلام؟”
كنت أعرفه جيدًا.
في الظاهر يتحدث دائمًا بوقار وكأنه لا يقول إلا الحق، لكن خلف الكواليس كان يتلقى رشاوى ضخمة.
رفعت زاويتي فمي بارتياح وقلت:
“لا أدري… لكنك تعرف ذلك جيدًا، أليس كذلك؟ على كل حال، أنا مشغولة الآن.”
ثم استدرت منصرفة.
كان يصرخ خلفي بشيء ما، لكني لم أكلف نفسي عناء الاستماع، وتركته خلفي.
***
بعد أن حدّدت نوع العمل الذي سأفتتحه، صرت أخرج أحيانًا إلى السوق لأتفقد هذا وذاك، وأجري أبحاثي الخاصة.
أين سيكون الموقع الأفضل للمحل؟
كم ستكون تكلفة الاستشارات؟
كيف سأهتم بالديكور الداخلي؟
لم أكن معتادة بعد على أسعار السوق هنا، فكانت هناك أمور كثيرة صعبة عليّ.
وبحجة أنه من الأفضل أن أتعلم جيدًا، كنت أُكثر من التسوّق فعلًا.
فلا بد أن أتعلم فن التجارة.
(وما المشكلة؟ هكذا أتعرف بسهولة على أصحاب المحلات وأبني علاقات. كل هذا جزء من الخطة الكبيرة التي أراها أمامي).
وبينما أفكر إلى أين أذهب اليوم، انتهى بي المطاف داخل متجر للحلويات.
كان متجرًا مشهورًا لدرجة أن القطعة تذوب في الفم حلوةً لذيذة، حتى إنني لا أكاد أتذكر ما الذي أكلته للتو.
لهذا كان اسم المتجر “السراب”.
هذا “السراب” أيضًا ظهر في الرواية، لذا كانت مشاعري نحوه مختلفة.
لم يحن وقته بعد، لكنه كان نفس المتجر الذي ستأتي إليه “ليونا” في المستقبل لتواعد أحد المرشحين الذكور.
أتذكر ذلك المشهد الأسطوري حين ذاب جميع الزبائن داخل متجر الحلويات أمام جمال الاثنين معًا.
وحينها قالت ليونا:
「”إنه لذيذ حقًا. بول، ما الحلوى التي وجدتها ألذ شيء أكلته؟ رشّح لي واحدة أخرى.”」
فنظر بول إلى عينيها بابتسامة لطيفة وقال:
「”أفضل ما ذقته على الإطلاق… هو ما أتناوله الآن معكِ يا ليونا. لا يوجد شيء أجمل من مشاركته معك.”」
عندها احمرّت وجنتا ليونا بخجل.
وحتى مجرد تذكّر ذلك جعل وجهي أنا أيضًا يحمرّ من شدة الإحراج.
كنت محظوظة لأنني جلست في مقعد على التراس، فطلبت نفس ما تناولته ليونا آنذاك: فطيرة بالكريمة الطازجة وشاي.
ثم بدأت أراقب بعناية حركة الناس ذهابًا وإيابًا وأحصي أعدادهم، وأسجّل الاتجاهات بينما أكتب على الورق خطوطًا على شكل (正).
فموقع المتجر أمر غاية في الأهمية.
“ها هي طلباتكم.”
جاء النادل وقدّم لي فطيرة الكريمة المزينة بشكل جميل، مع إبريق شاي فاخر.
ارتشفت أولًا جرعة من الشاي المرّ قليلًا، ثم أخذت قضمة من الفطيرة… فانصهرت تمامًا في فمي.
(هذا هو الفردوس على الأرض بحق. لا أحتاج إلى التفكير في حركة المارّة أو عددهم. لا بد أن أفتح متجري بالقرب من هنا!).
بينما كنت غارقة في سُكر الحلاوة، تسبق مشاعري عقلي وتدفعني لأفكار عاطفية، سمعت صوتًا غريبًا يقول:
“آنستي، هذه الحروف؟ أو الرسوم؟ ماذا تعني بالضبط؟”
رفعت رأسي، فإذا بوسيم لافت للنظر أمامي، ذو شعر ذهبي وعيون زرقاء صافية.
لم أملك إلا أن أحدّق فيه لحظة، مأخوذة بجماله الذي يبعث على الإعجاب والانبهار، ثم سارعت أبحث في ذاكرتي.
(شعر ذهبي… وعيون زرقاء داكنة…؟)
نظرتُ إليه بدهشة أكبر من دهشتي حين رأيت وجهه أول مرة.
لم يكن سوى ذلك الرجل نفسه… بول!
الرجل الذي قال منذ قليل في الرواية تلك الكلمات المليئة بالحرج.
إنه بولايان، الابن الثالث لأسرة اللورد لينت، والمُعيّن كأصغر رئيس مستقبلي لبرج السحرة في عمر الثانية والعشرين.
أحد أبرز المرشحين الذكور في القصة… وهو الآن يقف أمامي، يحدق بي.
(ما الذي يفعله بولايان لينت هنا؟!)
كنت جامدة لا أفهم الموقف، بينما نظر إليّ بعينين تلمعان بالاهتمام، وجلس قبالتي كما لو كان في الأصل رفيقي.
قال وهو يحدق فيما كنت أكتبه:
“إنها حروف غريبة حقًا. لقد طالعتُ معظم المخطوطات القديمة في القارة، ومع ذلك لم أرَ يومًا مثل هذا الشكل. ماذا تمثّل؟”
عيونه الزرقاء كانت تتلألأ كالياقوت، تحدق بي بعمق حتى شعرت أن وعيي يتلاشى.
هززت رأسي بقوة محاوِلة استعادة تركيزي.
وبدت على وجهه ابتسامة رقيقة، كما لو كان وجد شيئًا ممتعًا في تصرفي المفاجئ.
(لا، لا! لا يمكن أن أفقد تركيزي هنا، ستكون كارثة!)
فلت من لساني دون أن أستطيع التحكم:
“المعذرة… نسيتُ للحظة أن وجهك يسطع بالضياء.”
“نعم؟ ماذا قلتِ؟”
صُدمت بنفسي. خرجت كلماتي دون إذن مني.
ضحك بولايان بصوت مسموع.
“مزحتِ فأفرطتِ في المزاح، على ما يبدو.”
جمعت ملامحي سريعًا بعد ارتباكي، وقلت بجدية متصنعة:
“نعم، لقد بالغت حقًا.”
قلتُها ردًّا على كلماته، ثم تمتمتُ في سري:
(بقدر وسامتك تمامًا…).
عاد بصر بولايان ليستقر على ما كنتُ أكتبه من خطوط متقاطعة.
(هذه الحروف… إنها من العالم الذي كنت أعيش فيه قبل أن أتجسد هنا).
ترددت قليلًا؛ لا يمكنني البوح بهذا، ففكرت مليًا.
لكن بينما كنت غارقة في حيرتي، كان بولايان يتصرف بكل أريحية… ويمد يده نحو فطيرة الكريمة
خاصتي، ليتناول منها لقمة وكأنه صاحبها.
لقد بدا الأمر طبيعيًا إلى حد أنني كدتُ أظن أنه طلب لنفسه قطعة أخرى دون أن ألحظ.
لكن ما إن رأيت الطبق أمامي فارغًا تمامًا، حتى ارتسمت على وجهي صدمة أكبر حتى من تلك التي شعرت بها عندما التقت عيناي بوجهه الوسيم لأول مرة.
التعليقات لهذا الفصل " 6"