الفصل 5
كما لو كنتُ الثعلب في رواية الأمير الصغير، كنتُ أشعر بالبهجة قبل حلول موعد لقائي مع كبير الكهنة في الثانية ظهرًا.
لم أستطع البقاء ساكنة بانتظار الموعد، فتحركتُ قبل الوقت بوقت طويل.
ربما لأن مزاجي كان رائعًا، بدت السماء الغائمة جميلة، وحتى الأزهار الذابلة من المطر ظهرت لي وكأنها مبهرة.
وصلتُ قبل الموعد بنصف ساعة، ولم أتمالك نفسي فطرقت الباب.
طَقطَق!
حتى صوت الطَرق بدا اليوم مرحًا وكأنني أسمع لحنًا.
قام أحد الكهنة الصغار وأخذني إلى مكتب كبير الكهنة.
لكن حين دخلت، لم يكن كبير الكهنة هو من وجدته هناك، بل رجل ذو شعر أحمر كان ينظف إطار النافذة.
وما إن استدار حتى فوجئت بجماله الساحر.
تجمدتُ لبرهة وأنا أحدّق فيه من دون وعي، ثم سارعت إلى ضبط ملامحي بسرعة.
ومع ذلك، شعرتُ بالقلق من أن يكون قد لاحظ ارتباكي.
في هذا العالم… يبدو أنني إن لم أتعلم بسرعة أن أُحصّن نفسي ضد الوجوه الجميلة، فسوف أرتكب خطأً فادحًا.
لكنني، وكما هو متوقع، وقعت مجددًا في مستنقع وسامة الوجه.
مستنقع الجمال هذا… إن سقطتَ فيه مرة، من الصعب أن تفلت منه.
(من هذا؟ شعر أحمر وعيون خضراء…)
وبما أنني كنتُ أحفظ روايتي المفضلة عن ظهر قلب، عادةً ما أتعرف على الشخصيات من ملامحها فورًا.
لكن هذا الرجل لم يخطر ببالي كأحد الأبطال الرئيسيين.
هل يعقل أن يمتلك شخص بهذا المظهر المبهر دورًا غير مهم؟!
وبينما أنا غارقة في دهشتي، إذا بالرجل يلتفت نحوي بوجه يفيض فرحًا وصوت متحمّس قائلاً:
“ألستِ السيدة أديلين؟ ما الأمر الذي جاء بكِ إلى هنا؟”
(هذا الرجل… يعرفني. حسنًا، إن كان من رجال الكنيسة فلا عجب…)
لكنني لم أتخلَّ عن حذري وأنا أحدّق به.
فكل من ينتمي إلى كنيسة ماياريا –وخاصة أصحاب المناصب العليا– لم أعد أستطيع الوثوق بهم.
ففي الرواية، هم كانوا من ساهموا في قتل أديلين.
أجبتُه مع إبقاء يقظتي مشدودة:
“نعم، أنا أديلين. ومن تكون أنت؟”
ابتسم قليلًا وقال:
“أنا الكاهن المتدرّب الجديد. أوكِل إليَّ تنظيف مكتب كبير الكهنة.”
كانت عيناه المتألقتان مملوءتين بالانبهار وهو يحدّق بي.
يبدو أنه بما أنني مرشحة للقداسة، فقد نسج في ذهنه أوهامًا كثيرة عني.
بصراحة… كان وجهه جميلًا إلى حد يجعله مؤسفًا ليكون مجرد كاهن.
عيناه المتلألئتان كانتا تبعثان على الضغط والارتباك، لكنني في الوقت نفسه لم أستطع إنكار شعور لطيف بالتقدير.
وبينما أنا غارقة في ذلك الإحساس، سمعت صوته العذب يخاطبني:
“سيدتي أديلين، هل أجرؤ على طلب خدمة… رغم أننا نلتقي لأول مرة؟”
“طلب…؟ أي نوع من الطلبات؟”
كان صوته حذرًا، لكن نظراته كانت لامعة تمامًا مثل قطة “القط ذو الحذاء”.
(ظننت أنه فقط وسيم، لكنه أيضًا… لطيف؟ يا إلهي، ملامحه تخوض معركة ضدي!)
ارتبك قليلًا، وفتح فمه وأغلقه عدة مرات، قبل أن يتمالك نفسه وينطق بصعوبة:
“هل تمنحينني بركة من فضلك؟”
كلماته أعادتني إلى وعيي دفعة واحدة.
البركة… إنها قدرة تخص القديسة وحدها،
وإن منحتها، فقد ينكشف النور الإلهي الكامن بداخلي بالكامل.
(إن كان هذا الكاهن الشاب يملك القدرة على تمييز قوة النور الإلهي طبعا …)
فبالنسبة لي، وأنا أحمل في قلبي استقالتي، كان ذلك طلبًا بالغ الخطورة.
***
كان ذلك طلبًا خطيرًا.
فحتى لو لم يكن الأمر متعلقًا بقدرتي، لم يكن من اللائق أصلًا أن أمنح البركة وأنا لستُ قديسة بعد.
لكن الأخطر من ذلك هو أن قوتي المقدسة ستنكشف.
***
في الرواية الأصلية، كانت قوة أديلين المقدسة واهنة إلى حد يُستهزأ به.
لكن منذ أن تجسدتُ في جسدها، بدأت تلك القوة تنمو تدريجيًا.
بل وحتى أنا –التي لا أعرف شيئًا عن القدرات الخاصة– استطعت أن ألحظ التغييرات في جسدي.
في البداية لم أكن أدرك أن القوة المقدسة في ازدياد.
فأنا لم أكن أعرف حتى كيف أشعر بها أو أستخدمها.
أما أديلين في الرواية، فلم تكن تملك أي قوة مؤثرة أصلًا، وهذا ما كانت تتحسر عليه دائمًا.
كانت تكره ذلك وتغلي غيظًا، حتى إنها كثيرًا ما أفرغت غَيرتها وكرهها في وجه الإلهة آريا، خاصة عندما كانت تقارن نفسها بليونـا.
وبما أن ذاكرتي ما زالت تحتفظ بكل ذلك، فقد وجدت نفسي عاجزة عن التحكم في تدفق القوة داخل هذا الجسد.
كان ذلك مرعبًا بالنسبة لي، لكن لم أستطع أن أستشير أي أحد، فحاولت أن أكون حذرة قدر الإمكان.
(ولذلك… كنت أحمّل اللوم دومًا على أديلين التي لم تتعلم شيئًا ولم تدرس قدراتها…)
وبسبب عجز جسدي عن استيعاب ما يدور فيه من قوة مقدسة، أمضيت أيامًا وأنا غارقة في الكآبة، أتصرف بعنف داخل غرفتي وأرفض مقابلة أي أحد.
كنت أقول للآخرين إنني “مكتئبة” خوفًا من أن يظنوا أنني مريضة فيرسلوا إليّ كهنة للعلاج.
لكن بما أن الجميع كان يعرف شخصية أديلين المتقلبة، لم يُلحّوا عليّ كثيرًا.
قضيتُ تلك الأيام محبوسة في غرفتي مثل جثة حيّة، حتى أنني فكرت جديًا في الهرب بعيدًا، رغم أنه لم يكن جزءًا من خطتي.
كنت أتمنى لو أبدأ المستقبل الذي حضّرته هنا، لكني فكرت أن الهرب –حتى وإن لم تتجاوز نسبة النجاة منه 1%– أفضل بكثير من الموت المحتوم.
ولذلك بدأت بجنون أجمع كل ما وقعت عليه يدي من جواهر.
حتى في لحظات الجنون، ها أنا أختار الأشياء الثمينة أولًا… برافو عليّ، غريزة البقاء عندي لا غبار عليها.
لكن حين لامست يدي العقد الذي اعتادت أديلين ارتداءه منذ صغرها، أحسست فجأة بأن العاصفة الهوجاء من القوة المقدسة التي كانت تجتاح جسدي قد هدأت.
“ما… ما الذي يحدث؟”
ذلك العقد كان مجرد حُلي مفضل عند أديلين في الرواية، لا أكثر.
أما هنا، فقد أهملته لأنها كانت محاطة بزينة وجواهر أجمل منه.
ظننت أنني أتخيل، لكنني اختبرت الأمر يومين آخرين، فاكتشفت أن العقد قادر فعلًا على كبح قوتي المقدسة.
حينها فقط تنفست الصعداء، وألغيت فكرة الهرب، واستطعت أن أرتب أمتعتي من جديد.
“إذا كانت قوة أديلين بهذا المستوى… فكم تبلغ قوة ليونا إذًا؟ لم تكن جميلة المظهر فقط، بل قدراتها أيضًا خارقة.”
يا لها من نعمة عظيمة.
اتخذت قراري: لن أخلع هذا العقد أبدًا، ما حييت في هذا المكان.
لأن مجرد علم الكنيسة بسرّ كهذا يعني أنني سأُسجن داخل الماياريا إلى الأبد.
*****
“آنسة أديلين… أديلين!”
أعادني الصوت اللطيف إلى الواقع.
كان المتدرّب الكاهن ما يزال يحدق بي بعينين متلألئتين، ممتلئتين بالفضول والإعجاب.
خفضت بصري قليلًا، ثم قلت بصوت هادئ ورزين:
“لا أستطيع تلبية طلبك، أيها الكاهن. لأكون واضحة أكثر… أنا لستُ قديسة بعد، وبالتالي لستُ فردًا من رجال الكنيسة. لذا فليس من موقعي أن أمنحك البركة. يمكنك أن تنالها مستقبلًا من الآنسة ليونا.”
رفضتُ طلبه، لكن دون أن أفقد دفء ابتسامتي وأنا أحدّق فيه.
ارتبك لوهلة من الرفض، ثم سرعان ما تحوّل تعبيره إلى تفهّم، وهز رأسه بقوة قبل أن ينحني بعمق معتذرًا.
“لقد كان تفكيري قاصرًا فارتكبت إساءة. أعتذر منكِ، آنسة أديلين.”
كان في اعتذاره صدق واضح جعل مشاعري السلبية تذوب كما يذوب الثلج.
أُعجبت بموقفه كما أعجبت بملامحه من قبل.
الجوهر ليس الوجه… بل الموقف، أليس كذلك؟
كم من مرة أرهقني كهنة لا يعرفون سوى الجدال الأعمى، لكن يبدو أنني محظوظة هذه المرة.
قال فجأة:
“الآنسة أديلين… تبدين مختلفة عمّا تخيّلتك.”
“نعم؟”
تظاهرت بأني لا أفهم ما يقصد، لكنني كنت أدرك تمامًا.
طبعًا سأكون مختلفة… كل ما سمعه عن أديلين كان مجرد سمعتها السيئة.
ابتسم بخجل ثم قال:
“أعتذر… كان خطأً أن أحكم عليكِ استنادًا إلى الشائعات دون أن أعرفك حقًا.”
“لا بأس. فالشائعات دائمًا ما تُضخَّم، وهي لا يمكن أن تصوّر إنسانًا كاملًا أبدًا.”
أجبت بابتسامة هادئة، فرأيت لأول مرة بؤبؤيه يضطربان.
هل اهتزّت عيناه لأن كلامي لامس قلبه، أم لأنها اعتراف ضمني بندمٍ حقيقي؟ أم… هل كان يومًا من ضحايا تصرفات أديلين السابقة؟ لا، لا بد أنني أبالغ في التفكير.
أسرعت بتهدئة خواطري ودفنها في داخلي.
على كل حال ،
كلما طالت جلستي مع شخص غريب من رجال الكنيسة، زادت خطورتي. لذلك سارعت بتحويل الحديث إلى الغرض الذي جئت من أجله.
“على كل حال… أين ذهب سيادة الكاهن الأكبر؟”
“طرأت له مسألة عاجلة فاضطر إلى المغادرة، وطلب مني أن أرجو من الآنسة أديلين انتظار عودته.”
“هكذا إذن.”
جلست في مقعدي، فإذا بالمتدرّب الكاهن يجلس مقابلي بوجهٍ مليءٍ بالفضول.
كان الأصل في الكهنة أن يتحلّوا بملامح جامدة لا تُقرأ، لكن ربما لصِغر سنّه ما زال غير بارع في إخفاء مشاعره. بدا واضحًا أن في صدره كلامًا آخر يريد إخراجه، وذلك أشعرني بالضيق.
ابتسمت له بهدوء وقلت ببطء:
“أيها الكاهن… هل بقي لديك ما تود قوله بعد؟”
حكّ رأسه بخجل، ثم تماسكت ملامحه فجأة وهو ينظر في عيني بثبات.
“أولًا… أعتذر. سؤالي فيه تجاوز، لكنني مضطر لطرحه عليكِ يا آنسة أديلين.”
هل هناك داعٍ أن يسأل سؤالًا وهو يعلم أنه تجاوز؟ كان يمكنه أن يوفر علينا الحرج بعدم سؤاله أصلًا…
ابتسمت بدلًا من قول ذلك، لكنني أرسلت إليه نظرةً واضحة مفادها: إن كان لديك ذرة فطنة، فلا ترتكب الحماقة.
إلا أن المتدرّب لم يكن قد تمرّس بعد على قراءة الإشارات.
قال بصوتٍ جاد:
“لماذا تسعين للتخلّي عن مقعد القديسة، وهو مقعد مشرَّف اختارتكِ له الإلهة آريا بنفسها؟”
في تلك اللحظة ومضة غريبة مرّت في عينيه، كأنها حدّة أو ريبة، لكنها اختفت بسرعة حتى شككت في نفسي إن كنت قد توهّمتها.
ومع ذلك، كان يحدّق بي وكأنه يحاول اقتلاع الحقيقة من داخلي، فأشعرتني نظرته بتوتّر خفي.
ارتديتُ قناعًا من التواضع على ملامحي قبل أن أجيبه:
“أنا لستُ جديرة بمقام القديسة من نواحٍ عدّة. لا أريد أن أكون عبئًا على الكنيسة، لذا اخترت الرحيل. ثم إن القديسة الكاملة ليست أنا… بل ليونا. هذا هو صدق قلبي تجاه ديانة ماياريا.”
كان جوابي مرتبًا ومتواضعًا لدرجة جعلتني أرغب في مدح نفسي.
لكنني رأيت في عيني المتدرّب الكاهن أمواجًا لا تنتهي من الفضول، فعرفت أنه لا ينبغي أن أبقى أطول.
“يبدو أن الكاهن الأكبر سيتأخر. سأغادر الآن، أرجو أن تبلّغوه أنني سأعود لزيارته لاحقًا.”
“الآنسة أديلين!”
ناداني كأنه يريد أن يمسكني، لكنني أسرعت بخطوات سريعة، شبه هاربة من هناك.
لم يكن شابًا سيئًا بالضرورة، لكن شعورًا غريبًا بالريبة ظل يلحّ عليّ. لا أستطيع وصفه بالكلمات، غير أن حدسي كان يصرّ على أنه خطر.
ثم إن شكله اللافت لم يُذكر إطلاقًا في الرواية، وهذا بحد ذاته غير مفهوم.
إن كان بالفعل شخصية لم ترد في النص الأصلي، فالتقرّب منه في هذه المرحلة محفوف بالمخاطر.
أنا لا أعرف شخصيته الحقيقية بعد. ثم إن هدفي هو تغيير مصير أديلين.
لكن تغيير مصيري مع الحفاظ على إطار القصة الأصلية كان عملًا دقيقًا معقدًا.
حتى أبسط الفوارق مع الأصل لا يمكن الاستهانة بها أو تجاوزها.
خطة استقلالي كانت وليدة حسابات دقيقة.
أما الحِرف كصناعة الحلويات أو تصميم الأزياء أو بناء المنازل، فلم تكن يومًا في متناول لا “إي تشانمي” ولا “أديلين”.
لذلك تخلّيت سريعًا عن فكرة كسب العيش عبر الحِرفة.
لكن… أن أكسب قوتي في هذا العالم الجديد عبر العِلم؟
لكن لا يمكن أن أعيش بهذه الطريقة!
وبينما كنتُ أفكر: ما الذي يمكن أن يجعلني أعيش حياةً رغيدة في إمبراطورية كينستيريا؟،
كان الخيار الذي استقررت عليه هو… الأعمال الحرة.
قد يبدو غريبًا أن أقفز مباشرةً إلى “العمل الحر”،
لكنه في الحقيقة أنسب ما يمكن لي.
فأنا وحدي، بما أنني أعرف كل ما نُشر في الرواية حتى الآن (حتى لو لم تكتمل بعد)، أستطيع القيام بهذا العمل!
وظيفة يمكنني أن أستفيد فيها من ماضيّ وحاضري معًا!
نعم… أن أصبح عرّافة بالتنجيم!
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"