4
الفصل 4
“هل تلك الفتاة أيضًا إحدى المرشحات لمقام القديسة؟”
“نعم، إنّها أديلين سِينير.”
في عيني الأمير إيلياس الذهبيّتين ومضة دهشة خاطفة.
صحيح أنّني كنت متخفية بملابس بالية ووجهي محجوب، لكن الكاريزما والفخامة التي وُلدت بها لا يمكن إخفاؤها.
“سموّ الأمير، لقد تأخر الوقت. يجب أن نتحرّك فورًا.”
لم يُجب إيلياس، بل اكتفى بأن استدار نحو الطريق المرسوم له.
غير أنّه، وهو يخطو مبتعدًا، التفت إلى الوراء لينظر مرة أخرى.
****
وجوه سكان الأحياء الفقيرة الذين تجمّعوا لمشاهدة المشهد كانت شاحبة كأن أرواحهم قد سُلبت، وكلها معلّقة بي.
حين التقت عيني بنظراتهم، ارتجف قلبي وعدت إلى صوابي في لحظة.
ما هكذا كنت أنوي أن تكون جلبة اليوم… لقد اندفعت وغرقت في انفعال عابر وانفجر الأمر بهذه الطريقة.
«يا لساني! ألا يمكنك أن تميّز بين ما يجب قوله وما لا يجب؟!»
خطرت لي في تلك اللحظة فكرة يائسة: لو أنّ الزمن يعود إلى الوراء، فتتحول حياتي إلى رواية “عودة بالزمن” مثل تلك التي كنت أقرأها… لكن بالطبع، لا مجال لذلك.
فاستوعبت الواقع سريعًا، وأعدت حساباتي.
ربما تكون هذه الزلّة التي خرجت من فمي هي فرصتي الذهبية.
تساؤل راودني: ما احتمال أن يتحول هذا الخطأ إلى نعمة؟
وأجبت نفسي بثقة: قد يكون مئة في المئة!
لأنّ ما اقترفته لم يكن مجرّد خطأ شخصي، بل فضيحة كبرى للكنيسة.
لقد تجرأت ونطقت بما يتعارض مع أخطر ما تفرضه الفضائل على القديسة: الطاعة العمياء للفكر الكنسي.
ولم يكن بوسع الكنيسة، التي تُعدّ وجه الإمبراطورية، أن تغضّ الطرف عن هذا العصيان.
إذ أنّ كينستيريا العظمى والكنيسة الماياريا كانوا محافظين إلى حدٍّ مبالغ فيه.
كان على وجهي ابتسامة، بينما ارتسم الغضب على وجه الكاهن.
وبما أنني أنا من يبتسم، فهذا يعني أنني المنتصرة في النهاية، أليس كذلك؟
عندها، تجرأ أعلى رتبة بين الكهنة المرافقين على الكلام بعد أن نظر إلي بوجه مصدوم:
“الآنسة أديلين، هذا التصريح خطير للغاية ومتهور.”
“حقًا؟! لقد قلت ما قلت فقط لأنني أؤمن بضرورة وجود حل جذري لمشكلة الفقر. لم أكن أعلم أن ذلك خطأ. يبدو أنني حقًا لست جديرة بلقب القديسة. أظن أن الأفضل لي هو التوقف عن كوني قديسة. أيها الكاهن، أرجوك أبلغ نائب الكاردينال بكل ما جرى اليوم، دون أن تسقط أي تفصيل.”
عند كلماتي، أطلق الكاهن أنينًا مكتومًا وحوّل نظره بعيدًا.
كان يمكن أن تُحل المسألة بمجرد استبعادي وحدي، لكن جماعة “ماياريا” كانت تضع اعتبارًا كبيرًا للمظهر والهيبة والشكليات.
وهكذا لم أتمكن من إكمال الزيارة، وسُحبت بالقوة إلى العربة.
خشوا أن أفتعل فضيحة أخرى، فقاموا بعزلي فورًا.
بعدها قضيت ساعتين كاملتين حبيسة العربة، في انتظار عودة ليونا.
“طَق!”
عندما سمعت صوت الباب يُفتح، رفعت رأسي فرأيت ليونا.
بادرتها بالنظر والترحيب بعينيّ، لكنها تظاهرَت بوضوح بعدم رؤيتي، وأعرضت عني.
وبفضلها، صار جو العربة أبرد من ريح الشمال في عز الشتاء القارس.
(ليكن ما يكون. حتى عندما أُعاملها بلطف، تقيم الدنيا ولا تقعدها).
ولأنني كنت مضطرة للابتعاد عن ليونا، لم أهتم كثيرًا وأدرت وجهي نحو النافذة.
وقبيل وصولنا إلى المعبد، قطعت ليونا صمتًا دام طويلًا…
قطعت ليونا الصمت أخيرًا وقالت:
“أديلين، ما الذي جرى لك مؤخرًا؟ هل لأنك لا تحبينني؟”
نظرت إليّ بوجه مفعم بالارتباك، وبما أنها البطلة وأنا مجرد شخصية مساعدة، غمرني شعور قوي بالذنب تحت ذلك النظر.
منذ أن تجسدت في جسدها لم أقم بأي أفعال شريرة بعد، لكن بدا وكأنني ارتكبت خطيئة عظيمة.
“لا، ليس الأمر كذلك. فقط في تلك اللحظة اندفعت وقلت ما اعتقدت أنه صواب. لكنني على كل حال لست مؤهلة كقديسة. مجرد أنني أستشيط غضبًا بسهولة يثبت ذلك.”
نظرت إليها بجدية، ولعل جديتي النادرة جعلتها تتوتر، إذ إنها لم تستطع حتى أن تطرف بعينيها وهي تحدق بي.
ابتلعت ريقي وقلت بحذر:
“لهذا السبب… ما رأيك أن تطلبي من نائب الكاردينال أن يستبعدني؟”
فجأة، تغير بريق عيني ليونا إلى نظرة باردة، وكأنها غاضبة لكنها تُخفي ذلك.
(هل رأيتُ خطأً؟ على كل حال، ألن يكون من الأفضل لها أن تُصبح قديسة سريعًا من دون وجودي؟)
فحتى رجال الكنيسة، لا بد أنهم يفضلون ليونا، ابنة الكونت وينز الوحيدة، على شخصٍ مثلي وضيعة الأصل.
أليس ذلك ما يريده الجميع؟ ربحٌ للطرفين.
إذًا لماذا تنظر إليّ بهذه النظرة المخيفة؟!
(انتظري، هل ستُطلقين أشعة ليزر من عينيك؟! تذكّري، هذه قصة رومانسية فانتازية، وليست خيالًا علميًا).
ظلت تحدق بي بامتعاض، ثم أدارت بصرها إلى الناحية الأخرى.
لكن حتى وإن كانت منزعجة، لم يكن بوسعي فعل شيء.
(للأسف، لا يوجد شيء أعزّ عليّ من حياتي أنا).
أنا أيضًا صرفت بصري عنها، وألقيت نظرة على المنظر من النافذة وأدرت بصري إلى الخارج.
في كل زاوية من الشارع كانت تقف تماثيل للإلهة “آريا”، مغطاة بالذهب والجواهر.
كان عددها من الكثرة بحيث راودني خاطر أن مجرد توزيع تلك الجواهر قد يكفي للقضاء على الفقر في أرجاء الإمبراطورية.
إلى هذا الحد كانت كنيسة “مايآريا” تباهي بقوة ساحقة داخل الإمبراطورية.
أما أنا، مجردة من كل نفوذ كوني ابنة عامّة الشعب، فقد كنت أواجههم وكأنني أخوض حربًا ضدهم.
(لقد تجسدت في هذا العالم، فهل أعجز عن خوض معركة بيض ضد صخرة؟ مستحيل، لا وجود للمستحيل).
*****
استيقظت مع أولى ساعات الفجر، وكعادتي قصدت مكتب نائب الكاردينال.
حاول الكهنة المبتدئون صدّي بحجة أن لديه ضيفًا.
(ضيف في هذا الفجر المبكر؟! إن أردتم اختلاق كذبة فاجعلوها على الأقل قابلة للتصديق. حجتكم ركيكة للغاية).
ولأنها لم تكن المرة الأولى التي يتحججون فيها بالزوار، أصررت على المضي قدمًا واقتحمت المكتب.
بصراحة، كنت واثقة أن لا ضيف لديه.
لكن، يا للمفاجأة! هذه المرة كان هناك ضيف بالفعل، فشعرت بقليل من الارتباك غير المتوقع.
ومع ذلك، لم أظهر شيئًا، بل رسمت ابتسامة مشرقة وأنا أنحني بأدب نحو نائب الكاردينال الجالس مواجهًا للباب:
“سعادتكم، صباح الخير!”
في الحقيقة، لم يهمني وجود الضيف من عدمه.
بل على العكس، انتفض عنادي في تلك اللحظة: (ليكن، دعني أضعه في مأزق أمام عيني ضيفه. إن لم يرد أن يُهان أمام الآخرين، فليقبل استقالتي).
ضغطت عليه بعيني، أرسلتهما كرسالة صامتة تنضح بالتهديد.
(ها هو ثمن مرواغتك طوال الفترة الماضية مثل سمكة الإنقليس، ها هو يعود إليك الآن).
كان نائب الكاردينال يتحدث مع رجل يرتدي عباءة سوداء. لم يكن وجهه ظاهرًا لأنه كان يدير ظهره لي، فلم أستطع سوى رؤية شعره الأحمر العميق وكتفيه العريضتين. ومن يدري؟ ففي الرواية وُجد أكثر من شخص ذي شعرٍ أحمر.
سألني نائب الكاردينال بوجه هادئ وكأنه لا شيء يحدث:
“ما الأمر، يا أديلين؟”
أجبت بخضوع وأنا أمد يدي بما معي:
“لقد جئت أحمل شيئًا بعد أن راجعت نفسي في تقصيري بالأمس.”
لكن نائب الكاردينال سبقني بالكلام وهو يبتسم:
“هذا الذي تحملينه… يبدو لي أنه الشيء نفسه الذي رفضته بالأمس، أليس كذلك؟”
قلت بحزمٍ مصطنع:
“نعم. كنتُ مقصّرة بالأمس، وأنا اليوم مقصّرة أيضًا. وأغلب الظن أنني سأظل كذلك غدًا. مثل هذه التي تعجز كل يوم لا تصلح لأن تكون قديسة. لذا، أرجو منكم أن تقبلوا استقالتي.”
لاحظت أن نائب الكاردينال ألقى نظرة سريعة على الشخص الذي أمامه، وكأنه في موقف محرج.
(غريب… يبدو شابًا من هيئته، فهل يخشى رأيه؟)
لم أفهم السبب، ولم يكن يهمني في الحقيقة.
كل ما أردته أن يتوقف عن هذه المماطلة المستمرة وأن يقبل طلبي هذه المرة، بدلًا من جرّنا لمواقف نتصادم فيها كل يوم.
لكن نائب الكاردينال، وكعادته، حافظ على هدوئه وهو يجيب:
“ما رفضته بالأمس لن أقبله اليوم أيضًا. التقصير يمكن معالجته بالتدريب والتهذيب. إن السيدة آريا، الإلهة المباركة، تملك من الصبر والسعة ما يجعلها تنتظر نضجك. على أي حال، لدينا ضيف اليوم، فلتعودي الآن. لاحقًا يمكننا أن نتحدث مجددًا عن طرق التغلب على قصورك. لكن يبدو أنك ستحتاجين إلى الكثير من التدريب، يا أديلين.”
(ثعلب ماكر هذا العجوز!).
رغم أنه يتحدث وكأنه متفهم، إلا أنه كان يتهرّب مني ببراعة، حتى أن مقابلته صارت صعبة كالتقاط نجمٍ من السماء.
حتى في المرة الأخيرة لم أتمكن من لقائه إلا بعد أن اقتحمت قاعة الصلاة عنوة. لهذا كان عليّ أن أحدد موعدًا مؤكدًا معه هذه المرة.
قلت بلهجة مثابرة:
“ومتى بالضبط؟ وأين؟ وكيف؟ أرجو أن تحددوا الأمر بوضوح، فكل مرة أشعر أننا نفترق بلا جدوى. بالطبع لا أظن أنكم تتعمدون التهرب مني، لكن حين تتكرر المصادفة كثيرًا قد يساء الظن.”
أطلق نائب الكاردينال تنهيدة قصيرة مع ابتسامة محرجة، ثم التفت إلى ضيفه الجالس أمامه.
“لنلتقِ هنا غدًا، عند الثانية ظهرًا، يا أديلين.”
ابتسمت وقد نلت ما أردت:
“نعم، سأكون بانتظاركم غدًا إذن. أعتذر لإزعاج حديثكم مع الضيف.”
ثم انحنيت بتحية مهذبة، وخرجت راضية وقد عقدت العزم:
(غدًا… لا بد أن أُنهي الأمر معه مهما حدث!).
****
بعد أن غادرت أديلين، نظر نائب الكاردينال إلى ضيفه بوجه مرتبك وقال:
“أعتذر بشدة. كل هذا تقصيري، يا سيادة الكاردينال.”
سأله الرجل ذو الشعر الأحمر والعيون الخضراء اللامعة بنبرة هادئة لكن باردة:
“هل كانت تلك… أديلين سينير؟ المرشحة النهائية للقديسة، والتي يُقال إنها بدأت تتغير؟”
أجاب نائب الكاردينال:
“نعم، هي نفسها.”
على ملامح الكاردينال الشاب، الذي جمع وسامة لافتة بين الشعر الأحمر والعينين الخضراوين، مرّ بريق فضول غامض.
ثم قال بثقة:
“سألتقي بها بنفسي غدًا.”
كان اسمه كريستيان. أصغر كاردينال في التاريخ، وأحد المرشحين الأبرز للبابوية، بفضل القوة الإلهية الهائلة التي لا تُقارن حتى بأقدم الكرادلة.
وبالإضافة إلى سلطته وقدرته، فقد امتلك أيضًا مظهرًا آسرًا يليق بمقامه.
ولهذا السبب، كان رجال الدين في الكنيسة يتمنون أن يخرج كريستيان إلى النشاطات العلنية، لكن جوابه ظل دائمًا واحدًا:
“لم يحن الوقت بعد.”
فقد انغمس في صقل قواه المقدسة داخل الكنيسة، ولم يكرّس نفسه إلا لدراسة العقيدة.
ومن الواضح أن “الوقت” الذي يقصده لم يكن سوى اللحظة التي سيجلس فيها على كرسي البابوية.
كان يخطط لأن يُفجّر كل قوته بعد أن يصبح البابا.
الجميع كان يعرف أن كريستيان لا يهتم بالآخرين، لا رجالًا ولا نساء، ولم يكن يعنيه سوى ازدهار كنيسة ماياريا.
ولذلك حين أعلن أنه يريد لقاء مرشحة للقديسة، لا قديسة معتمدة، لم يملك نائب الكاردينال العجوز إلا أن يُخفي دهشته بحنكة، ثم أومأ برأسه بهدوء.
***
مضت أكثر من ثلاثة أشهر منذ جئتُ إلى هنا، وأنا أعيش كل يوم بخوف من الموت.
لكن في تلك اللحظة، شعرت بقشعريرة من الإثارة، وكأن الغد سيجلب أخيرًا النتيجة التي طالما رغبت بها.
ولم أكن أعلم بعد أن جبالًا أشد وعورة ما زالت تنتظرني.
***
اليوم التالي.
انعكست صورتي في المرآة:
شعري الأرجواني الفاتح، عيناي البنفسجيتان الغامقتان، وثوب من طراز إمباير لاين بلون الكريما مطرّز بخيوط ذهبية، مع نصف رفعة أنيقة لشعري.
حتى أنا حين نظرتُ لنفسي، لم يسعني إلا الاعتراف: نقاء، رقة، وجمال سماوي.
كيف يمكن أن يُصدق أحد أن صاحبة هذا الوجه ارتكبت كل تلك الأفعال الشريرة في الرواية؟
حتى الآن، وأنا أرى وجهي يوميًا، ما زلت غير قادرة على تصديق ذلك.
وفجأة، تملّكني أمل ساطع بمستقبلي المشرق مع هذا الجمال…
بالطبع، شرط أن أنجح في تقديم استقالتي اليوم بسلام.
رغم أن الأمر كله لا يزال مشروطًا.
إلا أنني اليوم شعرت بشيء مختلف، إحساس جيد يملأ قلبي.
خرجتُ إلى حديقة المعبد، فرأيت تمثال الإلهة آريا، ومن وراء الأعمدة الشامخة ارتفع مبنى الفاتيكان العظيم.
لقد مرّت أكثر من ثلاثة أشهر وأنا أراه كل يوم، ومع ذلك ما زلتُ غير مصدقة أنني م
وجودة في هذا الزمان والمكان.
وفكرت: لم يتبقّ لي الكثير من الأيام للاستمتاع بهذا الجمال…
وحدقت عيناي بالدموع، لكن قلبي كان منشرحًا وسعيدًا إلى حدّ أنني شعرت وكأنني أطير.
“ياااهووو!”
التعليقات لهذا الفصل " 4"