3
الفصل 3
كان الجدول الرسمي لهذا اليوم زيارة أحياء الفقراء.
ولأنني لطالما عشت على مبدأ “القوي على الضعيف والضعيف على القوي”، فقد أقلقني أن أُلحق الضرر بالفقراء من غير قصد.
وفوق ذلك، فهذه هي المكانة المحورية التي يرى فيها أحد مرشحي البطل الذكور، ولي العهد الأول “إلياس”، البطلة “ليونا” لأول مرة.
وكما في أغلب الروايات الرومانسية، فإن مرشح البطل يقع أسير جمال البطلة الذي يفوق الحرير نعومة، ليندفع مباشرة إلى شِباكها العاطفي… تلك الكليشيهات المتوقعة.
لذلك، وقفتُ محتارة: كيف أُفشل هذا الاختبار من غير أن أُفسد خطّ المشاعر الرئيس للشخصيات؟
فلا يصح أن أُشوّه النص الأصلي.
***
انطلقتُ أنا وليونا برفقة عشرين كاهنًا من طائفة “ماياريا”، يحيط بنا فرسان مقدسون لحمايتنا، متجهين إلى الحيّ الذي يسكنه أدنى طبقات كينستيريا.
الكاهن الأعلى الذي ودّعنا ألقى خطبة مؤثرة، متحدثًا عن أن هذه ستكون “زيارة للتواضع والتأمل من موقع أدنى”، لكنني كنت أعلم الحقيقة:
هذه الزيارة ليست سوى وسيلة أخرى لاختيار القديسة الحقيقية.
***
توقفت العربة أخيرًا، وارتفع صوت طرقٍ على الباب من الخارج.
عندها التفتت ليونا إليّ بنظرة مقصودة، رغم أنني كنت أجلس في الداخل أعمق منها.
كعادتها، كانت شخصيتها لينة بلا حواف حادة، ملائمة تمامًا لبطلة الرواية.
لكن، لأنها متشرّبة بنزعة النبلاء، كلما كنا وحدنا كانت تحاول باستمرار أن تُلقي الأوامر عليّ…
***
فهمت الأن
كان طباع ليونا أن تُكثر من إصدار الأوامر للآخرين، وذلك كان عيبها الأكبر.
هذا جانب لم أكن لأكتشفه أبدًا لو لم أدخل داخل الرواية بنفسي، لذلك لم أتمالك شعور الخيبة منها.
إنه يشبه كثيرًا انكشاف الوجه الحقيقي لأحد المشاهير، حين يختلف تمامًا ما بين ما يظهر أمام الكاميرا وما يخفيه خلفها.
على أي حال، هذا الوجه الخفي لليونا، التي بدت في الكتاب كاملة لا عيب فيها، جعلني أستشعر بوضوح أنني حقًا في عالم داخل الرواية.
“همم.”
استمرت ليونا في الإشارة لي كي أنهض، ورغم أن “أديلين” صاحبة الأصل الشرير لم تكن لتتحرك في مثل هذا الموقف، فإنني أنا “لي تشانمي” الحرة لم أستطع أن أتمالك نفسي ونهضت.
“وهل هذا أمر عظيم أصلاً؟”
طرق، طرق!
ما إن طرقتُ حتى فُتح باب العربة وظهر الفارس المقدس الذي كان بانتظارنا ليرافقنا.
لكن ليونا سبقتني، أزاحتني بابتسامة مشرقة وخرجت أولًا من العربة.
كان الموقف مثيرًا للسخرية بعض الشيء، لكن لم يكن لدي رغبة في الجدال.
فأنا لست هنا لأنافسها على منصب القديسة، هدفي الوحيد أن أنسحب.
لذلك تبعتها بهدوء.
****
انفجر الحشد المحيط بنا بالهتاف والتصفيق، وأُلقيت علينا نظرات إعجاب مفعمة بالرهبة.
لقد عاملنا أهل الأحياء الفقيرة كما لو كنّا حقًا آلهة نازلة إليهم، وكأننا المخلّصون الذين سيحررونهم من آلامهم.
ليونا قابلت تلك النظرات بابتسامة تشع نورًا وكأنها كفيلة بإنقاذهم جميعًا.
أما أنا، فقد انشغلت بإخفاء ارتعاش وجهي المتشنج من الصدمة.
فما رأيته أمامي تجاوز حدود الخيال:
أحياء الفقراء، في الحقيقة، كانت مروّعة.
لم تكن ملامحهم وحدها بائسة، بل حتى نظراتهم الخالية من أي بريق أمل.
كانوا مختلفين تمامًا عن كل من التقيت بهم حتى الآن منذ أن جئت إلى هذا العالم.
عيونهم غارقة في الظل، وجوههم هزيلة، وهيئاتهم….
كانت ثيابهم رثّة بالية
الفارق بين ما قرأته في الكتاب وما رأيته الآن بأم عيني كان هائلًا إلى حد أنني بالكاد استطعت أن أواجه النظر إليهم.
لم أتخيل قط أن قاع إمبراطورية كينستيريا سيكون بهذا السوء.
الواقع في الأحياء الفقيرة كان كارثيًا بحق.
“من هنا، تفضّلوا.”
تقدّمنا بخطوات بطيئة على إرشاد الكاهن المرافق.
في الرواية الأصلية، كانت ليونا أثناء جولتها تحتضن الفقراء بدموع صادقة، وبذلك لا تكسب قلوبهم فقط، بل حتى قلوب جميع أفراد الكهنة المرافقين.
أما أديلين، فقد كانت – في القصة – تدّعي الطيبة من أجل الفوز بمكانة القديسة، لكنها بلا صدق، فلم تستطع تحريك أي قلب.
لكنني أنا… جئت فقط بعزمٍ واحد: أن أُفشل كل شيء.
وحتى مع ذلك، كان شعوري أمام هذه الفاجعة لا يُطاق.
“في مثل هذا الوضع، هل يعقل أن يخرج من أحدهم ابتسامة؟”
في لحظةٍ راودني الشك في صدق مشاعر ليونا، لكنني صرفت نظري.
ما يهمني لم يكن نواياها، بل أن أجعل الكنيسة تتخلى عني.
ثم إنني لا أستطيع أن أُفسد اللقاء المرتقب بين البطلة وأحد أبطال القصة.
هذه الرواية تقوم على خطّين أساسيين: قصة نضوج ليونا، ورجالٌ يقع كل منهم في حبّها.
****
رواية الفانتازيا الرومانسية 《شروط القديسة الكاملة》 كانت تسير هكذا:
البطلة، ليونا، تتغلّب على مضايقات الشريرة “أديلين” وتصبح أول قديسة مثالية في التاريخ.
في الوقت نفسه، كان ولي العهد والسيد الأكبر لبرج السحر يتسابقان على كسب قلبها في حبكة رومانسية نموذجية متكررة.
ومع أنها مجرد رواية تجارية مكرّرة،السبب الذي جعلني أنغمس في هذه الرواية إلى هذا الحد، هو أن الكاتبة أولت اهتمامًا بالغًا حتى لأصغر الشخصيات الجانبية.
حتى المارّين العابرين – الذين لا يظهرون سوى للحظات – كان لكل منهم قصة وخلفية، وهذا ما أسر انتباهي.
ولو أن أحدًا كتب رواية عن العالم الذي أعيش فيه، لربما كنت مجرد شخصية ثانوية لا أكثر.
شخصية ثانوية تعيش في كوريا الجنوبية، تستمد عزاءها من رؤية ثانويات إمبراطورية كينستيريا.
كان الأمر أشبه بشعور أنّ هناك من يعترف بأننا – مثل الأبطال – نعيش جاهدين ونكافح، وهذا منحني قوة للاستمرار.
ولهذا السبب، كانت الرواية مليئة بالتفاصيل “غير المهمة” المرتبطة بالشخصيات الجانبية، حتى تجاوزت ثلاثمائة فصل وما زالت بلا نهاية.
لكن لسوء حظي، وقعت في جسد الشريرة بالذات في مثل هذا العمل المليء بالشخصيات المميزة.
أديلين كانت شريرة حتى العظم.
طباعها سيئة، نواياها خبيثة، قلبها مملوء بالطمع، وشخصيتها فاسدة منذ مولدها.
ومع أنها لم تكن بعد قديسة، إلا أنّ امتلاكها لقوة النور الإلهي جعل الجميع يحسب لها ألف حساب.
النبلاء تقرّبوا منها، لا رغبةً في كسب ودها هي، بل رغبةً في إرضاء معبد “ماياريا” الذي تقف خلفه.
ومنذ طفولتها، عرفت أديلين طعم السلطة بفضل قوّتها، فرفضت تمامًا فكرة التنازل عن مكانة القديسة.
كانت تملك طموحًا لا حدّ له، وسعيًا محمومًا لاعتلاء القمة، لذلك لم تتورّع عن التنكيل ببقية المرشحات، وفي مقدّمتهن البطلة “ليونا”.
وبالنهاية، سيطرت عليها رغبتها العمياء، فتجاوزت كل الخطوط الحمراء.
حاولت قتل ليونا نفسها، فانكشفت حقيقتها، وانفضح سجلها الأسود من الجرائم والمؤامرات.
وانتهى بها المطاف على منصة الإعدام العلني، لتلقى مصيرًا شنيعًا أمام أعين الجميع.
بعد موت أديلين، تحوّلت الرواية إلى محور آخر: رحلة البحث عن فارس الأحلام بين المرشحين الذكور.
فحتى وإن كانت ليونا قد أصبحت القديسة، إلا أنها لم تستطع الزواج طوال فترة خدمتها الروحية…
لم تستطع الزواج طوال فترة كونها قديسة، ولهذا كان المرشحون الذكور يحيطون بها بإلحاح، منتظرين اليوم الذي تتخلى فيه عن مكانتها الروحية ليفوز أحدهم بقلبها.
حتى توقفت الرواية عن التحديث، كان هذا آخر ما قرأته.
***
“آآه!”
صرخة ليونا أعادتني إلى الواقع.
كانت قد تعثرت في الطريق الوعر شديد الانحدار.
حين نظرت إلى أسفل، كان مكان انطلاقنا بعيدًا جدًا، بالكاد يُرى.
لقد صعدنا مسافة لا بأس بها، ولم يبقَ سوى أن ندور حول الزاوية… وهناك، كالمعتاد في هذا النوع من القصص، سنجد المشهد المكرور حيث تتساقط الدموع.
وفعلًا… كما شاهدت في الرواية، كان هناك رجل يحتضن طفله المغشي عليه من شدّة الجوع، جالسًا في زاوية الطريق.
“انتظر قليلًا.”
تقدّمت ليونا نحوه، ثم جثت على ركبتيها لتكون في مستوى نظره مباشرة.
كان مشهدها مدهشًا: قديسة شابة في ثوب فخم، لا تكترث لِما قد يطال ثيابها من أوساخ، تنحني بصدق أمام شخص فقير… وهذا وحده كان كافيًا ليمسّ قلوب الناس من حولها.
انطلقت أصوات الدهشة والإعجاب من الحاضرين، وقد غمرتهم قناعة بأنّ ما رأوه لم يكن مجرّد تمثيل.
أما أنا، فلم أستطع كبح تلك الفكرة الساخرة التي خطرت ببالي:
“ليونا… يا لها من محظوظة. مجرد أن تنحني قليلًا أو تلطّخ فستانها، تنهال عليها الثناءات.”
وبينما كنت غارقة في هذا الشرود، وصلني صوتها وهي تسأل الرجل:
“ما الذي يحدث هنا؟ إن كان طفلك مريضًا فسأستدعي أحد الكهنة ليعالجَه.”
هزّ الرجل رأسه، وصوته متهدّج:
“ليس المرض، يا سيدتي… بل الجوع. طفلي أغمي عليه من شدّة الجوع.”
“ماذا؟!”
أدركت حينها أن ليونا لم تختبر، وربما لم تتخيّل حتى، أن يُغشى على طفل فقط لأنه لم يجد ما يأكله.
ولذلك ارتسمت على وجهها تلك الصدمة العميقة.
وقفت ليونا مذهولة وهي تمسح خدّ الطفل بيدها.
“كيف يمكن أن يحدث هذا…؟”
وفي تلك اللحظة انحدرت دموع كبيرة من عينيها، وسقطت على وجه الطفل. عندها رفع الأب رأسه بملامح يائسة وتحدث من جديد:
“إنني عاجز لدرجة أنني لم أستطع حتى أن أطعم ابني. يا سيدتي القديسة، أرجوكِ أن تُعاقبي قصوري هذا.”
ثم أخذ يضرب رأسه بالأرض وهو يلوم نفسه على ضعفه.
لكن ليونا بادرت قائلة:
“لا، هذا ليس ذنبك… إنما تقصيري أنا كقديسة. كان يجب أن أرفع المزيد من الصلوات إلى الإلهة آريا.”
فأجاب الأب وهو يزداد خجلاً:
“أبدًا… بل أنا من يجب أن يعتذر لإقلاقك، سيدتي القديسة. سامحيني على تقصيري.”
هزّت ليونا رأسها بأسى وقالت:
“ماذا تعني بالمغفرة؟! لا يجوز قول هذا. الأرجح أن السبب في هذه المأساة هو أنني لست مؤهلة بما يكفي كقديسة.”
حبست دموعها وأخرجت قلادة كانت ترتديها، ثم مدت بها إلى الرجل.
“ليست ذات قيمة كبيرة، لكن رجاءً خذها.”
كانت القلادة مرصّعة بجوهرة نادرة تكفي لشراء منزل كامل لعائلة من عامة الشعب.
فتجمّد وجه الأب وازداد شحوبًا.
“لـ… لا يمكن، سيدتي القديسة! كيف أجرؤ على قبول شيء نفيس كهذا؟ إن مجرد نعمة لقائي بك اليوم تكفيني وأكثر.”
وفي داخلي كنت أصرخ:
“خذها بسرعة! النعمة لا تُشبع البطون يا رجل. ليونا تملك الكثير من أمثال هذه الأشياء، فلتأخذها على الأقل هذه المرّة!”
لكن هذا الرجاء الواقعي جدا مني لم يحصل ..
فقد ظلّ الأب يرفض بشدّة، فيما كانت ليونا تتصنّع صرامة وهي تصرّ على إعطائه القلادة.
لم أفهم أصلًا من أجل من، أو من أجل ماذا كان هذا النزاع يجري.
وفي النهاية، بدأت ليونا تلوم نفسها من جديد، وأخذت تبكي دموعًا غزيرة بلا توقف. عندها فقط مدّ الأب يده، وكأنما يتسلّم شيئًا مقدّسًا، وقبل القلادة.
وما إن أخذها حتى بدأ هو نفسه بالبكاء، وانخرط الناس من حوله أيضًا في مسح دموعهم.
ذلك المشهد الغبي المليء بالدموع كان يثير فيّ مرارة وغضبًا.
(حقًا… يتصرّفون وكأنهم أبطال رواية! هل يظنّون أنهم سيعيشون ليومٍ واحد فقط؟!)
أن تكون حلّ القديسة، صاحبة أقوى سلطة في الإمبراطورية، مجرد قلادة؟!
أن يُكتفى بالشكر والامتنان دون أي معالجة حقيقية للمشكلة؟ يا لهم من سذج بلهاء.
غلي الدم في رأسي، ولم أدرِ إلا وأنا أرفع صوتي صارخة:
“لماذا يُحمَّل الأب هنا الذنب أصلًا؟ المسؤولية الكبرى تقع على الإمبراطورية الكينستيرية العاجزة والفاسدة، وعلى الكنيسة الماياريا التي تدمّر البلاد بفسادها!”
في الحقيقة، السبب الأول لسقوط الإمبراطورية الكينستيرية كان الكنيسة نفسها.
أما العائلة الإمبراطورية فلم تكن سوى واجهة خاوية، بينما كانت الكنيسة تتحكم من وراء الستار.
تابعت حديثي بلا تردد:
“يكفي لوم نفسك أيها الأب، اذهب واحتج عند الكهنة، عند الإمبراطور نفسه، واطلب أن يُسمح لك بفعل شيء على الأقل!”
نظر الأب إليّ بدهشة، غير قادر على استيعاب كلامي. لكنني واصلت كلامي بعناد:
“وأنتِ يا ليونا… بصفتك قديسة، لا يكفي أن تقدّمي مساعدات مؤقتة بهذا الشكل. عليك أن تضغطي على الكنيسة لتضع خططًا طويلة الأمد لرعاية هؤلاء. فهل ستُخرج الصلاة خبزًا أو لحمًا من السماء؟! كفّوا عن مصّ دماء الشعب كل مرة، وأظهري على الأقل بعض الضغط على الكنيسة. أل
يس هذا ما يجعل منك قديسة حقيقية؟!”
مع رنين صوتي الصادح والواضح، تجمّدت وجوه الكهنة من الصدمة والذهول، حتى ليونا نفسها توقّفت دموعها فجأة، وحدّقت بي بعينين متسعتين من شدّة المفاجأة.
التعليقات لهذا الفصل " 3"