2
الفصل2
أعدتُ كلماتي بوضوح وثبات، فزفر الكاهن الكبير تنهيدة طويلة، قبل أن يرمقني بنظرة امتزج فيها الضيق بالشفقة.
“ها قد صرتِ تأتين بأغرب الأعذار الآن.”
كان ينظر إليَّ وكأني زبونة مزعجة اعتاد شكاواها.
على ما يبدو، فإن أَديلين الحقيقية قبل أن أُبعث في جسدها كانت كثيرًا ما تشتكي لهذا الرجل.
في تلك اللحظة شعرت أن الأمر لن يكون سهلاً، لكنني لم أتخيل أن يكون معقدًا إلى هذا الحد.
“هل شربتِ خفيةً الخمر البارحة؟”
“ماذا؟! لا… لم أفعل.”
“إذن هل تشاجرتِ مع إحدى المرشحات الأخريات؟”
“لا، إطلاقًا.”
“فهل أساء إليك أحدٌ أو حاول إيذاءك؟”
“لا، لم يحدث شيء من هذا.”
“إذن… هل ترغبين في تبديل الكهنة المرافقين لك أو الخدم؟”
“لا، ليس الأمر كذلك.”
“إذن لا بد أن نفدت أموالك اللازمة لمصروفات المظهر والوجاهة.”
“أبدًا، المال يكفيني.”
كانت ملاحظاته كثيرة بشكل غريب، ما جعلني أدرك أن أَديلين الأصلية لم تكن تنقصها الشكاوى.
“هكذا إذن؟ إذن لا بد أنك لم تستفيقي تمامًا بعد. عودي الآن يا أَديلين.”
“لا، لا يا سيدي الكاهن، ليس الأمر كما تظن! أنا بكامل وعيي، وما قلته صادق. أنا ببساطة غير مؤهلة لأن أصبح قديسة.”
ارتسم الامتعاض واضحًا على وجهه، فزمّ شفتيه متجهّمًا:
“أَديلين، يمكنني أن أستمع لكل شكوى أو تذمر منك، أيًا كان. لكن هذه مسألة مختلفة. لقد اختارتك الحاكمة آريا بنفسها. وليس لكِ الحق في رفض اختيارها. القرار بيد الحاكمة وحدها، وليس بيدك.”
*استغفر الله
وما إن أنهى كلماته حتى حوّل نظره ببرود نحو الأوراق المكدّسة على مكتبه…
أدار نظره إلى الأوراق، في إشارة صريحة بأنه لا يرغب في متابعة الحديث.
شعرت أنّ الإصرار أكثر من ذلك لن يجلب سوى العواقب العكسية، فلم يكن أمامي سوى التراجع مؤقتًا.
عدتُ إلى غرفتي، وأمضيت اليوم بأكمله في التفكير، لكن لم أجد أي حل سوى الاستقالة.
الانسحاب الرسمي والمرتب هو الطريق الوحيد، أما الهروب ليلًا فكان خيارًا لم يخطر ببالي أصلًا.
في النهاية، لقب “مرشحة القديسة” كان بمثابة بطاقة ذهبية في الإمبراطورية، تسهّل العيش وتفتح الأبواب، فلم أرغب في التفريط به بطريقة غير لائقة.
وفوق ذلك، فإن الخطة التي وضعتها للمستقبل لا بد أن تبدأ من السوق المركزي في العاصمة، لذلك لم يكن من الحكمة أن أُعادي ذروة السلطة في الإمبراطورية: الكنيسة.
بعد تفكير طويل من كل الجوانب، لم أجد حلًّا آخر سوى أن أُظهر لهم أنني جادّة تمامًا في رغبتي بالتنحي.
أتظنون أنني سأتراجع بسهولة؟! لا، سأُريكم أنني صادقة في استقالتي.
في الرواية، كانت “ليونا” تؤكد دائمًا على قيمة الصدق والإخلاص.
وبما أنني قارئة مخلصة، قررت أن أؤمن بقوة الصدق والإخلاص أيضًا.
هكذا، صرتُ أزور الكاهن الكبير يوميًا، أقدم له استقالتي، في البداية اعتبر الأمر مجرد نزوة من نزواتي، لكن ما لبث أن بدأ يتجنبني بعدما أدرك أنني لستُ أمزح.
ومن هنا بدأت مطاردة خانقة ولعبة غميضة بيني وبين الكاهن الكبير داخل المعبد المركزي.
كان كهنة المراتب العليا في المعبد في حالة صداع دائم بسببي؛ لأن رفضي لمقعد القديسة لم يكن أمرًا يدخل عقلهم.
ففي نظرهم، من ذا الذي يرفض أن يكون “قديسة ماياريا”، الحلم الأسمى الذي يتوق إليه الجميع؟
وفوق ذلك، أي خلل في عملية اختيار القديسة قد يُعتبر لطخة على سمعتهم، ويؤثر سلبًا على فرص ترقيتهم إلى منصب “الكاهن الأعظم”.
الحقيقة أنّ كنيسة ماياريا كانت أكثر فسادًا بكثير مما ورد في النص الأصلي للرواية.
فقد كانوا يهتمون بالمظاهر الإدارية أكثر من جوهر العمل نفسه…
ربما كان من الطبيعي ألا ينظروا إلى أفعالي بعين الرضا.
فالكهنة الكبار اخذوا يتجنبونني جميعا،ومع اختفاء اي مكان يمكنني فيه تقديم استقالتي ،وجدت نفسي مجبرة على التوجه الى المكتب المسؤول عن الأعمال الادارية للمعبد
ما إن وقعت عين الكاهن الصغير على ورقة استقالتي،حتى ارتجفت عيناه كما لو ان السماء تسقط فوقه.
ثم اعادها الي بسرعة ،كأنها مرض معد يخشى ان يلتصق به
لكن بعد لحظة ،ادرك مافعل ،او ربما تذكر سمعتي المخيفة کأديلين المجنونة، فسقط على ركبتيه متوسلا:
“آه ،انسة اديلين …..ارجوكي، اغفري لي طيشي وجرأتي!”
شعرت أنه الموقف فرصة يجب استغلالها ،فحدقت به ببرود:
“سأسامحك”
فأشرق وجهه بالأمل في لحظة .
ابتسمت باقصى قدر من اللطف ،ورددت بصوت عذب :
“لكن …ان اخذت هذه الورقة “
وقبل ان انهي جملتي ،تلاشى الدم من وجهة ثانية .
لماذا يعكس مشاعره بهذه السرعة الفاضحة
قال بصوت مرتجف:
” أ..أنا آسف،لا أستطيع فعل ما يخالف ارادة الحكام.لكن، لااجرؤ كذلك على رفض طلبك .آنسة اديلين.لذا ……سأقبلها”
كان دهشتي اكبر من كلماته.ماذا؟ هو جاد ؟
وفجأة قبل أن اتمكن من منعه،خطف ورقة الاستقالة
ووضعه في فمه وابتلعها كاملة!
ثم سجد أرضا، يضرب رأسه بشدة وهو يصرخ :
” اقتليني ….هذا افضل من العيش بعد هذا !”
م-م-مهلًا، هل هذا الرجل ابتلع استقالتي كاملة هكذا؟!
هل هذا ما كان يقصده بقبولها؟!
ثم إن كان سيأكلها، ألم يكن من الأفضل أن يمزقها أولًا؟
ماذا سيفعل لاحقًا عندما يراها في المرحاض؟! … لا، لا، هذا ليس المهم الآن.
لكن لماذا هؤلاء الناس دائمًا ما يكونون بهذه الدرجة من التطرّف؟!
بقائي هنا أكثر لن يعني سوى زيادة معاناة ذلك الكاهن الصغير…
عدتُ إلى غرفتي، فقد كان عليّ أن أعيد كتابة استقالتي على أي حال.
*****
في تلك الليلة، ظل المعبد المركزي مضاءً حتى الصباح.
كان الجو هادئًا لكنه يعجّ بالحركة، غريبًا ومريبًا في آنٍ واحد.
لم يخطر ببالي حينها أنّ الاجتماع الطارئ للكهنة في منتصف الليل كان بسببي.
في اليوم التالي، قصدتُ المكتب مجددًا.
بمجرد أن دخلت، لاحظت كيف أن جميع الكهنة أسقطوا أنظارهم نحو الأوراق، متظاهرين بالانشغال بأعمالهم.
ولأنني لا أحب أن أُضايق الضعفاء، تقدمت مباشرة إلى الكاهن الذي بدا الأعلى رتبة بينهم.
“مرحبًا، أيها الكاهن.”
رفع رأسه ونظر إليّ بوجهٍ يوحي وكأنه كان يتوقع قدومي منذ البداية، ثم رد التحية:
“أهلًا بقدومكِ، الآنسة أَديلين.”
قلت له بهدوء:
“لقد جئتُ لأقدّم شيئًا إلى المعبد المركزي.”
“وماذا يكون؟”
“إنها استقالتي من الترشّح كقديسة.”
تغيّر وجهه للحظة وكأنه متردّد، ثم واجهني بنظرة ثابتة وقال:
“أعتذر، يا آنسة أَديلين. نحن لسنا سوى كهنة يتولّون الأمور الإدارية في المعبد المركزي. أما شؤون اختيار القديسة فلا تدخل ضمن صلاحياتنا. أظن أنه سيكون من الأفضل أن تبحثي عن المسؤول المختصّ.”
كانت نبرة صوته أشبه بكلام موظف استشاري محترف، حتى أنني وجدت نفسي أجيب بجدية من غير أن أشعر.
حقًا… الرتب العليا يملكون هالة مختلفة تمامًا عن الآخرين.
“ومن هو المسؤول إذن؟”
“بصراحة… هذه أول مرة نواجه أمرًا كهذا. ليست هناك لائحة أو دليل واضح، لذا لا أعلم بالضبط.”
أصابتني كلماته بالذهول، فرميت الاستقالة على الطاولة أمامه بغيظ.
لكن، في صباح اليوم التالي…
أُعيدت إليّ استقالتي مرفوضة مرة أخرى.
تنقلت بين جميع مكاتب المعبد بلا استثناء، لكنهم كانوا يكررون نفس الجملة كالببغاوات: “لسنا المسؤولين عن ذلك.”
بدا الأمر وكأن المعبد بأكمله قد اتفق على التلاعب بي، فعدت غاضبة أزمجر وأنا أجرّ قدميّ نحو المكتب الأول الذي بدأت منه.
وهناك، لم أتصرف كـ”لي تشان-مي ” الهادئة، بل كـ”أديلين” المشهورة بطبعها العاصف.
صرخت وأنا أركل ما تقع عليه قدمي من أثاث:
“أين المسؤول؟ أخرجوه حالًا!”
ارتبك الكهنة وتبادلت أعينهم القلقة، لا يعرفون ماذا يفعلون أمام غضبي.
لكن لم يكن هذا وقتًا أُظهر فيه أي شفقة.
“لقد انفجر غضبي الآن، ولا عودة للوراء!”
مجرد التفكير أنني قضيت ما يقارب العشرين يومًا أبحث عن المسؤول، وهم يرمونني من مكتب لآخر كما لو كنت كرة نار ملتهبة، جعل الدم يغلي في عروقي أكثر.
الحقيقة أن العثور على “مسؤول الموارد البشرية” في المعبد كان أصعب من الفوز باليانصيب.
ولسبب وجيه… لأنه لم يكن هناك مسؤول من الأصل.
لقد وقعتُ ضحية خداعهم.
وأخيرًا، أخرج أحد الكهنة المذعورين كتابًا سميكًا من درج مكتبه، أثخن من قاموس لغوي.
قال وهو يتصبب عرقًا:
“هذه هي مدوّنة قوانين ديانة ماياريا. إذا قرأتها، قد تجدي ما تبحثين عنه. سأعيرك إياها.”
“ومتى سأقرأ كل هذا الطوب؟” تساءلت بيني وبين نفسي.
لكنني سرعان ما أقنعت نفسي أن معرفة ما يدور أفضل من أن أظل جاهلة تحت رحمتهم.
فأخذت الكتاب بقوة وغادرت، وأنا أتمتم:
“سأمزّق أسرار ديانة ماياريا تمزيقًا… وسأبتلع كل ما فيها حرفًا بحرف!”
عدت إلى غرفتي فورًا، أشعلت عينيّ بنار التحدي، وبدأت أقرأ بسرعة جنونية.
“لقد أخطأتم في الحكم عليّ… فأنا ملكة القراءة النهمة!”
لكن ..
“حقًا…؟!
لقد أمضيت يومين كاملين بلا طعام ولا نوم حتى أنهيت قراءة مدوّنة قوانين المعبد.
ولكن شعور الإنجاز لم يدم طويلًا، إذ ما إن انتهيت حتى اجتاحتني موجة غضب أعتى من قبل.
ففي ذلك الكتاب الضخم… لم يكن هناك أي بند يتعلق بالاستقالة!
عدت إلى المكتب والقهر يغلي في صدري.
دووووم!
ألقيت المدوّنة الثقيلة على الطاولة بقوة جعلت الكهنة الموجودين ينتفضون رعبًا.
قلت بحدة وأنا أحدّق فيهم:
“بحثت في كل صفحة… ولم أجد أي شيء عن الاستقالة. لا يمكن أنكم لم تطّلعوا على هذا من قبل، إذن أنتم سخرتم مني عمداً، أليس كذلك؟”
نظر إليّ أحد الكهنة مذهولًا وقال متلعثمًا:
“ل، لقد… حقًا قرأتموها كاملة؟”
رفعت حاجبيّ بسخرية:
“وهل تظن أنني سأدّعي ذلك؟!”
صحيح أنني قد أكون “قديسة مزيّفة” هنا، لكن الكذب في مثل هذا ليس من طبعي.
مددت الاستقالة أمامه وقلت ببرود:
“ها هي استقالتي. بما أنكم قرأتم المدوّنة جيدًا، فأنا أترك الحكم بين أيديكم.”
لكنه أعاد الورقة إليّ بيد مرتجفة:
“آسف يا ليدي أديلين… لا يمكننا قبولها. عليكم العثور على المسؤول الحقيقي ليتولى الأمر.”
زفرت بقوة:
“وما الذي تظن أنني أفعله منذ البداية؟ جئت إلى هنا لأنكم الجهة المسؤولة عن إدارة شؤون المعبد.”
تردد قليلًا، ثم قال كما لو أنه وجد مهربًا:
“لِمَ لا تذهبين إلى النائب الأعلى? لربما يتمكن من حل الأمر.”
لمعت عيناي للحظة.
فالمعبد المركزي حيث أتواجد الآن هو الأكبر في العاصمة، وفيه كاردينالات رفيعو المكانة.
أما المعابد الإقليمية، فالنائب الأعلى هناك هو صاحب السلطة الكاملة.
“إن كان نائبًا أعلى هنا… ربما يكون هو من يفهم وضعي أخيرًا.”
ارتفع الأمل في قلبي كشرارة صغيرة، لكنه انطفأ سريعًا كما اشتعل.
كان نائب الكاهن الأكبر رجلاً ذا حيلة، بارعًا في المراوغة، فرفض استقالتي بمهارة. ثم، منذ اليوم التالي، صار يتجنبني هو الآخر.
وحين وصلت الأمور إلى هذا الحد، قررت أن أستخدم خطة الهجوم المزدوج:
أولاً، أستمر في تقديم الاستقالة.
ثانيًا، أُفسد كل الامتحانات عمدًا، حتى يضجروا مني ويطردوني بأنفسهم.
ففي اختبار الطب، بدل أن أعالج المريض، بدأت أصرخ بأن “قلبي يؤلمني” وأحدثت فوضى.
وفي اختبار الصلاة، غفوت بكل بساطة.
أما في اختبار القوة الإلهية، فقد قلبت عيني إلى الخلف وتظاهرت بالإغماء كي أبدو عديمة الكفاءة.
وفي الامتحان التحريري كتبت ما يحلو لي بلا معنى.
ولمّا لم أجد شيئًا أكتبه، دونت كلمات أغنية كورية شهيرة، مقطّعة شطرًا شطرًا.
لكن المفاجأة أن المصححين قالوا: “يا لها من أفكار جميلة!” ومنحوني درجة أعلى حتى من “ليونا”!
> “هاه… لم يكن هذا ما أردته إطلاقًا.”
جرّبت كل ما يمكن، لكن لم أحقق هدفي، بل كان الوقت يمضي فقط. ومع مرور الأيام صرت أكثر توترًا وقلقًا.
****
طرق! طرق!
أيقظني من شرودي صوت طرقٍ سريع على الباب.
“آنسة أديلين، يجب أن تُسرعي!”
جاء صوت الخادم الذي كان ينتظر في الخارج.
“سآتي حالًا.” أجبت باقتضاب، وأنا أُصلح ثيابي.
بالنسبة للكنيسة، ربما يكون هذا اليوم مليئًا بالمهام العاجلة و
المهمة.
لكن بالنسبة لي، كان الأمر الأهم: ما نوع الفوضى التي سأفتعلها اليوم كي أطرد أخيرًا من قائمة المرشحات للقداسة؟
> “هممم… ما الذي سأفعله هذه المرة يا ترى؟”
___________________________________________
المترجمة :شيوتا 🩵
التعليقات لهذا الفصل " 2"