الفصل 11
لم يُبعد بولايان عينيه عن المنصّة.
«أن تكون تلك التي التقيتها في السراب هي أديلين سينير… ولم أنتبه لذلك؟»
لم يكن يتوقع الأمر على الإطلاق.
فالفتاة التي تحدث معها وقتًا قصيرًا بدت مختلفة تمامًا عن الصورة التي رسمتها الشائعات عن أديلين سينير.
في ذلك الحين، كانت واثقة بنفسها، مهيبة، وذكية.
أما ما كان يُحكى عنها في مجتمع الطبقة الراقية، وعالم السحر، وحتى في السوق، فلم يكن سوى سمعة مشينة.
أديلين – بحسب الألسنة – شريرة، جشعة، أنانية، عنيفة، وتفعل كل ما يحلو لها بلا قيد.
تلك كانت الصورة التي حملها بولايان عنها.
صحيح أنه لم يكن من النوع الذي يُصغي كثيرًا للشائعات، لكن في الآونة الأخيرة، ومع اشتداد المنافسة على لقب القديسة، لم يكن هناك مكان إلا ودار فيه الحديث عن أديلين وليونا.
«الشريرة أديلين» و«القديسة ليونا».
هذا ما انتشر في كل أرجاء الإمبراطورية، بدءًا من الذين خاضوا تجربة المنافسة وخرجوا منها.
المُقصون من الترشيح كانوا يسكبون غضبهم متّهمين أديلين بأنها السبب:
فمنهم من ادعى أن ساقه تحطمت بسببها، ومنهم من ظهرت بقع على جلده، وآخرون قالوا إن دسائسها منعتهم حتى من المشاركة في الاختبارات.
وحين تضافرت شهادات المتضررين أنفسهم، بدا الأمر للكثيرين ذا مصداقية عالية.
حتى بولايان نفسه، دون أن يشعر، كان قد اقتنع بأن أديلين لا يمكن أن تكون إنسانة سوية.
لهذا لم يتخيل للحظة أن من التقاها في المقهى كانت هي نفسها أديلين.
لكن أجواء المنصة الآن… كان فيها شيء مريب.
فبحسب الشائعات، أديلين ستفعل أي شيء بلا تردد إن كان يقربها من لقب القديسة،
غير أن أديلين الواقفة أمام تمثال الحاكمة، كانت تستعمل الموقف بطريقة… مختلفة تمامًا.
كانت تُهدّد كبير الكهنة.
تصرف لا يمكن أن يصدر عن مرشحة لمقام القديسة أبدًا.
فمثل هذا السلوك لا يُتاح إلا حين تتخلى المرأة بنفسها عن لقب القديسة.
‘ما الذي قد تجنيه أديلين من تهديد كبير الكهنة؟ آه… أهذا ما قصدوه حين قالوا إنها لا تتورع عن استخدام أي وسيلة لتحقيق غايتها؟ أهي إعادة صياغة لفكرة أنها لا ترى حرجًا في أي فعل؟’
لو كان تهديدها بغرض انتزاع لقب القديسة، فهذا يعني أنها تملك جرأة وبأسًا لم يتصوره أحد من قبل.
ومع أن بولايان لم يكن قادرًا على معرفة حقيقة ما يجري بينهما، فإن فضوله تجاه أديلين كان يتزايد مع مرور الوقت.
‘من أجل ماذا تفعل أديلين هذا؟’
***
وفي الوقت ذاته، كان هناك شخص آخر يراقب من بعيد حوار أديلين مع كبير الكهنة…
كريستيان.
ارتسمت على وجهه ابتسامة مائلة، بينما بقيت عيناه باردتين كالجليد.
قال بصوت خافت:
“ما ضاع… يُسترد وحسب.”
****
وكما يليق برجل دين، فقد وفى كبير الكهنة بوعده.
في اليوم التالي مباشرة، تسلّمت قرار قبول استقالتي، فحزمت أمتعتي وغادرت المعبد.
من خلف السور، بدا المعبد هادئًا، مسالمًا، وجميلًا.
‘يا حاكمتي… أشكركِ على ما مضى. ولنلتزم من الآن ألّا تتشابك طرقنا مجددًا.’
ألقيت بهذه التحية القصيرة في داخلي، ثم استدرت.
لم يكن في قلبي أي أسف أو حزن، بل كان شعورًا بالبهجة، بالانتعاش، بالحرية، وبالراحة.
ثم رفعت قدميّ بخطى واثقة لأبدأ حياتي التي طالما حلمت بها…
… خطوتُ إلى الأمام بقوة.
«ابتداءً من اليوم… هذه هي حياتي الجديدة كـ أديلين، يومي الأول!»
***
كان من الصعب أن أجد منزلًا في الحال، لذلك وضعت أمتعتي مؤقتًا في نُزُل.
في الحقيقة، كنت قد حاولت منذ مدة البحث عن بيت، لكن جميع العقود فشلت.
فأصحاب البيوت كانوا يُصابون بالذعر لمجرد رؤية وجهي.
حتى حين عرضتُ عليهم دفع الإيجار مقدمًا وأريتهم المال، لم يثق بي أحد.
كانت نظراتهم إليّ واضحة: «لصّة… ناهبة.»
«أديلين… أي نوع من الحياة كنتِ تعيشين لتتركي وراءك هذه السمعة؟»
لم يكن لدي وقت أضيعه في اللوم. بدلًا من ذلك وضعت خطة جديدة لتغيير صورتي.
أول خطوة: أن أصنع “صديقة”.
لكن ليست أي صديقة… بل واحدة ذات نفوذ واسع ومعارف كثيرة.
وهكذا اخترتُ النزول في النُزُل الذي تديره نانسي، المشهورة بسمعتها الطيبة وثقة الناس الكبيرة بها.
كان الطابق الأول عبارة عن مطعم وحانة صغيرة، أما الطابق الثاني فمقسم إلى عدة غرف.
بعد أن أنهيتُ ترتيب أمتعتي، أسرعت إلى الطابق الأول لأتناول الطعام وأبدأ بتوثيق صلتي مع نانسي.
طلبتُ حساءً وسندويشًا بديا شهيّين للغاية.
كان الحساء دافئًا ولذيذًا، والسندويش أيضًا رائع الطعم، حتى أنني أنهيت الطبق بالكامل.
وبينما كنت أمسح فمي، خرجت من المطبخ امرأة في منتصف العمر، تحمل ملامح طيبة.
قالت مبتسمة:
“تأكلين بطريقة جميلة حقًا. هل أعجبك الطعام؟”
“نعم، لقد كان شهيًا جدًا. أرجو أن تعتنوا بي في الفترة القادمة.”
وبما أنها معروفة بقدرتها على كسب الناس بسهولة، جلست أمامي بشكل طبيعي.
“ناديني نانسي.”
“يسعدني، أنا أديلين.”
فتحت عينيها بدهشة وقالت:
“يا إلهي! اسمك مثل اسم مرشحة القديسة بالضبط!”
…قالت نانسي وهي تهز رأسها بأسى:
“لقد سمعتُ من الذين حضروا بالأمس أن قوة القداسة كانت هائلة فعلًا. ظننتُ أن سمعتها السيئة فقط هي الكبيرة، لكن يبدو أن قوتها الروحية عظيمة أيضًا.”
في الحقيقة… تلك القوة في ذلك اليوم لم تكن لي بالكامل.
كنتُ أخشى أن يُمسكني أحد من نقطة ضعفي، لذلك ظللت أشتكي باستمرار من أن قُدرتي الروحية ضعيفة.
عندها سلّمتني الطائفة سرًّا خاتمًا يحوي قوة قداسة البابا نفسه.
وهكذا لم يكن ما أظهرته من قوة سوى طاقة الخاتم، لا قوتي الخاصة.
ابتسمتُ قليلًا وقلت:
“أنا تلك أديلين التي سمعتِ عنها.”
تأملتني نانسي بدهشة، عينها تتسع شيئًا فشيئًا وهي تحدق في شعري الأرجواني الفاتح وعينيَّ البنفسجيتين الداكنتين.
فُغِر فمها على اتساعه:
“لكن… قالوا إنك كنتِ مدهشة بالأمس… فكيف… كيف تكونين هنا…؟”
ارتسم الصراع واضحًا على ملامحها.
«القديسة سيئة السمعة بنفسها هنا؟ هل سمعتْ ما قلته للتو؟ هل أغضبتُها؟»
أجبتها بابتسامة هادئة وصوت وديع:
“لقد انسحبتُ من الترشح كقديسة.”
لكن نانسي لم تبدُ مقتنعة.
بل خُيّل إليّ أنها تظن أنني طُردت من المعبد.
تنهدت وقالت:
“آه يا ابنتي، ألم يكن يكفيكِ ما فعلتِ؟ سمعتُ أن من يصل إلى المرحلة النهائية يبقى في المعبد مكرَّمًا حتى لو لم يفُز. لكنكِ… ما الذي أوصلكِ إلى هنا؟ هل افتعلتِ مشكلة أخرى؟ أم شجارًا جديدًا؟ حتى إنني سمعتُ أنكِ أثرتِ الفوضى في محل زهور وساقكِ فرسان الهيكل بالقوة. ألم يكن عليكِ أن تكوني أكثر حذرًا؟”
أجبتها بجدية:
“لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق.”
نانسي لم تُصغِ حتى إلى كلامي، بل نهضت مباشرة وذهبت إلى المطبخ.
وسرعان ما عادت وهي تحمل زجاجة خمر.
قالت:
“في الحياة، من الطبيعي أن يمر الإنسان بمثل هذه الأحداث، وتلك المواقف. لذلك لا تحبطي نفسك كثيرًا. ما زلتِ شابة.”
(ما هذا الكلام…؟ كأننا في دراما شبابية تعطي عزاءً رخيصًا!)
ولوّحت بيدي بسرعة لأُظهر أنني بخير وقلت:
“لا، الأمر ليس كذلك.”
لكن نانسي أومأت برأسها وكأنها فهمت كل شيء دون أن أشرح.
(هل كانت دائمًا شخصية لا تُصغي للآخرين هكذا؟! هذا مربك فعلًا.)
سكبت نانسي الخمر في كأسين، ثم رفعت أحدهما وقدّمته لي.
“صحيح أن المعبد لم يختاركِ، لكن من أجل مستقبل أفضل.”
ثم رفعت كأسها لتصطدم كؤوسنا.
وهكذا بقينا نشرب حتى غابت الشمس وطلع القمر.
(لم يكن هذا ما أردتُه….)
صحيح أن الأمر لم يكن كما خططت له، لكن بفضل الكحول – ذلك السلاح المفيد دومًا – تقربتُ من نانسي أسرع مما توقعت.
وبمجرد أن أصبحت علاقتي بها قوية، بدأت كل الأمور تسير بسهولة.
فبفضلها التقيتُ بوسيط عقارات موثوق، وحصلتُ على متجر وبيت بسعر أفضل مما توقعت.
نانسي تطوعت عن طيب خاطر لتكون كفيلة لي من أجل حياتي الجديدة.
فوثق بي مالك المنزل والمتجر وأبرم معي العقد بسبب ثقة نانسي.
وخلال فترة أعمال الديكور في المنزل والمتجر، أقمتُ في نُزل نانسي، وهناك ازدادت علاقتنا عمقًا أكثر فأكثر.
صحيح أنني اقتربتُ منها في البداية بدافع غايةٍ ما، لكن ثقتي بها، واعتمادي عليها، واهتمامي بها… كان كل ذلك صادقًا بالفعل.
وفي اليوم الذي انتهت فيه أعمال البناء ودخلتُ إلى منزلي الجديد…
عندما حان وقت الرحيل، بدت نانسي شديدة الأسف.
قالت لي:
“أديلين، إذا حدث أي شيء، يجب أن تخبريني فورًا.”
ابتسمتُ وأجبتها:
“طبعًا. المتجر قريب، سأزورك كثيرًا. شكرًا لكِ يا نانسي.”
وبعد وداعٍ مؤثر مع أول صديقة صنعتها هنا، توجهتُ إلى البيت الذي سأعيش فيه.
كان المنزل يبعد نحو عشرين دقيقة سيرًا على الأقدام من المتجر.
صحيح أن موقعه القريب من السوق جعله أغلى قليلًا، لكنني اعتبرته استثمارًا لا يُستهان به من أجل المستقبل.
فتحت الباب ودخلت، فإذا بديكور أبيض بسيط وهادئ يملأ المكان.
في الإمبراطورية، أعمال الديكور غالبًا ما تخص النبلاء فقط، وهؤلاء كانوا يفضلون الطابع الفخم المتكلف.
عندما شرحت في البداية أنني أريد شيئًا نظيفًا وبسيطًا، لم يفهم “توم” – المسؤول عن البناء – قصدي.
وبعد أن استوعب أخيرًا، حاول أن يثنيني بإصرار، لكنني تمسكت برأيي.
البداية كانت صعبة بيننا حتى نتفاهم، لكن بعدما اكتمل العمل، أُعجب توم بالنتيجة إعجابًا شديدًا، بل وسألني إن كان بإمكانه أن يستخدم هذا التصميم لزبائن آخرين، فسمحتُ له بسرور.
كان المنزل يتكون من غرفة نوم دافئة، وغرفة صغيرة أخرى، وغرفة معيشة صغيرة متصلة بالمطبخ، لكنني أحببته بكل تفاصيله.
مقارنةً بغرفة الاستوديو الصغيرة التي كنت أعيش فيها مع صديقة في الماضي، بدا رائعًا جدًا.
أما من حيث المساحة فهو أصغر من سكن المعبد الذي كنتُ فيه مؤخرًا، لكن كونه أول منزل أملكه وحدي في حياتي جعله غاليًا على قلبي.
حتى لو كان بالإيجار الشهري فقط.
على كل حال، بدا الأمر وكأن حياتي الحقيقية باسم “أديلين” بدأت الآن.
وبينما كنتُ أرتب أغراضي وأنا أدندن بلحنٍ خفيف، خرجت متجهة إلى المتجر.
كانت أعمال البناء في المتجر أيضًا في مرحلتها الأخيرة، ومن المقرر أن أفتتحه الأسبوع القادم.
صحيح أن سمعة “أديلين” لم تكن جيدة، لكن خلال الفترة الماضية…
لقد كانت لي سوابق في افتعال المشاكل في غير مكان، لذلك كان جو السوق معاديًا تجاهي.
لكن بفضل صداقتي مع نانسي، هدأت تلك النظرات العدائية كثيرًا.
أما المتاجر التي سبق أن تضررت مني مباشرةً، فما زالت متوجسة، لكنها رغم ذلك كانت تبيعني ما أحتاجه.
بالنظر إلى الماضي، كان هذا بداية لا بأس بها.
***
ومضى الوقت سريعًا حتى جاء اليوم السابق لافتتاح المتجر.
كان المتجر صغيرًا، لكنني بذلت جهدًا كبيرًا في كل تفاصيله — من الإضاءة إلى الأثاث والإكسسوارات — لأحافظ على جوٍّ غامض وساحر.
في منتصف الطاولة التي صممتها بنفسي، وضعت كرة كريستالية أرجوانية داكنة اللون، أغمق حتى من لون عينيّ.
كما أعددت أوراق التاروت المصنوعة يدويًا، وأعلام العرافة للتنبؤ بالحظ والبؤس، وأجراسًا وأدوات أخرى متعددة.
باختصار، صنعتُ مكانًا يمكن القول إنه جمع بين الشامانية الشرقية والغربية في عالم واحد.
‘في النهاية، كل شيء يعتمد على العُدّة والمظهر، أليس كذلك؟’
أثناء تفقدي للمتجر، كان قلبي يخفق بحماس.
***
استيقظتُ مع طلوع الفجر وجلست أمام منضدة الزينة، أحدّق في وجهي المنعكس في المرآة.
كان وجهًا يفيض بالأمل، ويبدو غارقًا في السعادة.
منزل ومتجر مسجَّلان باسمي.
إنها حياة مكتملة، لم أجرؤ حتى على الحلم بها في أيام “لي تشانمي”.
لقد كان وجهًا لم أره من قبل… وجه إنسان سعيد حقًا.
“سأعيش بسعادة حقيقية.”
لا أعلم إن كنتُ أُوجّه هذا العهد إلى “لي تشانمي” من الماضي، أم إلى “أديلين” التي اختفت روحها… لكنني عقدتُ العزم.
خرجتُ إلى الخارج.
وبخطوات خفيفة، استقبلتني لافتة مكتوب عليها “بيت المنجّمة”.
مسحتها بعناية ثم أنهيت تنظيف مدخل المتجر، وعندما رفعت رأسي إلى السماء كان الجو صافيًا على غير العادة.
الطقس جميل، والتحضيرات مكتملة، والإحساس العام مفعم بالتفاؤل.
‘أيها القدر! هذا مشروع ناشئ لشابة طموحة، أرجوك اجعله نجاحًا باهرًا وأغرقني بالثراء!’
وبعدها أخذتُ فطائر الجوز التي حضرتها خصيصًا، ووزعتها على المتاجر المجاورة كتحية افتتاح.
بعض أصحاب المتاجر — ممن تضرروا مني مباشرة في الماضي أو شهدوا شجاراتي — ما زالوا يرتجفون حين تقع أعينهم عليّ.
كانوا يرمقون الفطائر بوجه متوجس، وكأنهم يتساءلون: هل دسّت فيها سمًا؟
لكنني، بما أ
نني غارقة في سعادتي الآن، كنت قادرة على تحمّل مثل هذه النظرات دون أي انزعاج.
***
غير أنّ تلك الآمال المتقدة، وتلك الإرادة المتفجرة… سرعان ما ارتطمت بالواقع.
فقد مرّ أسبوع كامل على الافتتاح، ولم يزر المتجرَ لا زبون ولا حتى نملة ضالة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"