كانت الأنوار في الليل تتأرجح بين النور والظلام، حتى انطفأت الأنوار فجأة، وبعد فترة فُتح الباب ببطء شديد لتجنب إحداث أي ضجيج. نظر دان (رئيس القرية) يمينًا ويسارًا قلقًا من أن يراه أي أحد، ولما تأكد من عدم وجود من يراقبه، قرر أن يذهب إلى وجهته. كان يحمل في يده صندوقًا صغيرًا، كان يحمله بحرص شديد ممسكًا إيّاه بكلتا يديه، خائفًا من ضياع ما فيه. سار في الظلام وهو يتوارى بين الأشجار، غافلًا عن وجود من يراقبه بحرص. ظل يتحرك حتى وصل إلى خارج القرية.
كان ينظر إلى الأشجار بدقة بينما يسير وكأنه وضع شفرة ما لمعرفة المكان الذي سيذهب إليه، حتى وصل أخيرًا للمكان الذي يريده. كان المكان عاديًا، مجرد مكان تحيطه الأشجار، لكن الشيء غير العادي هو آثار حفرة في الأرض، يبدو أنه كان يحفر بشدة لإخفاء ذلك الصندوق. بعد أن انتهى من الحفر ووضع الصندوق داخل الحفرة، وبينما يُغلق تلك الحفرة بالرمال، كان “ألين” فوق إحدى الأشجار التي تحيط بالمكان، بينما “كاليوس” يختبئ بين الأشجار، وكذلك “ليو” و”يون” و”ناي”.
كان لدى كاليوس شفرة سرية تسمح لهم بالحديث في الحالات التي تشبه حالتهم هذه، فاستعمل ليو تلك الشفرة مخبرًا كاليوس:
“سيدي، هل نذهب للقبض عليه متلبسًا؟”
منعه يون قائلًا بجدية بنفس الشفرة:
“لا يمكن ذلك، إن أمسكنا به الآن فلن نستطيع أن نعرف إذا كان هناك متورطون معه، يجب أن نجد جميع المتواطئين في هذه الجريمة.”
قال ناي لليو:
“إنه يخفي ذلك الصندوق بجدية، حتى كون بعض العرق على وجهه. إنه حقًا يبذل قصارى جهده.”
رد ليو على كلامه، شاعرًا بالغضب من ناي الذي لا يمل من إثارة غضبه متجاهلًا الزمان والمكان:
“أتمزح الآن؟! أترَاه يمارس تمارين أو يعمل عملًا شريفًا؟ إنه مشتبه به ومتورط في عدة قضايا، وأنت تتعجب الآن من بذله قصارى جهده؟! أتعلم؟ ربما هو يبذل جهدًا أكبر منك… أوه، عن ماذا أتحدث الآن وأنا أقارنك بمجرم؟ ربما علينا القيام بهدنة ونتوقف عن الحديث مع بعضنا لفترة حتى لا نصيب بعضنا بالأمراض.”
قال لهم يون بهالة قاتلة:
“يبدو أن سيدي قد أهمل تدريبكما كثيرًا هذه الأيام، يجب أن تشعرا بالخزي. من الجيد أنه لم ينتبه لكما لشدة تركيزه على المجرم، وإلا… أنتما تعلمان ما كان سيحدث.”
أنهى حديثه وهو يحرك يده أمام رقبته بعلامة القتل، بينما يبتسم ابتسامة مخيفة جعلت كلا من ليو وناي يرتعشان، بينما أُغلق فم كل منهما إجبارًا.
انتهى دان مما يفعله بعد فترة، وغادر وهو يلتف حول نفسه خائفًا من أن يراه أحد. بعد رحيله، أمر كاليوس يون وناي أن يلحقا به ويستمرّا في مراقبته جيدًا. أعاد ليو وألين حفر الحفرة، بينما راقب كاليوس المكان ليتأكد من عدم وجود من يراقبهم. أخيرًا استطاعوا إخراج الصندوق.
كان الصندوق غريبًا، لونه ذهبي غامق قريب من لون النحاس، وعلى أطرافه لون بني. حاول ألين أن يفتح الصندوق لكن للأسف كان مغلقًا بمفتاح، لذلك كان من الصعب فتحه. بعد أن انتهى ألين من المحاولة، أعطاه لكاليوس، الذي قال:
“يبدو أنه يخفي شيئًا مهمًا، ولا يريد لأحد اكتشافه.”
أومأ ألين وقال معقبًا على كلمات كاليوس:
“أجل، ربما هو يضعه هنا في حالات الطوارئ أو في حالة تفتيش منزله، لكي لا يعرف بوجوده أحد. ماذا سنفعل به الآن؟”
تنهد كاليوس وهو يشعر ببعض الصداع يتسلل إليه لإفراطه في العمل:
“يبدو أننا سنضطر لأخذه معنا، فهو يعد دليلًا مهمًا لنا. و ليو … ابحث عن صندوق يشبهه وضعه هنا في حالة عاد ليتأكد من عدم أخذه. علينا أن نضلله قليلًا.”
أومأ له ليو ثم انطلق في طريقه، بينما قرر كاليوس وألين أن عليهم العودة إلى النزل. عاد الاثنان إلى النزل و وجدا صاحب النزل وزوجته ما زالا في انتظارهم. كانت ملامح القلق ظاهرة على وجوههم، ربما لأننا رحلنا فجأة بدون إيضاح شيء.
بعد أن طمأنهم ألين، وأخبرهم بأن يحضروا القائمة حتى يراها مجددًا، وأكمل قائلًا:
“أنا آسف لإزعاجكم، لكن هل بإمكانكم إحضار القائمة الخاصة بالطعام والشراب مجددًا؟ وأريد تلك الثمرة الغريبة التي يُصنع منها العصير لأدرسها.”
أسرعت زوجة صاحب النزل لإحضار القائمة. نظر صاحب النزل لألين بأسف قائلًا:
“للأسف لقد استهلكنا كل الثمار، ولسوء حظنا يتم استهلاك جميع الثمار في يوم الاحتفالية. لا أظن أنها السبب، فنحن نشرب عصيرها كل عام بدون ضرر.”
قال ألين بملامح جدية مع لمحة من البرودة:
“لا تستهِن بالأمر، فما تظنه عاديًا قد يؤذيك يومًا ما.”
لم يجد صاحب النزل بعدها ما يقوله معقبًا على كلامه. جاءت بعدها صاحبة النزل ومعها القائمة، ودعتنا للمبيت في النزل. وافقنا أنا وكاليوس على ذلك، فكانت رحلتنا من بداية اليوم شاقة.
كان ألين على وشك أن يراجع القائمة مجددًا قبل النوم، لكن كاليوس أخذ منه القائمة، رافضًا استمراره في العمل، قائلًا:
“يجب عليك أن ترتاح. إذا استمررت هكذا فستموت من الإرهاق يومًا ما. لذلك… هذا أمر. اذهب الآن إلى غرفتك. لن يفيد أحدًا بقاؤك مستيقظًا، ولن تركز جيدًا، فكما تعلم… التركيز هو أهم شيء في هذه الحالة.”
نظر ألين إلى كاليوس محاولًا الاعتراض، لكن كاليوس أعطاه نظرة صارمة غير قابلة للنقاش، فتنهد ألين مستسلمًا. صعد السلالم للوصول إلى الغرفة في الدور الثاني، وما إن صعد السلم حتى التفت إلى كاليوس الذي كان خلفه، قائلًا له:
“تصبح على خير، سموك.”
بادله كاليوس الكلام بابتسامة:
“وتصبح على خير أنت أيضًا، ألين.”
نام الاثنان بسرعة من شدة الإرهاق.
استيقظ ألين متأخرًا، ويبدو أن الإرهاق الشديد مع أرقه المزمن تسبب في استيقاظه المتأخر. خرج من غرفته ووجد كاليوس بالأسفل يستمع إلى ما يقوله يون. اقترب منهم بسرعة، وما إن رآه كاليوس حتى ابتسم قائلًا:
“صباح الخير، ألين.”
رد عليه ألين تحيته بسرعة، راغبًا في معرفة ما كان يخبره به يون:
“صباح الخير لك أيضًا… لماذا يون هنا؟ وماذا كان يقول؟”
سخر منه كاليوس قائلًا:
“ما إن استيقظت تبدأ بالعمل؟ اهدأ قليلًا، لقد جاء ليبلغني أن دان لم يتحرك من مكانه منذ عودته لمنزله أمس.”
تنفس ألين بهدوء، مقررًا البدء في تحليل كل المكونات. ولحسن حظه فأغلب الأطعمة يعرفها جيدًا، ولا يوجد بها أي مواد سامة. فقط تبقى أن يفحص السمك وثمرة العصير وإحدى الأكلات الأخرى.
قاطع أفكاره قول كاليوس:
“تناول إفطارك أولًا. أنت نحيف جدًا بالنسبة لفارس، عليك أن تأكل جيدًا، ثم ابدأ في العمل.”
لم يرد ألين أن يجادله هذه المرة، فأومأ موافقًا على كلامه، مما جعل كاليوس يُصدم ويرفع حاجبيه من الدهشة قائلًا بنبرة غير مصدقة:
“أنت بخير… أليس كذلك؟ لست مصابًا بالحمى؟”
نظر له ألين بغيظ، مقررًا تجاهل كلامه والذهاب لتناول الإفطار. بعد أن أنهى أخيرًا إفطاره، كان قد أحضر صاحب النزل ما طلبه بالأمس. ما إن رأى الثمرة حتى تذكرها، فهو قد قرأ عنها في أحد الكتب. تحدث ألين في نفسه مفكرًا بعمق:
(ما أتذكره أن هذه الثمرة كانت تُدعى بالأنانس. كان يصعب زرعها في مملكتنا، لأنها ثمرة تأتي من دولة أجنبية، ولا يتم بيعها إلا في الإمبراطورية.)
تساءل ألين عن سبب جلبها إلى هنا، إلا أنه قرر إرضاء تساؤلاته لاحقًا.
وبدأ بفحصها بدقة في غرفته، بعد أن أخرج كل المواد اللازمة للفحص من غرفته. وبعد فترة من فحص مكوناتها، استطاع أخيرًا أن يعرف ما يوجد بداخلها من مكونات.
خرج من غرفته مقررًا أن يفحص السمك الآن، حتى يتأكد من ظنونه. لكن، ما إن اقترب من صاحب النزل ليسأله، حتى دخل رجل ما فجأة النزل وقال بصوت عالٍ:
“لقد أحضر رئيس القرية (دان) الدواء لنا، وشُفيت إحدى الحالات التي جربت الدواء!”
صُدم ألين وكاليوس بشدة. وتأكدت ظنونهم من أن دان هو من سمّم أهل القرية.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"