بينما كان الين مشغولًا بإنهاء الأوراق التي كانت أمامه، نظر كاليوس فجأة إليه وذُهل مما رآه، فقد كان الين ينهي كل ورقة في أقل من الثانية؛ لوهلة بدا كآلة تعمل بسرعة دون توقف. فرح كاليوس برؤية تحسّن مزاجه، وقرر أن يجعله يساعد في كل الأعمال.
كان الهدوء يعمّ الغرفة، فلا يُسمع إلا حفيف الأوراق التي تُوضع على المكتب، لكن طرق الباب ودخول مساعد كاليوس قطع هذا الهدوء. كان المساعد يبدو كالأموات؛ فشحوب وجهه، والهالات السوداء تحت عينيه، وملابسه غير المرتبة أظهرت حالته المزرية، لكن الغريب كان وجهه المبتسم على نحوٍ مفاجئ، ونظراته المتلألئة نحو الين، بدا كأنه ينظر إلى منقذ حياته.
نظر له كاليوس نظرة انزعاج قائلًا:
“ماذا تريد؟ على الرغم من أنك حصلت على إجازة شهر، إلا أني أظنه إسرافًا. فاستعد للعمل جيدًا عندما تعود.”
رد المساعد بوجه يكاد يبكي:
“أجل، أجل، سأستغل إجازتي على أكمل وجه.”
بعدها عادت ملامحه إلى الجدية، مشيرًا إلى الأوراق التي معه قائلًا:
“إجازتي ستبدأ منذ الآن، لذلك أتيت حتى أُري جلالتك هذه القضية الخطيرة. في الحقيقة، رصدنا عدة حالات تسمم في إحدى القرى المتطرفة، لكن لم يتم اكتشاف سبب التسمم أو العلاج.”
تحولت تعابير كاليوس والين إلى الجدية.
قرر كاليوس الذهاب إلى هناك، وقال لالين يدعوه للذهاب معه:
“هيا أيها المساعد، عليك أن تبقى بجانبي طوال الوقت حتى أقيم قدراتك، أليس كذلك؟”
تردد الين في الذهاب وترك الينا وحدها هكذا، فطلب الذهاب لأخذ الإذن من الأميرة:
“على الرغم من أن سموك هو من أعمل لديه الآن، إلا أن ولائي للأميرة يجب أن آخذ إذنها أولًا.”
أمعن كاليوس في كلامه مفكرًا قليلًا، ثم ارتفع ثغره قليلًا مشكّلًا ابتسامة خفيفة تعبّر عن شعوره بالتسلية قائلًا:
“بالتأكيد عليك أخذ إذن الأميرة. أنت بالتأكيد لست خائفًا من المجيء معي؟ أنا أعلم أن الأميرة ستوافق على ذلك، لذلك يمكنك الذهاب.”
نظر له الين نظرة انزعاج من سخريته الواضحة قبل أن يذهب إلى الينا لإخبارها.
في غرفة الينا:
كانت الينا تقوم ببعض التمارين الخفيفة بعد أن أخرجت الخدم من الغرفة، فهي كانت تشعر بالملل لعدم وجود أي شيء مسلٍّ لتفعله. وبينما كانت تركز على تمارينها، سمعت طرقًا خفيفًا على الباب؛ كان الين يستأذن بالدخول.
بعد أن دخل إلى الغرفة ولاحظ بعض العرق على وجهها، قال مدركًا لما كانت تفعله:
“يبدو أنك قد وجدتِ ما تفعلينه في النهاية. هنالك بعض حالات التسمم في قرية بعيدة نسبيًا عن هنا.”
حاول الين ملاحظة ردّة فعلها، فرآها تنظر له بنظرة تقول: وماذا تريد أن أفعل؟
فأكمل قائلًا بحيرة:
“أفكر بالذهاب معه. قد أكون مفيدًا وأساعد الناس هناك. قد سمعتُ أنه سمّ غريب، لذلك لا بأس بإدراجه في كتبي عن السموم.”
قالت الينا ضاحكة بسخرية من كلامه:
“تقصد سمًا جديدًا لتكسب مناعة ضده؟ أو تجد علاجًا في حالة غدر شخص ما بك؟”
ثم نظرت له نظرة قلق حقيقية:
“أنا أريدك أن تأخذ حذرك، لكن عدم ثقتك في الناس خطأ. ربما هناك أشخاص جيدون. إن استمررت هكذا فستعيش طوال حياتك في قلق.”
قال الين وعينيه مظلمتان قليلًا:
“أنتِ آخر شخص يخبرني عن الثقة، وأنت تعلمين ما هو ألم أن تتعرض للخيانة. لذلك أفضل أن أقلق طوال حياتي على أن أثق بأحد.”
وضع على وجهه ابتسامة مجبرة على الظهور، وقال وهو يرحل دون أن ينظر إلى وجهها:
“يكفيني أن أثق بكِ أنتِ فقط، لذلك اعتني بنفسك. ربما أعود بعد عدة أيام… إلى اللقاء.”
تنهدت الينا وهي تنظر بعيون مشتعلة إلى الباب المغلق تتمنى الانتقام لمن كان السبب في فقدان ثقته بالناس.
بعد أن جهّز الين ما يحتاجه للرحلة:
سأل الخادمة عن مكان كاليوس الآن، فأخبرته أنه في ساحة التدريب، وأشارت بيديها للمكان.
قال الين في نفسه:
(لو تسللت إلى المكان دون أن يراني أحد، أستطيع رؤية كيف يتدرب الفرسان. سيكون من المفيد معرفة أساليب تدريباتهم.)
أومأ الين لنفسه مقتنعًا بفكرته العبقرية، فقد كان بارعًا في إخفاء أثره والحركة دون ملاحظة أحد.
بعد أن كان قريبًا من ساحة التدريب، كانت هناك العديد من الأشجار الطويلة، وعلى الرغم من أن أوراقها غير كثيفة، إلا أنها تستطيع إخفاء الأشخاص داخلها. فصعد لمنتصف الشجرة، ثم تنقّل بسرعة من شجرة لأخرى دون أن يراه أحد، حتى وصل إلى أقرب شجرة يستطيع منها رؤيتهم.
كانت ساحة التدريب واسعة جدًا، لا يوجد بها أسلحة، ومن سوء حظه أن لا أحد يتدرب، بل كلهم يقفون لسماع أوامر كاليوس. كانت تعابير كاليوس جدية، ولكني لم أستطع أن أعرف ماذا يقول. وبينما أحدق فقط، رأيت كاليوس يلقي نظرات على المكان، ثم نظر إلى الشجرة التي كنت عليها. نظرته الثاقبة أربكتني، لكن ليس بدرجة كبيرة، ورأيت بضعة أوراق سقطت بسبب ارتباكي.
وفجأة رأيت خنجرًا موجّهًا أمام وجهي. لحسن الحظ تفاديته بسبب ردّة فعل جسدي العكسية، وإلا كنت قد متّ على الفور.
فنظرت للمكان الذي جاء منه الخنجر… يبدو أن كاليوس لاحظني وظنني متسللًا.
(حسنًا، أنا متسلل فعلًا… لكنني لن أؤذيهم.)
رأيته يأمر الفرسان بإحضاري.
قررت كشف نفسي والنزول، فلا مكان للهروب. لذلك نزلت من الشجرة متضايقًا لاكتشافه أمري، ونظرت إليه.
تحوّلت تعابيره الجدية لصدمة خفيفة، ثم سرعان ما قال بجدية نادرًا ما يظهرها أمامي:
“إذا كنت تريد المشاهدة، فتعال من الباب الأمامي، لا تتسلل كاللصوص.”
وعلى الرغم من ضيقي لوصفه لي باللص، أومأت برأسي موافقة.
فأكمل قائلًا:
“بما أنك هنا، سأعرّفك على الفرسان الذين سيرافقوننا في الرحلة. أنت ستذهب، أليس كذلك؟”
قال سؤاله الأخير بابتسامة ساطعة لاستفزازي.
(لا أنكر رغبتي في قتله الآن، إلا أني تمالكت أعصابي بصعوبة.)
استدعى نائبه وثلاثة فرسان. رأيت أشكالهم في الرحلة، لكني لم أتعرف عليهم حقًا.
قال كاليوس مشيرًا إلى كل واحد منهم:
“يمكنك تذكرهم هكذا:
صاحب الشعر الأحمر الغامق هو نائبي ليام.
أما الثلاثة الآخرون فهم أمهر الفرسان المتدرّبين حتى الآن.
ذو الشعر الأخضر هو ناي، لا تتكلم معه أبدًا.
أما ذو الشعر الأسود هو ليو، لا تحتك به أيضًا.
أما ذو الشعر البني الفاتح هو يون، يمكنك الحديث معه.”
وعلى الرغم من شعور ناي وليو بالظلم، إلا أنهم لا يستطيعون الاحتجاج؛ فإن احتجّوا سيرِيهم كاليوس المعنى الحرفي لجملة “وجهه كالأموات”.
في قصر سيون، تحديدًا المطبخ الرئيسي:
كانت العديد من الخادمات يجهزن طعام العشاء بينما يتكلمون في العديد من المواضيع الرائجة هذه الأيام. فكان حديثهم عن الملابس الجميلة، وأحدث صيحات الموضة التي ظهرت حديثًا. فكان حديثهم كالتالي:
قالت ميا:
“أرأيتِ السيدة تاليا اليوم؟ فستانها كان جميلًا جدًا، أشعرني كأنها قاربت أن تمسك بالنجوم.”
قاطعتها تيا:
“لا، بل كانت السيدة كلوديا الأجمل. كانت إطلالتها المبهرة، وفستانها الذي يلمع تناسبًا مع وجهها، كأنه يقول: لقد سرقتُ ضوء الشمس. لقد أشعرني بالدفء والراحة، لذلك هو الأفضل.”
قاطعتهم ليندا وهي تقول بابتسامة على وجهها تحاول استدراجهم في الحديث:
“لكن أي النساء الأجمل على الإطلاق في المملكة؟”
فكرت تيا قليلًا، بينما تحاول ميا أن تقرّر الأجمل حقًا.
لكن ليندا لم تمنحهم فرصة التفكير بعمق، فقالت:
“ماذا عن الأميرة الرابعة؟ لقد رأيتُ شعرها الأحمر الجميل في أول يوم عملت فيه هنا. أليست الأجمل؟”
نظر كل من تيا وميا لها بتعجب، مصححين لها فهمها الخاطئ، بل كاشفين لها ما أرادت أن تعرفه حقًا:
“لا، الأميرة الرابعة شعرها ليس أحمر. ربما أنت تقصدين رئيسة الخدم، فهي ووالدتها الوحيدتان ذوات الشعر الأحمر المبهِر هنا.”
قالت تيا بابتسامة جاهلة:
“أجل، صحيح. لقد أتيتِ فقط قبل شهر واحد، لذلك بالتأكيد لن تعرفي أنها رئيسة الخدم. يا له من شيء مؤسف أنني لم أرها مؤخرًا.”
قالت ميا تشارك في الحديث:
“ربما هي حزينة على فراق الأميرة الرابعة، فهما أعز أصدقاء.”
أومات لهم ليندا سعيدة بإتمام مهمتها، راغبة في الركض بسرعة لإخبار سيدها كاليوس بالأمر.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"