نظر الين إلى باب غرفة الينا المقفل، وتذكر تعابير وجهها الحزينة في العربة.
كان وجه الينا بارداً كالثلج، وكان عدم تركيزها واضحاً بشدة.
شكر الين في نفسه تفهّم الملكة، فقد كان بإمكانها أن تسأل عمّا يجري أو تجبرهم على توضيح ما حدث، لكنها تكتمت على الأمر ولم ترد أن تكون متطفلة، وهذا كان احتراماً كبيراً لهما.
في العربة، كان الين ينظر إلى الينا كل فترة ليتأكد من أنها بخير، إلا أنها ظلت صامتة، وعلى الرغم من أنها كانت تنظر إلى النافذة، إلا أنه بدا كأنها تنظر إلى الفراغ.
وبعد عودتهما، دخلت غرفتها وأقفلت الباب على نفسها، ولم يُرِد الين أن يدخل حتى لا يقتحم خصوصيتها، فهو يدرك كم هو مؤلم فقدان شخص عزيز.
في داخل الغرفة:
كانت الأميرة تبكي بشدة، ربما لأنها افتقدته هذه المرة كثيراً، أو ربما لأن اشتياقها المتزايد وتحطم قلبها إلى قطع جعل حزنها أشد ألماً ووحدة.
وبعد أن أفرغت دموعها، تذكرت فجأة ما نسيته… الين أيضاً يفتقده، بل لا بد أنه حزين من داخله.
شعرت بشعور ينذر بالسوء وكرهت نفسها لفقدانها عقلها ونسيانها للأمر.
فعلى الرغم من حزنها الشديد، إلا أنها كانت قادرة على البكاء وتفريغ ما في داخلها، لكن الين لم يذرف دمعة منذ وفاته، بل كتم مشاعره تماماً لدرجة أنه لم يشعر حتى بأنه حزين.
كانت دائماً خائفة من انفجار مشاعره يوماً ما، فهو يكتم كل شيء داخله — الحزن والفرح معاً.
حاولت الينا كثيراً أن تبتسم، لتظهر وكأن شيئاً لم يحدث، رغم قلقها من اكتشاف الملكة أو الملك لأي أمر، إلا أن قلقها الأكبر كان على الين نفسه.
يجب أن تحاول تمثيل النسيان حتى لا يعود الين إلى التفكير في الماضي.
نظرت طويلاً إلى المرآة، وعلى الرغم من محاولاتها الكثيرة، فشلت في أن تبتسم حقاً، فكانت ابتسامتها باهتة، كمن أُكره على الابتسام.
لذلك لم تجد حلاً سوى تخطي العشاء والنوم لنسيان الألم.
وأقنعت نفسها بأنه في الصباح سيكون وجهها أكثر إشراقاً، وستنسى ما حدث بالتأكيد.
في غرفة الطعام:
كانت الملكة والملك وكاليوس والين يتناولون العشاء في صمتٍ تام.
شعر كاليوس فجأة بالغرابة، فالأميرة لم تحضر، والين بدا غارقاً في التفكير، يحرك طعامه دون أن يأكل.
تضايق كاليوس كثيراً وقال في نفسه:
(أنا ليس لدي وقت للمبارزة، بل ولا حتى وقت للتفكير، وهو لديه وقت للاكتئاب؟ ربما عليّ أن أجعله يعمل ليلاً ونهاراً حتى لا يجد وقتاً للهو!)
قال متحدثاً بصوت عالٍ لوالده حتى لا يمنح الين فرصة للاعتراض:
“أبي، لقد عرض الين مساعدتي في أعمالي، لذلك أرجو أن تسمح له بالعمل معي بدلاً من مساعدي.”
نظر له الين بشدة وهو يحاول فهم نيّته من هذا الطلب، لكنه قرر عدم الاعتراض.
فهو لم يكن معتاداً على هذا الفراغ، وكانت فرصة ذهبية له للتخلص من الملل خلال هذه الأشهر الثقيلة القادمة.
قاطع أفكار الين صوت الملك الحاد موجهاً كلامه لابنه:
“أنت لا تجرّ الين معك في العمل لأنك تجد صعوبة في الأعمال الإدارية هذه، أليس كذلك؟”
نفى الين برأسه مسرعاً بالكلام قائلاً:
“لا، سموك، لقد وافقت على العمل معه بإرادتي، فأرجو أن توافق على ذلك.
على الرغم من قلة معرفتي، إلا أنني إنسان مجتهد، وسترى عملاً يسرك بالتأكيد.”
رأى الملك عيون الين الجادة فتنهد بقلة حيلة، موافقاً على عمله مع كاليوس.
ألقى الملك نظرة خاطفة على وجه الين وقال في نفسه:
(عيونه الجادة وموقفه الحازم يعيدان إليّ ذكريات شبابي الرائعة، أتمنى حقاً أن يكون صديقاً لابني الوحيد، فعلى الأقل وجدت شخصاً يمكنه تحمل طباعه بهذه الطريقة.)
بعد العشاء:
كان كاليوس يخبر الين بالتعليمات التي يجب أن يتبعها في العمل معه، لكن فضوله تغلب عليه ليعرف سبب ذلك الجو الغامض أثناء العشاء.
قال وهو يراقبه:
“لماذا كنت مكتئباً هكذا في غرفة الطعام؟ ولم تحضر الأميرة أيضاً… هل تشاجرتما؟”
تجعد حاجبا الين باستغراب، ونظر له بنظرة باردة قائلاً:
“كيف عرفت أنني كنت متضايقاً؟ هل ظهرت مشاعري على وجهي؟”
قال كاليوس وهو ينظر إليه بتركيز:
“لا، لم تظهر مشاعرك. أنت أغرب شخص قابلته على الإطلاق، لا تظهر تعابيرك أبداً.
إذا ابتسمت، تكون ابتسامتك مصطنعة أو مجاملة.
لم أرك تبتسم ابتسامة حقيقية من قبل… أحياناً أشعر أنك تشبهني، وأتمنى أن نكون على وفاق هكذا.”
قال جملته الأخيرة وهو يبتسم ابتسامة صادقة وحقيقية.
ذُهل الين وهو ينظر إليه، فضحك كاليوس وهو يربت على رأسه، ثم غادر إلى غرفته.
ظل الين في مكانه، واضعاً يده على رأسه، بينما ينظر إلى الممر الذي غادر منه كاليوس بشرود.
في صباح يومٍ جديد:
استيقظت الينا، وعيناها تؤلمانها بشدة بينما تنظر إلى حالتها المزرية في المرآة، وتحاول الابتسام حتى تعود إلى حياتها الطبيعية.
أما الين، فقد استيقظ منذ الفجر، وقد أصبحت تلك عادةً لديه منذ صغره.
أخذ يستعد للذهاب إلى العمل، مرتدياً أحد الأزياء الرسمية التي اشترتها الملكة من السوق.
ذهب باتجاه مكتب كاليوس، عاقداً العزم على إثبات مهاراته جيداً، والاستفادة من خبرة كاليوس أيضاً حتى يتمكن من إفادة مملكته يوماً ما.
وما إن طرق الباب وسُمح له بالدخول، حتى رأى كومتين من الأوراق أمام كاليوس، ومن شدة ارتفاعهما لم يستطع رؤية وجهه!
سُعد كاليوس بمجيء الين، وأشار إلى مكتبٍ مجاور قائلاً:
“هذا هو مكتبك الآن، سعيد بالعمل معك، يا الين.”
قال الين رداً عليه:
“وأنا أيضاً سعيد بالعمل معك، صاحب السمو.”
وما إن جلس الين على مكتبه حتى وجد آلاف الأوراق تُوضع أمامه لينجزها خلال اليوم.
في القصر الإمبراطوري:
كان الجو مشمساً بشدة، وفجأة ظهر ظل حمامة تطير في السماء.
كانت تعرف وجهتها بدقة، وتحمل في قدمها رسالة من جواسيس المكان المظلم في مدينة سيون.
حلّقت الحمامة حتى وجدت من تُسلّم إليه الرسالة، فهبطت ببطء لتقف على يده.
نزع منها الرسالة… وكان هو رئيس الوزراء الإمبراطوري (والد إيلا).
قرأ الرسالة وابتسم بشدة، ثم أمر أتباعه بتأخير وصول الخبر إلى الإمبراطور قائلاً في نفسه:
(إن لم أُسبب المشاكل والنزاعات لخطيب ابنتي، فكيف سأجد المتعة في هذه الحياة؟
يالها من مأساة أن أغلب من كان يعارضني قد اختفوا… لقد أصبحت أشعر بالملل كثيراً.)
كانت ابتسامته الغريبة تبعث على الرعب في نفوس كل من رآه في تلك اللحظة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"