ظاهرةٌ لم يرَ جيليان مثلها في حياته: شخصٌ يتصرّف كأنّه شخصٌ آخر تمامًا.
“التجربة.”
وضع جيليان جانبًا تقارير المملكة التي جمعها ليهارْت، وغرق في التفكير.
مضحك، لكن منذ سماع تلك الكلمة ظهرًا، لم يستطع التركيز على أيّ شيء.
ليست الصدمة من تجربةٍ على البشر.
اللحظة التي تغيّرت فيها هي المشكلة.
تغيّرت بيانكا أمام عينيه مباشرة.
دون أيّ إشارة.
جيليان يثق في موضوعيّته.
لا مانا في العالم تستطيع التحرّك دون أن يلاحظها.
يستطيع الآن تمييز كلّ خيطٍ من المانا يطفو في المختبر.
فكيف يمكن خداع حواسه وتغيير شخصٍ ما؟
أن تُمسك مساعدته ولا يعرف من فعل ماذا أمامه؟
كبرياؤه المُهان، قلعته التي لم تُهزّ يومًا، تهتزّ بعنف.
هذا مستحيل.
بدأ جيليان بأعينٍ زرقاءٍ لامعةٍ في تقليب الكتب الممنوعة.
عن التجارب على البشر، التي منعها تمامًا بعد أن أصبح سيد البرج.
قلّبت الصفحات المكتظّة بالمعادلات بصوتٍ يرفرف.
قرأ جيليان دون توقّف.
في الحقيقة، كلّ كتابٍ في البرج محفوظٌ في ذهنه منذ زمن، فلا حاجة لفتحه.
حتّى الكتب الممنوعة.
لكنّه يعيد القراءة لسببٍ واحد فقط:
اكتشف أنّ ذاكرته فيها خلل.
عندما فكّر في بيانكا سوليك ، أدرك أنّه فاتته ذكرى.
غير كاملة، ومحاولة استرجاعها وحدها تسبّبت في تأثيرٍ هائل، فاكتفى الآن بتدوين ذكريات ذلك اليوم.
سيحفرها لاحقًا بتحضيرٍ كامل، لكن حتّى ذلك الحين، فهو لا يثق بذاكرته المبعثرة.
“…”
تنهّد جيليان بخفّة وهو يقلّب الكتاب.
لحسن الحظّ، ذاكرته عن الكتب سليمة.
محتوى التجارب على البشر كما يتذكّره.
لا شيء عن تبديل الأرواح أو الشخصيّات.
في الواقع، التجارب على البشر تركّز على الجسد: تقوية الجسم، نقل المانا.
لم يفعلوا أمورًا مرعبة كإرفاق مجسّاتٍ كالكيميرا¹، لكن السحرة كانوا يدركون حدود الجسم البشريّ بوضوح.
*الكيميرا أو كما تُعرف أيضًا بالخَيْمَر (باللغة اليونانية: Χίμαιρα, Ch?maira) هي مخلوق مذكور في الأساطير اليونانية. يتميز برأس أسد وجسد خروف وذيل يشبه الأفعى. تُستخدم كلمة ‘كمير’ للإشارة إلى هذا المخلوق أو للدلالة على الأوهام والسرابات أو الأحلام التي يصعب تحقيقها.*
اهتمامهم الوحيد: هو تجاوز حدود البشر.
مثلاً: إضافة مرونةٍ وعضلاتٍ للساقين ليجري الإنسان كالحصان.
المحاولة بحدّ ذاتها جيّدة.
في روزماركس، لا ينقص المتطوّعون غير الأسوياء، والأهداف كانت سليمة جدًا.
لكن النتائج لم تكن كذلك.
جسم الإنسان للا يعمل كمعادلات السحرة.
لا كلّ شيء يقع بدقّةٍ كالمسطرة.
حتّى لو بدت الساقان متساويتين في الطول والتناسق، عند تطبيق نفس التعويذة، تنمو الساق اليسرى أكثر من اليمنى.
لا تتساوى القوّة، والتحكّم صعب، فبعضهم يقفز ثلاثة طوابق بمجرد المشي، وبعضهم يكسر أرضية الرخام بخطوة.
دون تطوير تعويذةٍ دقيقة لكلّ فرد، لا يمكن تعميم تعديل الجسم.
والآثار الجانبيّة واضحة.
بالطبع، استخدموا السحر لتثبيت الدورة الحيويّة ومنع الآثار الشديدة، لكن التجارب شملت الجسم كلّه، فحدثت مشاكل كبيرة وصغيرة.
تقوية الأطراف كانت أفضل حالاً.
لكن السبب في حظر التجارب على البشر كان جانب المانا.
المانا التي تحدّد حدود السحرة هي شيءٌ فطريٌّ يُولدون به، ولا يمكن تطويره بأيّ جهدٍ مكتسب.
كان هذا مستحيلاً بأيّ طريقة.
لذا فكّر السحرة:
إذا لم نستطع زيادة كمّية المانا، فماذا لو استبدلنا القلب الوعاء الذي يحمل المانا للفرد بوعاءٍ أكبر؟
في لحظة تحويل الفكرة، تبخّرت كلّ القيود التي كانت تُسيطر عليهم.
وعاء مانا هائل.
أكبر حاملٍ للمانا موجود حاليًّا.
كان ذلك جيليان بالذات.
أرادوا تكرار قلب جيليان.
“…”
عبس جيليان بعنف، ومرّر يده ببطءٍ على شعره.
طالت أفكاره، فتذكّر ذكرياتٍ لا داعي لها.
نظر جيليان إلى صدره الأيسر للحظة، ثم رتّب الكتاب.
قصّةٌ انتهت، ومع ذلك لا يزال يشعر بالضيق، فيتأكّد أنّ حظر التجارب على البشر كان صوابًا.
إذن، يعود السؤال:
ما الذي لمس بيانكا؟
ومن الذي دبّر ذلك؟
جالت عيناه الزرقاوان على خيوط المانا الطافية في الهواء، ثم هبطت.
* * *
“تصرّفتَ لوحدك؟”
انكمش إيليو قليلاً عند سؤال ربّ العائلة.
“لماذا فعلتَ ذلك؟ لو تركتها، لكانت اختفت لوحدها.”
“…”
توقّف إيليو عن التنفّس للحظة عند كلام كيريان الهادئ الذي يحكم بنهاية بيانكا.
“لا تزال هناك مهلةٌ من اجتماع العائلة. سنةٌ أطول ممّا تظنّ. مهما فعلت تلك الفتاة، ليس لدى السيد جيليان رفاهية الاستمتاع بها لسنة.”
هو من النوع يملّ بسرعة.
كان كيريان يتحدّث بلطفٍ دائمًا كمن يهدّئ طفلاً عنيدًا.
“حتّى لو استمرّ الأمر بعد سنة، يمكننا حينها تقديم عرضٍ آخر.”
لم يردّ إيليو، فقط استعاد أنفاسه بهدوء.
ماذا يقول؟
منذ متى؟
في الطفولة لم يكن كذلك، لكن في لحظةٍ ما، بدأ كيريان يتصرّف كمن يعاني للتخلّص من بيانكا.
التغيير تدريجيٌّ جدًّا على مدى زمنٍ طويل، فلم يستغربه أحد وهذا أمرٌ مذهل.
حتّى إيليو لاحظه مؤخّرًا فقط.
“إيليو.”
“نعم.”
“انتظر قليلاً.”
ماذا؟
رفع إيليو رأسه، وتقابلت عيناه مع كيريان.
الجالس أمامه هو كيريان الذي يعرفه جيّدًا، والده بالتأكيد.
وجهٌ حادٌّ ونحيف.
لكن ملامحه متناغمة، فتبدو حساسةً وحادّة، لكنّها تحمل طابع العالم.
“كلّ شيء سأقوم به أنا. إيليو، أنت فقط ابقَ ساكنًا. مفهوم؟”
مدّ يده، وضغط على يد إيليو كتشجيع.
في اللحظة التي تلامست فيها الأيدي وانتقلت الدفء، شعر إيليو بدوخةٍ مفاجئة، فأغمض عينيه بقوّة.
وعندما فتحهما مجدّدًا، تذكّر إيليو ما عليه فعله.
“كيف تسير التجارب هذه الأيام؟”
“لا تقلق، إنها تسير بسلاسة.”
“مع وجودك، ما الذي يقلقني؟”
“صحيح. لذا، لا تُبرز نفسك، فقط ابقَ ساكنًا.”
“نعم، أبي.”
“الآن، ارجع إلى مكتبك. لا داعي للدخول والخروج من المنزل فيُشاع عنك.”
“نعم، سأفعل.”
ابتسم إيليو بعينين أوسع من ذي قبل.
الكيميرا أو كما تُعرف أيضًا بالخَيْمَر (باللغة اليونانية: Χίμαιρα, Ch?maira) هي مخلوق مذكور في الأساطير اليونانية. يتميز برأس أسد وجسد خروف وذيل يشبه الأفعى. تُستخدم كلمة ‘كمير’ للإشارة إلى هذا المخلوق أو للدلالة على الأوهام والسرابات أو الأحلام التي يصعب تحقيقها
التعليقات لهذا الفصل " 34"