الفصل 28
قبل أربع ساعات.
خرج جيليان من مكتبه استجابةً لاتصال ليهارت الملحّ المُتسارع.
لحسن الحظ، كانت بيانكا غارقةً في الأوراق إلى درجة أنها لم تلحظ خروجه.
نعم، لحسن الحظ.
لوى جيليان شفتيه وهو يرى لهيبًا هائلًا يبتلع روزماركس بكاملها.
“ما هذا؟”
“إنها تعويذة خماسية الطبقات.”
لم يكن يسأل لأنه لا يعلم، لكن ليهارت ردّ بأمانة بما يعرفه فقط.
ولم يكن لديه أي خيط يمسكه أصلاً.
منذ أن أعلنت روزماركس نفسها مملكة، تعرضت لشتى أنواع الضغوط والتضييق.
كانت الاغتيالات والتهديدات بالقتل ضد القيادة أمرًا يوميًا، ومحاولات الحرق أو تسميم مصادر المياه تكررت مرات عديدة.
لكن عدد الذين يعرفون هذه الحقيقة في روزماركس كان قليلاً جدًا.
لأن جيليان هو من أراد ذلك.
السحرة، بطبيعتهم، أناس حسّاسون.
المانا قوة دقيقة، قد يؤدي أدنى خطأ إلى انفجار.
وبما أن السحرة يتعاملون مع هذه القوة ليحققوا النتائج المرجوة، فلا مفر من أن يصبحوا حسّاسين.
بل إن من لا يتمتع بالحساسية أصلاً لا يستطيع الشعور بالمانا.
لذا فإن السحرة، سواء بالفطرة أو بالاكتساب، لا بد أن يكونوا دقيقين.
فإذا عُلم هؤلاء أنهم مُستهدفون، فكم منهم سيتمكن من إجراء تجاربه بسلام؟
في الحقيقة، التجارب نفسها لا تهم كثيرًا.
تلك التجارب الهادئة التي يقومون بها ليست سوى شيء يتكاسل جيليان عن فعله بنفسه، لا لأنه لا يستطيع.
لكن المشكلة تكمن في الفوضى.
كان جيليان يريد أن تكون مملكته أكثر كمالًا من أي شيء آخر.
ومن هذا المنطلق، لا يليق بالمملكة الفوضى والفتن.
لذا صدر أمر جيليان بالصمت.
لكن…
“إذا كانت خماسية الطبقات، فهذا يعني أن هناك متعاونًا من الداخل.”
“سأحقق في الأمر.”
ابتسم جيليان ابتسامة خفيفة لكلام ليهارت.
“يبدو أنك غبت عن منصبك طويلًا.”
لا يعرف شيئًا على الإطلاق.
كانت الكلمات المنخفضة التالية قاسية كصفعة على الخد.
من الطبيعي أن ينخفض رأس ليهارت إلى الأرض، وأن يُطبق إينيكيل شفتيه بقوة.
نظر جيليان إليهما بملل، ثم هزّ يده كأنه متعب.
“نظّفوا هذا الخراب أولاً.”
“سيد جيليان.”
ناداه ليهارت –الذي كان يراهن بحياته على أوامر جيليان عادةً– بتردد طفيف.
لم يجب جيليان، بل حدّق في ليهارت بعينيه الزرقاوين الثاقبتين.
“… التعويذة الخماسية ليست في نطاق ما أستطيع تفكيكه.”
“ها.”
احمرّ وجه ليهارْت المُعلن عن عجزه خجلاً حتى أذنيه.
أما إينيكيل، الذي لم يُمنح فرصة حتى، فلا داعي للحديث عنه.
ليهارْت و إينيكيل هما تابعا جيليان.
كان جيليان يختار من حوله بناءً على الكفاءة فقط، وبصرامة.
كان من الطبيعي أن يكون كذلك، إذ كان معجبوه كُثرًا.
هو الذي تجاوز حدود البشر، فكيف له أن يتواصل مع الآخرين بشكل طبيعي؟
كان الناس يقدّسونه ويخشونه في آن واحد، ويعتبرون ذلك أمرًا مفروغًا منه.
في مثل هذه الظروف، ما الذي تبقّى لجيليان ليسمح به سوى اختيار صارم يعتمد على الكفاءة فقط؟
واللذان تم اختيارهما بهذه الطريقة هما ليهارت وإينيكيل بالضبط.
من بينهما، كان ليهارت منذ زمن معجبًا بقدرات جيليان، وكان يتوق إلى أن يصبح “تابعًا” له.
كان ينفّذ أي أمر من جيليان.
حتى عندما أُمر بـ احتلال مملكة، قبل الأمر بهدوء.
فالكلمة وحدها معتدلة، لكن لا حاكمًا عاقلًا سيوافق على تسليم بلده سليمة، مما يعني أن تسعة من عشرة ستتحول إلى مذابح دامية.
ورغم ذلك، كان ليهارْت يعقد العزم قائلاً: “سأبحث جيدًا عن مكان يرضيك.”
لكن من فمه الآن خرجت كلمة “لا أستطيع”.
وهذا يعني أن الأمر مستحيل حتى لو راهن بحياته.
نظر جيليان إلى ليهارت الذي احمرّ حتى عنقه، ثم رفع يده ببطء.
في تلك اللحظة القصيرة، كان لهيب الطابق الثاني قد انتفخ ليبتلع الطابق بأكمله.
كانت ألسنة اللهب المتماوجة تبدو كألسنة حمراء تلهث.
في ذلك الوقت بالضبط، تسلل لون أزرق إلى وجه جيليان الذي كان خاليًا من التعبير طوال الوقت.
“جيليان.”
ناداه صوتٌ حلو كالعسل.
كان صوت رطبٌ حيٌّ جدًا، حتى أن طرف اللسان يمسح سقف الحلق ويهبط عند نطق “يان”.
لكن يبدو أن جيليان وحده من سمعه، إذ ظل ليهارت وإينيكيل في توترهم دون أن يتغير شيء.
“جيليان.”
في لمح البصر، كرّر الصوت اسمه كأنه يستعجله.
لوى جيليان شفتيه لصوت يهمس له بإغراءٍ ساحر.
*هذي البطلة لما نادته بالفصل 26*
مصدر الصوت كان في قلب اللهيب.
“تفعل كل شيء حقًا.”
هل تدعوني للموت؟
شحب وجه الاثنين لنبرته القاسية، لكن جيليان لم يُعنَ بتصحيح اللبس.
على العكس من وعدهم بتأمين الحماية ليتمكنوا من التركيز على البحث، صارت الحراسة بهذا الضعف، حتى اضطر هو نفسه للتدخل في التنظيف الخلفي.
وأيضًا…
“جيليان.”
فكّ جيليان فورًا حلقات المانا.
استجابت الحلقات التي كانت تدور حول قلبه فورًا لنداء سيدها.
على عكس دورانها البطيء المعتاد مع نبضات القلب، بدأت تدور بعنفٍ لا يُقاوم لتستخرج المانا بكميات هائلة.
كييييييييييينغ—
في اللحظة التي انفجر فيها صوتٌ مرعب عبر حلقات المانا،
انبثقت طاقة بيضاء ناصعة من أطراف أصابع جيليان، وضغطت على الطابق بأكمله.
“…!”
حرفيًا، سحقته.
بدأت الطاقة البيضاء المتساقطة من السقف تضغط على ألسنة اللهب المتفجرة كالسوط، ببطءٍ وثبات، حتى أفنته.
كما لو كان فجرًا يبتلع الظلام.
مشهدٌ هادئ، لكنه ساحقٌ بلا حدود.
لم يتمكن اللهيب الجشع الذي كان يلتهم كل شيء من أي مقاومة تُذكر، فسُحق تحت طاقة جيليان.
دون أن يترك ولو ذرة دخان.
“واه.”
ولم يكن هذا كل شيء.
عندما استرد جيليان قوته، كان الطابق الرابع ينتظره بنفس حاله قبل الحريق تمامًا.
“أعدت بناءه؟”
“لا يمكن تركه محترقًا، أليس كذلك؟”
رسم ليهارت تعبيرًا يصعب وصفه بكلمة واحدة لكلام جيليان.
فكّ تعويذة خماسية بهذه البساطة، وأعاد بناء الطابق بأكمله في الوقت نفسه…؟
طابقٌ واحد في روزماركس ليس كطابق مبنى عادي.
كان هذا المكان شاسعًا بما يكفي ليستوعب قصرًا إمبراطوريًا ويزيد.
روزماركس، التجمع السحري الضخم الذي يُعلن عن نفسه كدولة، يدير كل الشؤون الإدارية، ويحتوي الطابق الرابع على بعض المختبرات أيضًا.
صحيح أن هناك طوابق مخصصة للتجارب فقط، لكنها للهجمات واسعة النطاق، أما الطابق الرابع فيحتوي على مختبرات صغيرة للهجمات المحدودة أو السحر اليومي.
لا يمكن وصف طوابق روزماركس بكلمة “واسعة” فحسب.
شيءٌ كهذا…
فرك ليهارت خدّه المتجمد من القشعريرة ليُرخيه.
كان جيليان قد استدار بالفعل، متجهًا نحو مكتبه.
ظهره المتراخي كالعادة بدا، من النظرة الأولى، غير محمي تمامًا.
لكن ليهارت لم يرَ في حياته ظهرًا أقوى وأعمق من هذا.
حتى لو صبّ أقوى تعويذة هجومية يملكها، لن يحرق شعرة واحدة من رأس جيليان.
“… حتى أنفاسه لم تتغير.”
مرّ كلام إينيكيل على طبلة أذن ليهارت دون معنى.
“فكّ تعويذة خماسية وأعاد بناء الطابق الرابع بأكمله، وأنفاسه لم تتسارع ولو قليلاً.”
“…”
“هل السيد جيليان تنين حقًا؟”
لا يمكن لإنسان أن يفعل هذا.
اختلط صوت الثرثرة مع حفيف الرياح التي تمرّ عبر غابة الأشجار الكبيرة خارج النافذة.
حدّق ليهارْت في خطوات جيليان الهادئة، ثم أطلق أنفاسه فقط بعد أن دخل جيليان مكتبه.
كان الإجلال الغامر يملأ صدره حتى لم يستطع التنفس بحرية.
بينما كان الدم المتوقف يندفع فجأة في عروقه ويُصيب رأسه بالدوار، فكر ليهارْت:
يجب أن أصقل نفسي أكثر حتى لا أعيق تاريخ جيليان.
وأيضًا…
“على كل حال، من يكون؟”
“وما الفرق؟ على أي حال، يجب أن نصطاد الفأر وقتله.”
“هذا صحيح.”
يجب أن نشدد الرقابة الداخلية أكثر، قالها في نفسه.
الاثنان، اللذان شهدا مشهدًا يفوق الإنسان، كانا في نشوة الإثارة، فلم يلاحظا أبدًا.
أن يد جيليان التي استدار كانت ترتجف بلا توقف.
أن وجهه كان أكثر شحوبًا من أي وقت مضى.
لم يلاحظ أحد.
حقًا، لم يلاحظ أحد.
••••◇•••••••☆•♤•☆•••••••◇••••
ترجمة : 𝑁𝑜𝑣𝑎
تابعونا على قناة التلغرام : MelaniNovels
التعليقات لهذا الفصل " 28"