24.

انقطعت أنفاس بيانكا من استهتاره بمناقشة الحرب، وكأنها لعبة.

 

عندها فقط أدركت كم كانت راضيةً عن نفسها.

 

الشخص الذي كانت تتعامل معه كان لديه القدرة على تجاوز أيّ شيء، دون الحاجة لطلب الإذن.

 

مجرّد سؤاله يعني أنه لم يكن يكترث حقًا لما ستؤول إليه الأمور.

 

وها أنا ذا، أقول إن ولي العهد متغطرسٌ أو ما شابه، أشعل نارًا بكلامٍ لا طائل منه…

 

نحن على وشك بدء حربٍ قارّية.

 

كل ذلك لأنني لم أستطع الصمت.

 

مثقلةً بشعورها بالمسؤولية، ابتلعت بيانكا ريقها.

 

“لماذا…؟”

 

“لقد كنتُ منزعجًا منه بالفعل.”

 

“ما قصدته هو أنه مجرّد مزعج، أو شيءٌ من هذا القبيل. لم أقصد بالتأكيد أن نبدأ حربًا.”

 

“لقد كان مزعجًا، فهل عليّ تركه وشأنه؟” 

 

 كان عليها أن تتصرف بحذر.

 

لقد تجاوز ولي العهد الحدود بالتأكيد.

 

كان ذلك تجاوزًا صارخًا وانتهاكًا للسيادة. لو سمحوا بذلك، لظل روزمارك تحت رحمة الإمبراطورية إلى الأبد.

 

لكن بدء حربٍ بدا ظلمًا لمواطني الإمبراطورية الذين سيقعون في مرمى النيران، ولم ترغب في أن يُوصف روزمارك بأنه مُحرِّض الحرب أيضًا.

 

ماذا أفعل إذًا؟ 

 

غرقت بيانكا في دوامة أفكارٍ لا مفرّ منها، بينما استمر الوقت يمرّ بلا هوادة.

 

انتظر جيليان، كما لو كان بحاجةٍ إلى إجابة منها.

 

أشعرها الصمت المُطبق وكأنها على وشك الاختناق. في يأس، قضمت بيانكا دماغها.

 

وبعد وقتٍ طويل …

 

“أنا لا أقول أن نتركه وشأنه. ما أقوله هو، دعنا نعاقب الشخص فقط ولا نحوّل هذه الأزمة إلى أزمةٍ قارّية.”

 

 “معاقبة ولي العهد فحسب؟”

 

“نعم.”

 

“لماذا؟”

 

وأخيرًا، جاء السؤال الذي كانت بيانكا تنتظره.

 

أحيانًا، إذا لم تجد إجابة، فإن تغيير وجهة نظركَ يُجدي نفعًا.

 

لم تستطع معرفة ما يجب فعله، فبدأت تُفكّر في سبب تصرّف ولي العهد على هذا النحو.

 

وعندما ركّزت على كلمة ‘ولي العهد”، انبثقت فكرةٌ في ذهنها.

 

إمبراطورٌ ذو سلطةٍ مطلقة، أقوى من أيّ إمبراطورٍ منذ تأسيس الإمبراطورية.

 

ومع ذلك، لم يأتِ إعلان الحرب من الإمبراطور، بل من ولي العهد.

 

“هذا لأن الإمبراطور يُريد تهيئة ولي العهد.”

 

كانت قصةً شائعة.

 

لم يكن نقل السلطة الراسخة سهلاً كما بدا.

 

لم يكن الولاء للقب الإمبراطور، بل للرجل الذي يحمله.

 

 لذا، من أجل خلافةٍ نظيفةٍ بلا نزاع، كان الأباطرة غالبًا ما يُسلّمون مهامًا رئيسيةً تُرسِّخ مكانة الوريث أمام الرأي العام.

 

“همم…”

 

“وأيُّ مسرحٍ أفضل من أن يقف ولي العهد بشجاعةٍ في وجه روزمارك ‘المُزعج’؟”

 

“مع علمكِ بكلّ ذلك، تُريدين مُعاقبة ولي العهد؟”

 

“…..”

 

“أنتِ تعلمين تمامًا ما يحدث وما زلتِ تُريدين اقتلاع البراعم مُبكّرًا، ما رأيك، ريتشارد؟”

 

نادى جيليان ريتشارد، وسأله ضاحكًا، مما جعل وجه بيانكا يحمرّ إحراجًا.

 

كيف لُخِّصَت هذه المُحادثة بهذه الطريقة…؟

 

شعرت وكأنها تُصوَّر كنوعٍ من الشريرة التي لا تُقهر.

 

“أنا…”

 

وعندما كانت على وشك أن تُوضِّح أنها لم تقصد ذلك بسوء، تكلّم ريتشارد أولًا.

 

“ربما عليكَ التوقف عن مُضايقتها الآن، لورد جيليان.”

 

“هل عليّ ذلك؟”  

 

عند سماع كلمات ريتشارد، أدركت بيانكا أخيرًا أنه كان يوم خداعها طوال هذا الوقت.

 

بالتفكير في الأمر، من المستحيل لشخصٍ ذكيٍّ كجيليان، أذكى مني بمئة مرة، ألّا يفهم هذا الأمر مُسبقًا.

 

“ها…”

 

تمنّت لو أنها تستطيع الاختفاء من شدة الإحراج.

 

“إن أمكن، في المستقبل أيضًا. هناك شائعةٌ تدور حول عبثك مع المساعدة الإدارية هذه الأيام.”

 

أضاف تعليق ريتشارد التالي إلى شعور بيانكا بالبؤس.

 

إذن، لم تكن هذه هي المرّة الأولى التي يتم خداعي فيها…

 

ولم أُلاحِظ ذلك حتى.

 

بينما عادت إلى مكتبها، غارقةً في كراهية الذات، استأنف الرجلان نقاشهما الجاد.

 

سمعتهم يتحدثون بصعوبةٍ مرّةً أخرى، لكنها كانت منهكةً للغاية لدرجة أنها لم تُعرهم اهتمامًا.

 

وبصراحة، حتى لو استمعت، فلن تتمكّن من تمييز أين تنتهي النكات وأين تبدأ الحقيقة.

 

بتنهيدةٍ عميقة، بدأت بيانكا العمل.

 

لقد كانت مشتتةً للغاية مؤخرًا لدرجة أن جبلًا من المهام قد تراكم عليها.

 

كونها مساعدةً إداريةً لا يعني أنها تتعامل فقط مع الأعمال الورقية الداخلية.

 

بدا أن السحرة يعتبرون أيّ شيءٍ لا يتعلق بالتعاويذ ‘عملًا إداريًا’، ويكلّفونها بجميع الأعمال الصغيرة.

 

كان من أهمّها طلب لوازم التجارب.

 

تمامًا مثل نموذج الطلب الذي كانت تقرأه الآن.

 

“…طلبٌ آخر لزجاجاتٍ سحرية؟”

 

لقد طلبتم 2000 زجاجة الأسبوع الماضي. لماذا مرّةً أخرى؟

 

إذا رفضت الطلب رفضًا قاطعًا، فسيقولون فقط إنها ‘شخصٌ عاديٌّ’ لا تفهم السحر.

 

 لهذا السبب تحديدًا وُجِد مساعدون سحرة مثل إينيكيل.

 

أخذت بيانكا طلب الإمدادات وتوجّهت مباشرةً إلى مكتب إينيكيل.

 

نقرة.

 

مع إغلاق الباب، سكتت همهمات الأصوات خلفها.

 

“هل قالوا إنني كنتُ أعبث مع المساعدة الإدارية مؤخرًا؟”

 

“…ماذا؟”

 

لم يفهم ريتشارد التغيير المفاجئ في الموضوع تمامًا.

 

“لماذا يهتمّون إلى هذا الحد بما يخصّني؟”

آه.

 

الآن فهم ريتشارد سبب انزعاج جيليان.

 

لدى السحرة عادة التملّك. من الواضح أن جيليان أساء فهم محور الشائعات.

 

“ليست الآنسة سوليك هي ما تهمّهم. بل أفعالكَ أنت، لورد جيليان.”

 

“أفعالي؟”

 

“نعم. لم تتصرّف هكذا مع أيّ شخصٍ آخر من قبل.”

 

تصلّب تعبير جيليان قليلًا.

 

 “أتقول إنني تغيّرت؟”

 

“حسنًا، عمليًا… نعم.”

 

“كيف يُحسب هذا تغييرًا؟ بيانكا مِلكي. أما هم فليسوا كذلك.”

 

“…أرى.”

 

وافق ريتشارد، لكن تعبيره كان جامدًا.

 

***

 

“لقد مرّ وقتٌ طويل”

 

“ماذا تقصد لقد مرّ وقتٌ طويل؟ لقد التقينا هذا الصباح.”

 

سخرت بيانكا من تعليق إينيكيل الوقح.

 

بدا إينيكيل كصبيٍّ بالكاد تجاوز سن المراهقة. ساحرٌ شابٌّ بشعرٍ بنيٍّ دافئٍ وعينين خضراوين لطيفتين، أعطى انطباعًا ناعمًا ولطيفًا.

 

ولكن كجميع السحرة، كان الانخداع بهذا المظهر الخارجي خطأً فادحًا.

 

كان إينيكيل يرى كل شيءٍ من حيث القيمة، وكانت بيانكا في يومٍ من الأيام في أسفل القائمة.

 

بصفتها غير مستخدمةٍ للسحر وتعيش في روزمارك، أرض السحرة، كانت بيانكا بالفعل بلا قيمةٍ في نظره. حقيقة أنها لم تكن تؤدي عملها على أكمل وجهٍ جعلتها في مرتبة الحثالة.

 

عندما دخلت بيانكا هذا العالم لأوّل مرّة، كان ازدراء إينيكيل في ذروته. لقد واجهت صعوبةً بالغةً معه في البداية.

 

شعرت أن استطاعتهما أن يحيّيا بعضهما البعض الآن يسجّل كمعجزة.

 

نظرت بيانكا إلى مكتبها الشاغر وابتسمت بمرارة.

 

‘قيل إنه تم طرد بيانكا من المكتب قبل تجسيدي مباشرةً.’

 

وهكذا انتهى بها الأمر بالعمل من مكتب جيليان، على الرغم من امتلاكها مكتبها الخاص كمساعدة.

 

بصفته ساحرًا مساعدًا، كان إينيكيل يتولّى في الغالب مراجعة صيغ التعاويذ.

 

إذا كانت تجربةً واسعة النطاق أو يحتمل أن تكون خطرة، كان يطلب من جيليان القيام بها نيابةً عنه.

 

إذا حدث انفجار مانا، فلن يتمكّن من التعامل معه.

 

 وقعت حادثةٌ مؤخّرًا حيث انفجرت إحدى الصيغ قبل أن تُرسَل إلى جيليان، أثناء حفظها.

 

«لا تتوقع مني حماية مساعدةٍ مدنية. لقد كانت محظوظة هذه المرة، لكن لا ضمان أنها ستكون كذلك في المرّة القادمة.»

 

اغتنم إينيكيل الفرصة، وطرد بيانكا، بحجة حمايتها.

 

الآن، وقوفها هنا تتحدّث إليه، بينما مكتبها فارغٌ على بُعد خطواتٍ قليلة، أثار لديها مشاعر غريبة.

 

“لقد مرّ وقتٌ طويلٌ منذ أن كان لديكِ مكتبكِ الخاص، أليس كذلك؟ مجرّد ذكريات.”

 

“حسنًا، حسنًا. على أيّ حال، جئتُ لرؤيتكَ بشأن طلب الإمدادات هذا.”

 

“لنلقِ نظرة.”

 

لم تكن هذه هي المرّة الأولى، لذا دون الحاجة إلى أيّ تفسير، مدّ إينيكيل يده إلى الوثيقة.

 

أمال رأسه وهو يقرأها.

 

“ألفان؟ ألم يطلبوها بالفعل الأسبوع الماضي؟”

 

“نعم. كما تعلم، أنا مجرد شخصٍ عادي، لذا لستُ متأكدة، لكن هل هذا شيءٌ يُستهلَك بهذه السرعة خلال أسبوع؟”

 

“همم…”

 

تنهّد إينيكيل لكنه لم يُجِب فورًا.

 

“كان ذلك ممكنًا، لو كانت وحدة إنتاجٍ بمختبراتها الخاصة للجرعات أو الكواشف.”

 

تُصنع الجرعات والكواشف بكمياتٍ كبيرةٍ كلّما انخفض المخزون عن حدٍّ معين.

 

لكن المشكلة كانت أن الطلب لم يكن من قسم الإنتاج.

 

قد يبدو الأمر بسيطًا، لكن حتى إينيكيل وجده مُريبًا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄

ترجمة: مها

انستا: le.yona.1