‘أيعقل! كيف يمكنهم تجاوز أمر بهذه الأهمية وكأنه لا شيء!’
تملّكني شعور جارف بالرغبة في محاسبة مؤلف الكتاب لو استطعت لقياه، لأستوضح منه كل تفصيلة أغفلها.
إذ إنّ السرد في الكتاب كان يدور برمّته حول الأميرة “إيليا”، فتمّ المرور على كثير من الأحداث مرور الكرام، حتى إذا تقدّم السرد قيل عرضًا: “في الواقع، حدث أمر كهذا في تلك الفترة…”. ولم يخطر ببالي أن تكون من بين تلك الصفحات المغفلة مأساة بهذه الفداحة.
ومع ذلك فقد أدركت بالعقل سبب الإغفال. فالحادثة لم تكن مما اقترفته الأميرة إيليا، بل كانت من تركة الأجيال السابقة، ولم يعد لأسرة دوق “بيرنت” ظهور بعدها في القصة.
وفوق ذلك، كانت الأميرة إيليا يومها في خضمّ فقدان والديها، فكيف تُلام إن لم يكن في وسعها الالتفات إلى مآسي الآخرين؟
أما “إيلي”، التي وجدت نفسها بعد حلولها في هذا الجسد تواجه موت والديها ومراسم الدفن من فورها، فلم يكن حالها بأسهل.
غير أن ما أنقذها هو كونها تدرك أنّ كل ما يجري إنما هو “عالم داخل كتاب”.
فقد منحتها معرفة ما سيحدث فسحةً من البصيرة؛ إذ باتت قادرة على النظر إلى الأمور من مسافة خطوة واحدة إلى الوراء.
وكان من حسن حظها أنّها لم تمر مرور العابرين على أمر “كليريوس”.
“ما الذي فعله الملك الراحل وزوجته؟”
“يُقال إنهما استدعياهما إلى القصر في جوف الليل. كانت ليلة ماطرة كذلك…”
“ثم؟”
“وفي طريقهما إلى القصر، امتطيا جوادًا واحدًا على عجل، فانقلب بهما، ولَقِيا حتفهما في الحادث.”
لم يكن ذلك من جنس الجرائم المروّعة كالقتل المتعمّد، غير أنّ الكارثة لم تكن لتقع لولا استدعاؤهما تلك الليلة.
آنذاك فقط أدركت “إيلي” ما وراء نظرات “كليريوس” الباردة.
لقد فقد والديه فجأة في حادث ما كان ليحدث لولا دعوة العائلة المالكة. كم كان لا بدّ أن يشعر بالذهول والحزن.
ولكن، وقد مات من كان سببًا في مأساته، فإلى من يوجّه نقمته؟ لا عجب أن يكون شيء من ذلك الحقد قد انسحب على “إيلي” نفسها.
“كم عمر دوق بيرنت الآن؟”
“ثماني سنوات.”
كان يكبرها بعام واحد فقط.
حادثة كهذه لثِقلها لا يقوى على احتمالها طفل.
كانت “إيلي” تشعر بالضياع هي الأخرى، وقد أصبحت فجأة وريثة العرش، لكن الدوق لم يكن أفضل حالًا منها؛ كلاهما حُمّل ما لا يطيقه من أعباء في سنّ صغيرة.
‘كم هما مسكينان، كلاهما…’
“صغيرٌ جدًا ليُبتلى بكل هذا الألم…”
“أنا لستُ صغيرًا!”
صرخ “كليريوس” غاضبًا، يضغط على أسنانه.
“بلى، نحن صغار. وقد قالوا إنّ الطفل يجب أن يكون طفلًا ما دام صغيرًا.”
لأن من لا يعيش طفولته، لن يبلغ الرشد أبدًا.
“دوق ريرنت لا يحق له أن يكون طفلًا!”
“لكنني سأصير ملكة، ومع ذلك ما زلت صغيرة.”
“أنتم أصغر مني بعام!”
“وإن يكن! ألستَ أكبر بعام؟ فكيف لا تفهم أن الطفل يجب أن يتصرّف كطفل؟!”
في عالم من هم دون العشرين، عام واحد كفيل بأن يجعل بينكما هاوية.
ضاقت “إيلي” صدرًا، وتجاهلت القيود التي تمنعها من الجدال.
أما “كليريوس”، الذي كان يحاول دائمًا أن يبدو راشدًا، فقد أفلت منه رباط الصبر حين سمعها تقلّل من شأن ذلك الفارق.
“كيف تجرؤين أن تقولي ذلك لمن يكبرك بعام كامل!”
“سبع أو ثمان، ما الفرق! حين نبلغ المئة، أترى فرقًا بين مئةٍ ومئةٍ وواحد؟!”
صرخت “إيلي” وقد اشتعل وجهها غضبًا.
“الفرق بين التاسعة والتسعين والمئة كبير!”
لم يتراجع “كليريوس”، وبادلتاه النظرات الحادّة والأنفاس المتوترة.
غير أنّ “كليريوس” سرعان ما تذكّر أنه يقف أمام أميرة ستصير ملكةً، فقبض على لسانه، وإن ظلّ الغيظ يغلي في صدره.
كان يراه ظلمًا أن تُعامله تلك الطفلة، الأصغر بعام، وكأنه هو الصغير.
لكنّ الدوق اعتاد كبح نفسه، فطوى شفتيه صبرًا كما فعل مرارًا.
أما “إيلي”، فشعرت بالإحباط الشديد. لقد أرادت مواساته، فإذا بها تُثير غضبه!
“إذن…”
رفع “كليريوس” نظره إليها بوجهٍ متجهم ينتظر كلمتها التالية، بعينين تقولان بوضوح: إن أخطأتِ ثانيةً، فسأنصرف حالًا.
فرجفت “إيلي” تحت تلك النظرة الحادة.
كلما حاولت أن تصلح، ازدادت الأمور انزلاقًا، كمن يطأ أرضًا مبللة بالزيت.
‘لا، هذا ليس ما أردتُ قوله… هذا ليس ما أردتُه…’
ارتجف صوتها وهي تهمس: “لابد أنك تألمت كثيرًا…”
كانت تلك جملة لم يتوقعها “كليريوس”.
كأنّ سهمًا طائشًا أصاب قلبه في غفلة، فظلّ صامتًا، عيناه متسعتان بدهشة.
ظنّت “إيلي” أن صمته من شدة الغضب، فازداد صوتها ارتعاشًا حتى كادت تبكي:
“أنا لا أتذكر أي شيء، لكن… لكني آسفة… لأن والديَّ هما اللذان تسبّبا بذلك…”
ظلّ “كليريوس” صامتًا، شفتيه مطبقتان، يفتش في نفسه عن موقفٍ لائق كدوق.
إن قبل اعتذارها، فسيبدو كأن بيت بيرنت قد خضع العائلة الحاكمة.
لكن قلبه لم يستطع رفضها؛ لقد رآها بعينين صادقتين لا تعرفان الحساب.
‘إنها لا تذكر شيئًا… ولم يكن ذلك خطأها أصلاً…’
اهتزّت مشاعره كما يهتزّ سنّ لبنيّ على وشك السقوط.
“أنا… أنا آسفة!”
فاضت دموعها فجأة، تساقطت حباتها اللامعة من عينيها كحبات المطر.
شهق “كليريوس” متفاجئًا.
“لـ، لا يا سموّ الأميرة!”
لكنّ صوتَه المرتبك لم يزدها إلا بكاءً.
‘لم أرد أن أحرجه أو أغضبه… أردت فقط أن أواسيه…’
كانت دموعها امتدادًا لصدقها. فهي الآن “إيليا” في نظر الجميع، والمسؤولية على عاتقها.
ولأنّ ما جرى لوالدي “كليريوس” كان مأساةً تسبّب بها الملك الراحل وزوجه، فما من كلمة تعبّر عن الندم إلا “العذر”.
“لستِ أنتِ من ينبغي أن يعتذر يا سموّ الأميرة…”
قالها بارتباك، لكنه هو نفسه كان يعرف أنها الوحيدة التي يمكنها فعل ذلك.
فقد كانت ابنة الملكين المسؤولين عن الكارثة، واعتذارها هو ما يرمز إلى خضوع العرش للضمير.
غير أنّ “كليريوس” حين سمعها تبكي وتعتذر، شعر بأنّ رأسه غشيه الضباب، كأن فكره تجمّد.
واصلت “إيلي” اعتذارها بين شهقاتها:
“لكنني… أشعر بالذنب رغم ذلك… آسفة لأني جعلتك تتذكر… وآسفة أيضًا لأني دعوتك لشرب الشاي وأنت تكره العائلة المالكة… أوه…”
كان ينوي أن يردّ بأدب نفيًا لما قالت، لكنّ الكلمات علقت في حلقه.
لأنها كانت على حق. كل كلمة قالتها أصابت موضع الجرح.
وشعر لأول مرة بما يعنيه أن يعبّر أحدهم عن مشاعرك نيابةً عنك.
كأنّ يدًا دافئة ضخمة احتضنت قلبه كله.
احمرّ وجهه، وسخن أنفه، ولسعته دمعة على وشك الانحدار.
‘آه…’
‘هذه هي الدموع…’
كان يظن نفسه خاليًا منها.
حين علم بوفاة والديه، وحين أقيمت جنازتهما، وحين تناقل الناس الهمسات عنه، لم تدمع عيناه. لم يشعر بحاجة إلى البكاء، إذ لم يكن في داخله ما يبكي.
لكن الآن، وقد بكت “إيليا” أمامه بصدقٍ طاغٍ، انتقلت العدوى.
ارتجف صوته: “لا… لا تبكي، يا سموّ الأميرة…”
“لكني لا أستطيع التوقف!”
“ولكن….ولكن…”
وبينما تمتم متلعثمًا، تساقطت من عينيه هو الآخر دموعٌ ساخنة.
كانت أول دمعة هي الأثقل، ثم انهمر سيلها دفعةً واحدة.
كانت “إيليا” محقّة…
لقد كان طفلًا مثلها تمامًا.
“أههههههه…”
“وااااااه…”
وامتزج بكاؤهما معًا، طويلًا كأنّ العالم كله توقف ليستمع لهما.
—
عاد “كليريوس” إلى منزله وكرامته مثقلة بالمرارة.
‘لقد بكيتُ أمامها! لكن هذا لا يعني أنني قبلت اعتذارها!’
بل إنه ثار بعدها أكثر من ذي قبل.
أما “إيلي”، فكانت تبكي شفقةً عليه، لا حنقًا منه، لذا لم تتأذّ كثيرًا.
لكن المحيطين بها لم يتركوا الأمر يمرّ.
“كيف يجرؤ على التصلّب بعد أن ذرفتِ دموعكِ من أجله؟ هذا تمرد، لا وفاء!”
“بيت بيرنت لا ينسى الضغائن، وسيورثون كراهيتهم جيلًا بعد جيل!”
“مولاتي، مخالطة ذلك الدوق خطر، فهم معروفون بعنادهم الشديد، والأفضل نسيان الأمر تمامًا. لقد أنهى الملك الراحل مسألة التعويض منذ زمن.”
كلهم حاولوا تطييب خاطرها، قائلين إن مرور الوقت كفيل بمداواة الجرح.
كانت كلمات مريحة، نعم، لكنها جوفاء.
فقد تذكّرت “إيلي” أخاها.
كان يخطئ كثيرًا دون قصد، وكان يجرحها أحيانًا بكلمة.
لكنه لم يهدأ حتى يبتسم وجهها من جديد.
“لأن القلب، ما لم يُرضَ، يبقى موجوعًا.”
لهذا أطبقت كفّيها وقالت لنفسها بثبات:
“أنا الوريثة القادمة للعرش، إذن فالذنب ذنبي، والمسؤولية مسؤوليتي.”
وقد عقدت العزم — أن تفتح قلب “كليريوس” وتزيل عنه أثقاله، مهما كلفها الأمر.
————–
كيف الترجمة مفهومة ولا اخفف وقع اللغة شويه؟
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"