“لذيذٌ !”
“…الحمد لله!”
وما إن سمعت حُكم إيلي، حتى أسقطت ليلْكيا عضلة كتفيها المتشنّجة التي ارتفعت من فرط التوتر.
لم يكن الطعم مماثلًا تمامًا لما يصنعه أخوها، غير أنّه كان قريبًا جدًّا.
وكذلك غمرها إحساس سارّ، كاليوم الذي شربت فيه من الشاي الذي صنعه بيديه.
“ذُقْ، إنه طيّب.”
قالت إيلي للفتى الذي لم يزل يحدّق في فنجان الشاي.
“نعم.”
لكنّه لم يَزِدْ على أن قرّب الفنجان من شفتيه ثم أبعده، دون أن يشرب شيئًا.
‘لو ارتشف جرعة صغيرة لارتاحت نفسه كثيرًا.’
وضعت إيلي الفنجان وقد غمرها الأسى، وأخذت تُمعِن النظر في الفتى.
لكنّه ظلّ مطرقًا إلى زاوية الطاولة، وكأنّه يرفض رفضًا قاطعًا.
كان كالناظر إلى جوزة قاسية لا يمكن كسرها باليد العارية.
ومع ذلك لم تيأس إيلي.
“أيها الفتى…”
“نعم، يا مولاتي.”
فإذا بها تدرك أنّها لا تعرف اسمه.
“ما اسمك أنت؟”
“…ألم تكوني تعلمين؟”
رفع الفتى رأسه بوجهٍ حائر.
“آه…”
وفي تلك اللحظة، التقت العيون بالعيون.
“عيناك جميلتان.”
انطلقت الكلمة منها من غير قصد، مدحًا عفويًّا.
لقد بدا بريق عينيه عن قرب كصفاء السماء، أو كزرقة بحيرة في يومٍ صافٍ.
يتوسّطهما لونٌ أعمق، يشبه عُمق الماء، أمّا الجهة التي لامسها النور فقد اكتست بزرقة لطيفة كسماءٍ حُجبتها غيمة رقيقة.
لكن ما إن سمع الثناء حتى قطّب حاجبيه، وخفَض بصره مرّة أخرى.
وكانت الحسرة تعتصر إيلي، إذ لا تقدر على التمتّع بذاك الياقوت الأزرق البهيّ.
“اسمي كليريوس. دوق بيرنت.”
‘بيرنت… بيرنت؟’
إنّه اسم مألوف لديها.
قد لا تكون سمعت باسم كليريوس من قبل، لكن عائلة بيرنت ورد ذكرها في الكتب غير مرّة، وقد وُصفت بأنّها من أقوى البيوت النبيلة، تُضاهي الأسرة المالكة ذاتها.
غير أنّ تلك العائلة لم تكن ذات شأن كبير في سيرة الأميرة إيليا، إذ لم يرد ذكرها إلا عابرًا.
‘متى وردت بالضبط؟’
لم يكن حدثًا جللًا.
وأخذت إيلي تُحدّق في كليريوس علّها تُحيي في خاطرها شيئًا من الذكرى.
“…”
غير أنّها كلّما طال نظرها إليه لم يخطر ببالها شيء سوى أنّه وسيم الطلعة.
“اسمعْ، يا كليريوس.”
“أنا دوق بيرنت.”
“أجل، أعلم. دوق بيرنت، كليريوس. على كل حال، يا كليريوس…”
“…ناديني بلقبي، يا مولاتي.”
“لِمَ؟”
“فالاسم لا يُرخّص به إلا بين من تربطهم صلة وثيقة جدًّا.”
فإذا إيلي تتخطّى الحاجز دفعة واحدة:
“وأنا أريد أن أكون قريبة منك. فلنبدأ بالاسم ثم نُصبح أقرب فأقرب، أليس ذلك جائزًا؟”
شهق كليريوس، واتّسعت عيناه من الدهشة قبل أن يتمالك نفسه.
“ألا يجوز؟”
سألتها بصوت خافت وقد استبدّ بها الوجل.
غير أنّ عينيه، اللتين كانتا باردتين، أخذتا تتلظّى بنار الغضب.
“…كيف تجرئين على قول هذا؟”
“لِمَ…؟”
“ألستِ تعلمين أنّه لا يليق بنا ذلك؟”
كان صوته صارمًا، يقطّع أوصال العزم.
فانكمشت إيلي.
“وما الذي يمنع؟”
اشتدّت حدّة نظرته حتى بدت كسيفٍ مُشهَر.
غضبٌ جارفٌ لا هوادة فيه.
‘لا شك أنّ وراء الأمر سرًّا عظيما!’
ربما ضربته الأميرة إيليا ضربًا مبرّحًا فيما مضى… بل مرّات كثيرة.
“أتجهلين السبب حقًّا؟”
أحسّت أنّه لو أجابت بالنفي لانفجر غضبه انفجارًا لا رجعة فيه.
لكنها لم تعلم شيئًا.
فبادرت متعجّلة:
“الحقّ أنّي فقدت ذاكرتي.”
“…ها…؟”
فتراجع كليريوس وقد سُلب عقله من شدّة بروده.
وانتهزت إيلي الفرصة، فأخذت تسرد مسرعة:
“صدقني. بسبب حادث، ضاعت ذاكرتي. بعض الأشياء أتذكرها، أما أنت، يا دوق بيرنت، فكأنّي أكاد أذكر ثم لا أذكر.”
“…أأنتِ صادقة؟”
“ولِمَ أكذب؟ أنا نفسي في حيرة!”
فمع أنّها كانت تتصرّف إلى الآن ببراعة، إلا أنّ ضياع ذاكرة الأميرة إيليا سيفضح أمرها مع مرور الوقت.
ولقد كانت السيدة لافال نفسها قد لاحظت اختلاف تصرّفاتها مرارًا.
“ماااذااا؟!”
وفجأة صاحت ليلْكيا التي كانت صامتة في الركن، فاقتحمت الحديث وقد غمرها الذهول.
“اعذريني يا مولاتي… أحقًّا ما تقولين؟”
فالحرّاس عادة ما يقفون خارج الباب، وحتى يوم أفاقت إيلي وما تبعه من ضجّة، لم يتهيّأ وقتٌ لانتشار خبر فقدانها ذاكرتها.
“أكلُّ ذكرياتك زالت؟”
“بل بعضها، وربما تعود بمرور الأيام.”
“آه…”
فزرت ليلْكيا أنفاسها وقد ارتاحت قليلًا.
“كم هو عسير أن تنهال عليك الحوادث وأنت بلا ذاكرة…”
“هُمم…”
نعم، كان الأمر شاقًّا.
فقد غدت بين ليلة وضحاها ليست فتاة عادية، بل أميرة مقدَّر لها أن تحمل عرش البلاد.
“لكن لا تقلقي يا مولاتي! سأظل إلى جوارك حتى تعود إليك كل ذكرياتك!”
“شكرًا لك.”
ابتسمت لها إيلي بوجهٍ مشرق، فبادلتها ليلْكيا ابتسامة صافية.
أما كليريوس فقد ظلّ بينهما، واجمًا لا يعرف كيف يتصرّف، ثم أعاد رأسه إلى الطاولة.
“لكن… إذا كنتِ بلا ذاكرة، فلِمَ تريدين أن تقتربي مني؟”
كانت تلك أول مرة يبادر هو بالحديث.
فأشعلت إيلي عينيها بوميض الاهتمام، وحوّلت نظرها إليه.
“لأنك من سِنّي؟”
“كثيرون من أقرانك سواي. فلماذا أنا بالذات؟”
“أهناك كثيرون غير دوق بيرنت؟ قبل قليل…”
“اليوم كان الحضور من ذوي الألقاب فقط.”
“…آه…”
“فإن كان الأمر لمجرد العمر، فلأرحل إذن.”
وكان في كلامه صدق. لم يكن ثمّة سبب للإمساك به.
لكن قلبها أراد قربه.
إيلي لم تجد جوابًا… حتى نطقت بما اختزنته طويلًا:
“كنتُ فقط أريد أن أعلم… لِمَ تكرهني؟!”
ارتجفت حاجباه، غير أنّه لم يغادر.
بل ساد الجوّ صقيعٌ يخنق الأنفاس.
“وكيف أحبّك، يا مولاتي؟”
“…كم مرة ضربتك أنا؟”
“ضرب؟ أنتِ؟ لي أنا؟”
قالها ساخرًا.
عندها التفتت إيلي إلى هيئته، فإذا هو أقوى جسدًا من أقرانه.
‘أيمكن لتلك الأميرة الضعيفة أن تضربه أصلًا؟’
“فإن لم أضربك، فلماذا البغض؟!”
فأطبق شفتيه، متردّدًا.
‘ها هو… سيقول الحقيقة أخيرًا.’
“أخبِرني! لا أريد أن أُبغَض هكذا من غير سبب!”
“…”
“هاه؟ هاه؟”
ألحّت عليه، حتى تكلّم أخيرًا:
“لا تظني أن مثل هذا التصرّف سيُسقط دَيْن بيت بيرنت. فلن أغفر للبيت الملكي ما حييت!”
“لكن… لِمَ؟”
“ألستِ تعلمين؟ إنّما بسبب الملك السابق وزوجته!”
“هاه؟!”
فاغرت فاهًا، وقد جمدت دمعتها.
“لقد فقدت والديّ معًا… الدوق الراحل وزوجته. وورثت اللقب وحيدًا من بعدهما.”
اتّسعت عيناها ذهولًا.
“متى؟”
“حديثا.”
“إذن قد حلّت بك مصيبة عظيمة… فلا بد أنّك تألمت كثيرًا.”
رمقته بعين دامعة.
فإذا هو يصرخ فيها متألّمًا:
“مولاتي! لا يحق لكِ أن تعزّيني! لأنهما قضيا نحبيهما بسبب الملك والملكة السابقين!”
“ماذاا؟!”
وهنا انقطعت شهقتها، وقد أذهلها الخبر.
—
احس ماش، ذا اخر فصل اترجمة من الرواية ذي بالتراثية طلعت العيال الصغيرة كانهم ناضجين
الفصول تنزل اولا بالتيليجرام
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"