6
كان بين ‘إيلي’ والأميرة ‘إيليا’ وجوه شبهٍ كثيرة، عدا عن تقارب اسميهما.
إذ كلتاهما تُحبّ الحلوى، وإذا نامت إحداهما طال رقادها، وكلتاهما لا أقران لهنّ من أترابهنّ.
فالأميرة إيليا لم تكن تستلذّ بمخالطة من هنّ في سنّها. وقد حاول الملك والملكة مرارًا أن يُيسّرا لها ذلك، غير أنّ الأميرة كانت تميل إلى صحبة الكبار الذين يُدلّلونها.
ومن أجل ذلك، لم يكن للأميرة إيليا صاحب ولا صديقة حتى بعد أن بلغت سنّ الرشد.
أمّا إيلي، فلم يكن الأمر راجعًا إلى قلّة في طباعها أو عجزٍ عن الألفة، بل لأن بيئتها لم تُتح لها أترابًا؛ فكوخ أخيها كان في أعماق الغابة، والضيوف الذين كانوا يأتون إليه رجال كبار، ولم ترَ في حياتها صبيًّا في مثل عمرها.
ومهما عَظُم حبّها لأخيها، فإن شوقها ورغبتها في صديق من سنّها كان أمرًا آخر.
‘أوّلًا لا بُدّ لي من معرفة سبب كراهيته لي، ثمّ إن استطعت إصلاحه، لعلّنا نُصبح صديقين!’
فإن عُرف السبب زال المانع، وبان سبيل الألفة.
صحيح أنّ هيئة الغلام المصرّة على البُغض بدت يائسة، لكن إيلي لم تُسلِّم باليأس.
كيف وهي قد لاقت أخيرًا صديقًا من عمرها!
“تفضّل! هذا حجرتي!”
ولمّا وصلا، عمدت إيلي إلى إظهار البِشر في صوتها.
“نعم.”
أجاب الغلام، وصوته لا يزال يحمل الكراهة عينها.
لكن إيلي لم تضعف.
“آه، والصالون… أي…”
لم تكن قد جابت من حجرتها سوى موضع المغتسل وغرفة الثياب.
وحقيقةً، فإن حجرة الأميرة لم تكن تُسمّى حجرة بل دارًا قائمة، ففيها مغتسل، وغرفة للثياب، وصالون، ومكتبة، وسواها.
وكثرة تلك الحجرات جعلت إيلي لا تعثر على الصالون للوهلة الأولى.
“من هذا الطريق.”
بادرت السيّدة ‘لاڤال’ بالإرشاد.
“آه! هنا إذن!”
غير أنّ إيلي، وهي على وشك دخول الصالون، توقّفت إذ رأت من كان مُصطفًّا عند باب الأميرة.
إنهم أولئك الذين تبعوها منذ حين، وها هم يرمقونها بأبصارٍ مُلتمسة، كأنما يرجون أن تُقرّر مجلسهم.
“سنحتسي الشراب فرادى، نحن الاثنان.”
قالتها إيلي ببرودٍ مُتعمد.
لكن السيّدة لاڤال ابتسمت وهزّت رأسها.
“لا يجوز لأمير أو أميرة غير متزوّجَين أن ينفردا في مكان واحد مع من هو من الجنس الآخر.”
“ولِمَ ذلك؟”
“هكذا هي القوانين.”
قطّبت إيلي حاجبيها وقالت:
“وما الحكمة في تلك القوانين؟”
كان سؤالها عجيبًا، لا يخطر من طفلة، لكنه جاءها فجأة.
ففكّرت السيّدة لاڤال: كيف تُجيبها على قدر عقلها، لا سيّما أنّ السامعين كثيرون؟
“قد يشي الناس بأنّكما عاشقان.”
“ماذا!”
“والشائعات يا مولاتي مخيفة، فقد يُلزمونكما بالزواج دفعاً للعار.”
“آه!”
صرخت إيلي واضعة كفّيها على خدّيها.
أيّ هراء هذا! لو علم أخوها لأغشي عليه!
وفوق ذلك، اشتدّت ملامح الغلام قسوةً وغلظة.
“فـ… فما الحيلة إذن؟”
“يكفي أن يحضر معكما خادم أو نبيل.”
“آه…”
لم يكن الأمر مُعقّدًا كما ظنّت.
تنفّست إيلي الصعداء.
“فإن لم تُرِدي خدمة الشراب بنفسك، فهاتي خادمًا ليُقدّمه.”
لكن الأمر لم يكن هيّنًا؛ فالذي سيجلس شاهدًا على أحاديثها هو من سيطّلع على أسرارها، فالتفكير في الاختيار واجب.
“إن أوليتني هذا الدور، يا مولاتي، لكنت في غاية السعادة.”
قالتها السيّدة لاڤال، غير أنّ إيلي لم تُعجّل بالموافقة؛ فهي لا تكرهها، لكن القرب الزائد منها قد يُفضي إلى أن تصير مثل الأميرة إيليا مدلّلة متدلّعة.
فنظرت إيلي في وجوه الماثلين واحدًا واحدًا.
‘أنا، يا مولاتي!’
‘اختاريني أنا!’
وكان كلٌّ يبتسم أقصى ما يستطيع.
لكن عين إيلي وقعت على شخصٍ لم يكن يتطلّع للاختيار.
“قولي لي، ليليكا أوني ألستِ من النبلاء؟”
جمد الجميع دهشة، حتى ليلكيا نفسها.
“آه… أوني…!”
وكانت الدهشة الكبرى من لفظها “أوني”، فاحمرّ وجه ليلكيا.
“نعم، في الأصل أنا من أسرة نبيلة.”
أجابت بهدوءٍ تخفي به ارتباكها.
صحيح أنّ بيتها لم يكن عظيمًا، لكن بلوغها منصب قائد الحرّاس إنما كان بفضل كفاءتها، وهي مع ذلك نبيلة.
“وهل تجيدين إعداد الشاي؟”
“أجل، بعض الشيء…”
وكأن الأمر محال، غير أنّ المحال هنا يتحقّق دومًا.
صفّقت إيلي بفرحٍ وقالت:
“رائع! وأنتِ أصلاً حارسَتي، فإذا تولّيتِ الشاي أيضًا صار الأمر مُناسبًا جدًّا!”
“أنا… ذاك…”
ارتبكت ليلكيا من نقلتها الفجائية من ظلّ الحراسة إلى خدمة الشراب.
فرمقتها إيلي بعينيها وقالت:
“هل أثقلت عليكِ؟ أفي وسعك الجمع بين الأمرين؟”
“لا، يا مولاتي، بل هو شرف عظيم. سأكون حاضرة بكل سرور.”
فانحنت بجدٍّ وإخلاص.
“حسن! فهلمّ بنا!”
ولمّا التفتت إيلي إلى من خلّفتهم وراءها، رأت الحسرة في أعينهم، والسيّدة لاڤال تكاد تبكي.
‘فلتأذنوا ولو بآخرين!’
لكن إيلي لم تُزِد، بل قالت محذّرة:
“لا يحلّ لكم الإصغاء من وراء الأبواب.”
“نعم…”
فانكسرت قلوبهم.
كان الصالون صغيرًا، بحيث إن من جلس فيه سمع كلّ ما يُقال.
فلما جلست، أدركت إيلي لم كان القوم حريصين على الانضمام؛ فهو مجلس يتيح السماع والنقل وربما المشاركة.
لكن ريلكيا، وإن كانت المختارة، لم تُبدِ خفّة ولا طيشًا، بل أخذت مكانها برزانة.
“سأُعدّ الشاي هاهنا، فأخبروني ما تحبّون.”
وأخذت من الزاوية ما يلزمها من أوراق الشاي وأدواته.
وكانت حركاتها الهادئة سببًا في أن يسكُن اضطراب إيلي.
عندها التفتت إيلي إلى الغلام.
“أشكر لك لبّيت الدعوة على عجل.”
قالتها بلهجة الكبار.
“وأنا شاكر لصنيعك.”
وردّ الغلام أيضًا بلغة مؤدّبة، وإن ظلّت ملامحه باردة.
لكن هذا وحده بثّ في نفس إيلي رجاءً، إذ لم يكن مُعرضًا عن الحديث.
“سررت بلقائك، أنا إيلي… إيليا.”
“أعرفك. أنت الأميرة الوحيدة في نيرنديس، وريثة العرش الأولى، إيليا ريدن بيورث نيرنديس.”
“يا للعجب، لقد حفظتها كلها.”
“كيف يجهل أحد اسم أميرة بلده الوحيدة؟”
كان أدبه جافًّا بعيدًا، فاستشعرت إيلي أن كثرة الكلام لا تُقرب بينهما.
فدخلت في صُلب ما تُريد.
“لكن، لِمَ فعلت نفسك غريبًا وأعرضت عني آنفًا؟”
“لم أجرؤ أن ألتقي بعينيك، يا مولاتي.”
وكان، من أوّل اللقاء إلى الآن، لا يرفع بصره إليها.
“أُذن لك أن تنظر.”
“شكرًا جزيلاً.”
ومع ذلك أبى أن يرفع رأسه.
“…….”
“…….”
فساد صمت ثقيل.
مع أخيها، لم تعرف إيلي قطّ صمتًا مُحرجًا؛ إذ كان السكون هناك طبيعياً.
أفتسأله صراحة: ‘ألست تكرهني؟’ لكن لو أجاب بـ ‘نعم’ لكان ذلك قاسيًا جدًّا.
فحاولت أن تفتتح كلامًا آخر لتلتمس ما في نفسه.
“أيّ شايٍ تودّ أن تشرب؟”
“أيًّا كان ما تمنحينني يا مولاتي فهو مُبارك.”
فلم يُبدِ رغبة محدّدة.
“حسنًا، فلنجعل الشراب حلوًا.”
فالطعام الحلو يُلين القلوب.
“ليلكيا أوني.”
“أمر مولاتي.”
“أيمكنك أن تُعدّي لي شاي الشوكولاتة وتُزيّنيه بالمارشميلو، وتسكبي فوقه شراب الفراولة ومعجون البرتقال؟”
فتحيّرت ليلكيا.
“ماذا؟ أيوجد في الدنيا مثل هذا الشراب؟”
وأمالت إيلي رأسها متعجّبة، فهذا ما اعتادت أن يُهيّئه لها أخوها ليفرحها.
“إنه لذيذ.”
“آه… هكذا إذن هواكِ، يا مولاتي.”
“أهو غريب؟”
“لا، لا. لكنّه نوع جديد عليّ.”
بدت ليلكيا مُرتبكة، وهي التي كانت تظنّها إيلي ثابتة الأعصاب.
فقالت إيلي:
“أهو صعب؟ أأغيّره؟”
“بل سأُجرّب ما أستطيع.”
“تشجعي!”
“نعم!”
وأخذت ليلكيا تُعدّ الشراب، تستعين أحيانًا بخدم، وتُهدر بعض الأقداح، حتى فرغت إلى الكوب المطلوب.
ولم يكن كالذي يصنعه الأخ، لكن جهدها فيه ظاهر.
“هممم…”
تذوّقت إيلي رشفة، وإذ بها تلمح في عيني ليلكيا انتظارا مشوبًا برجاء.
ففتحت إيلي فاها لتُبدي رأيها…
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"