5
لم يكن في الحسبان أن تنصبّ الأعين عليها دفعة واحدة.
“أوه… لا تتخاصما…”
فما إن خرجت إلي من فمها تلك الكلمات الجريئة، حتى ارتسمت على حاجبي أختها ليلكيا والسيّدة لافال أمارات الاسترضاء.
“أواه، ما كنا نتخاصم، يا مولاتي الأميرة. نحن على أحسن ما يكون بيننا. أليس كذلك، أيتها القائدة؟”
“بلى، بل نحن صديقتان حميمتان، قد اجتمعنا على محبة مولاتنا الأميرة.”
“هوهوهو!”
“هاهاها!”
“……”
وإن كان ضحكهما متكلفاً، إلا أنّه بدا في الظاهر كأنما قد تصالحا، فآثرت إلي أن تدع الأمر.
“لكن، ما ذاك الحديث عن الموت الذي ذكرتماه آنفاً؟ لا بد أن أسمعه.”
ثم أخذت ليلكيا الأميرة إيليا من على المقعد، وجثت على ركبة واحدة لتكون بعينها بمستواها.
“قد يبدو في فعلي هذا بعض المبالغة، ولكن حياة مولاتي أثمن من أن تُعوَّض بشيء، فاعذريني إن بدوت متشددة.”
“…نعم!”
ولو كانت الأميرة إيليا نفسها، لذعرت من الجو المهيب وبكت، أما إيلي فقد شعرت بالدفء يغمر قلبها، إذ لم يكن ثمة حاجة للخوف من قلقٍ مخلصٍ لأجلها.
“ما الأمر إذن؟”
فتحوّلت الأبصار نحو إليّ، نظرات مشدودة كأنها شهدت محاولة اغتيال.
وكانت إنما أرادت أن تطيع قول أخيها بألا تكثر من الحلوى، فإذا بالأمر يتعاظم هكذا!
قالت بخفر، بصوت كالمتقلص:
“ذاك… الناس يلحّون أن آكل الحلوى.”
“…هاه؟”
أومأت ليلكيا برأسها، ثم قالت:
“…أوَسمعتِ أنّ في الحلوى سماً دُسَّ لكِ؟”
“لا.”
“أفلديكِ علة إذا ذقتِ الحلوى هلكتِ بها؟… لا، لا أظن.”
فلو فكرت في ما كانت إليا تأكله عادة من الحلوى، لاستبعدت ذلك. وليلِكيا قد رأتها غير مرة تلتهمها، فالأمر ثابت لديها.
“قال أخي: إن أكلت الحلوى فستسوس أسناني، فإذا فسدت لم أعد أستطيع المضغ، فأموت جوعاً!”
قالت إيلي بصوت ملحّ.
“آه…”
فهمت ليلكيا الآن من أين جاء ذكر الموت. لعل أحدهم قد استخدم كلاماً صارماً ليحفظ أسنان مولاتها الصغيرة، وهو ناصح مخلص لا شك.
“ولكنهم لا يزالون يلحون عليّ أن أذهب لأتناولها!”
“…هاه، إذن كذلك.”
فبرقت عين ليلكيا كالصاعقة.
نعم، هذا لا يُحتمل؛ أن تُكرَه مولاتها على السكر الفاسد الذي لا ينفع عظماً ولا لحماً، بل يُفسده. ذلك فعل تجاوز الحدود. أهو إلا اغتيالٌ في صورة إغراء؟
فقامت ليلكيا وولّت نحو الجمع، وقد تحوّلت عيناها الرقيقتان إلى عينين حادتين كعيني سبع.
“مولاتي رفضت، وأنتم رغم ذلك ألححتم عليها أن تفسد أسنانها…؟”
جاء كلامها متقطّعاً، كتهديدٍ بالقتل.
فابيضّت وجوه القوم.
“يـ… يكفي أن تغسل أسنانها بعد الأكل!”
“نعم! والآن الأهم أن تروّح مولاتنا عن نفسها!”
“ومرة حلوى لا تُسقط الأسنان في الحال!”
تتابعت أصوات التبرير.
“…حقاً؟”
فأشرقت عينا إيلي. أخوها قال لها: ‘استمعي إلى آراء الناس كذلك.’ أفيمكن أن تكون قطعة حلوى للهو لا بأس بها؟
“حقاً، حقاً!”
“أفيمكن أن نضرّ مولاتنا بشيء؟!”
“سوء فهمٍ لا غير، أيتها القائدة!”
فأصدرت ليلكيا صوتاً خافتاً كالغُرَير، ونظرت ببرود. لقد كانت وظيفتها حماية الأميرة من الأخطار، لا التدخل في صغائر شؤونها. وبالرغم من كراهيتها لأولئك الذين يغرون الصغيرة، فقد كان الوقت للسكوت.
“…حسناً، ليكن.”
وعادت إلى موقفها على الطرف للحراسة.
وما إن ابتعدت حتى عاود القوم هجومهم الحلو:
“مولاتي، وقد زال الإشكال، هلا ذهبنا لنطعمك ما لذ وطاب؟”
“أمم…”
“هلمي أمسكي بيدي، أم أضمّك بين ذراعي؟”
سألت لافال بابتسامة ندية وصوت رقيق، وتبسم من حولها.
فوثبت إليّ من مقعدها قائلة:
“لا، سأمشي وحدي.”
“أواه، هكذا هي مولاتنا؛ قد كبرت وأصبحت تعتمد على نفسها!”
تبعَتها لافال مصفقة بكفّيها، وإليّ تمشي مزهوة كأنها أدركت طور الكبار.
ومن وراءها تبادل الخدم نظرات ملؤها التنهد الخفي:
‘ليس الأمر بالهيّن.’
فكسب ود طفلة كهذه ليس لعباً سهلاً، إذ لم يخلّف الملك الراحل وزوجه غيرها، فهي وريثة العرش الوحيدة. فلا غرو أن يسعى كلٌّ لاستمالتها، لكنها تأبى أن تُساق.
ومع ذلك لا مجال للقنوط.
“هل نخرج إلى الحديقة؟”
“إنها دافئة بأشعة الشمس اليوم.”
فألحّوا عليها، فنظرت من نافذة الرواق فرأت خلف الزجاج شتاءً قارساً، بينما كانت الغابة مع أخيها في صيف دائم. هناك أيقنت أنها في عالم آخر.
‘أخي…’
فمالت شفتاها حزناً وتوقفت.
“آه، لا، لا حاجة للحديقة!”
“مولاتي حرّة في اختيارها!”
فارتبكوا لئلا يغضب وجهها الصغير، وكان كل حركة لها تحركهم.
لقد أرهقتها كثرة الألسن من حولها، كل خطوة تقابلها عشرات الكلمات وعشرات العروض.
“…أريد غرفتي لأستريح.”
“أمر مولاتي مطاع! إلى الغرفة حالاً!”
وكان شرفاً لمن حظي بالجلوس معها، فالكل كان يتهيأ للظفر بلحظة قرب، ولو كانت لافال ملازمة لجانبها.
“أمم…”
وإذا بها تبصر صبياً يغادر قاعة العزاء، فأثارتها رؤيته.
وكان من حولها يواصلون الهمس:
“فما الشراب الذي تأمرين به؟”
“إن جلست لافال عن يمينك، فأتأذن أن أجلس عن شمالك، يا مولاتي؟”
كانوا غارقين في الكلام فلم ينتبهوا، إلا أن الصبي رأى إيلي وتبدلت ملامحه فجأة إلى امتعاض شديد، غير أنه لا سبيل لتجاهلها وقد التقت الأعين. فانحنى بتحية مقتضبة، ولم يرفع رأسه، كأنه يتمنى أن تمضي.
‘أعرف، أعرف!’
علمت إليّ كم يكرهها هذا الصبي من كل جوارحه، لكن لا يسوغ تركه هكذا.
“أريد أن أتناول الطعام معه.”
“؟!”
فالتفتت الأنظار صُدفةً معه، فإذا بالصبي مبهوت.
وكان صوتها قد وصل إليه رغم البعد، فارتبك.
“ذاك… لما؟”
“مولاتي، ذاك الفتى هو…”
“لمَ؟”
“إنما هو…”
فتلعثموا، فالعداء الذي يكنّه لها معلوم لديهم. أما هي، فكانت تجهل السبب.
فاقتربت، وكان كلما دنت ازدادت كراهية ووجهه انكماشاً، حتى خُيّل إليها أن سيصفعها لو تقدمت أكثر. فآثرت التوقف على مسافة تحفظها.
“مرحبا!”
“…أحيي قمر الأمبراطورية الأميرة إيليا.”
أدّى التحية ثانية، مؤدباً رغم جفائه.
فابتسمت إليّ وقالت:
“فلنشرب الشاي معاً!”
وهي تحاول أن ترسم البِشر، إذ لا يُردّ على البشاشة بالقسوة…
“……”
لكن يبدو أنه قد يردّ كذلك.
كان ينظر إليها نظرة كالسهم، حتى آلمها قلبها، فلم تُقابل مثلها قط.
وما إن همّت بالتراجع إذ تذكرت: ‘ما وقع قد وقع.’
فقالت بإصرار:
“إني أريد صحبتك في شرب الشاي.”
“……”
فلم يجب.
“…أفلا يجوز؟”
وأرادت أن تُظهر استعدادها للقبول بالرفض.
فأطرق الصبي وقال ببرود:
“إن كان ذاك رغبة مولاتي.”
“……”
قالها بلهجة كأنها مرارة.
ولكنه وافق، وما دامت الفرصة، فلا بد من معرفة السر!
“هيا إذاً.”
فخطت بثبات، والصبي يتبعها على كره.
كانت تود أن يمشي بمحاذاتها ليحدثا، لكنه ظل خطوة وراءها، كمن يعلن البعد.
وهي تمشي، إذا بها تتوقف فجأة.
“…إلى أين نمضي؟”
فأجاب الخدم:
“إلى قاعة الشاي، أو إلى صالون ملحق بغرفتك، يا مولاتي.”
“أمم… إلى غرفتي، نعم، هيا بنا. لا بأس، أليس كذلك؟”
“نعم.”
ردّ باقتضاب، وسار خلفها، وملامحه تصرخ: ‘أبغض هذا!’
‘آه، العلاقات بين الناس… أمر عسير…’
وزفرت إليّ زفرة طويلة، وهي طفلة لم تتجاوز السابعة.
—
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"