4
بدأ رأسها يصفو رويدًا رويدًا، فإذا بالدموع المتدفقة تنحسر كأنها لم تكن.
“يا أميرة، آن أوان الوداع الأخير، فلا بدّ من إرسالهما.”
إذ رأت السيدة لافال أن إيليا قد أطالت التحديق في جثماني الملك والملكة دون أن تنطق، دنَت منها وقالت في رفق.
“…نعم.”
لم يكن في وسعها أن تصرخ قائلة: ‘إنها جريمة!’
فلمّا لم يتبيّن لها بعدُ حال القصر، ولا ما ينبغي عليها صنعه في القادم من الأيام، خشيت إن هي صرخت على عجل أن ينهض المجرم فيبطش بها.
‘لا بد من التروي في التحري.’
فلعل القاتل يختبئ هنا بين هؤلاء الناس.
وما جهلته الأميرة إيليا لم يكن لإلي أن تعرفه هي الأخرى.
فقد يظهر قوم في هيئة الموالين، وهم في حقيقة أمرهم أعداء كامنون.
فكفّت عن المجاهرة، واكتفت أن تحفر بعينيها صورة الجراح، ثم أدّت وداعها الأخير قائلة:
“سأعيش بدلًا منك حياة جادّة، وأجعل من هذا البلد بلدًا صالحًا.”
بدلًا عن الأميرة إيليا.
“سأغدو ملكة عظيمة حقًّا. سأشيّد بلادًا يسعد بها الجميع. لن أبكي عبثًا، ولن أطلب المحال، ولن أنتقي الطعام، وسأجتهد في دراستي.”
وإن كان غايتي أن أبقى حيّة حتى يأتي أخي فيأخذني، فلا يعني ذلك أن أدخر جهدا يمنعني أن أصنع لهذه المملكة مستقبلًا حسنًا.
إلى أن تعود الأميرة إيليا حقًّا.
ختمت إيليا عزمها بدعاء، وتراجعت عن النعش.
فأحاط به فرسان المملكة يؤدّون التحية، فإذا بصوت اصطكاك الدروع يتردّد في القاعة.
وشرع جوق التراتيل ينشدون.
فغمر المأتم لحنٌ مهيب بألفاظٍ من لسان القدماء.
تراجعت إيليا بضع خطوات تنتظر انقضاء الطقوس.
“آه…”
“مولاي!”
وانفجرت بعض الصدور بالبكاء.
غير أن إيليا، وقد اختلطت في رأسها الخواطر، نسيت البكاء ذاته.
‘أيّ الناس من بينهم يكون؟’
عادت تمسح الوجوه واحدًا واحدًا بعينين متفحّصتين.
فما لبث بصرها أن وقف عند موضع بعينه.
‘ها؟’
إنه الفتى الذي التقت عيناها به لحظة وجيزة آنفًا، فإذا به الآن يحدّق بها.
لكن قبل أن يتقاطع النظر مرة أخرى، حاد ببصره سريعًا.
‘أعرض عني؟!’
نظرة حادّة، ثم تجاهل صارخ.
‘لِمَ يا ترى!’
في ذكريات الأميرة إليا لم يكن من مثل هذا المشهد شيء.
بل لم يكن ثَمَّ أحد قط يضمر لها الكراهية.
فالكل كانوا يتزاحمون حولها هاتفين: “الأميرة! الأميرة!”
أما ذلك الفتى، فبرودته لم يكن فيها أدنى ميل.
إنها كراهية متجذّرة لا شك.
‘ماذا فعلتِ يا أميرة؟!’
بل إن الأميرة إيليا لم تدرِ بأمره، ولم تشعر به قط.
فيا للعجب! أيُّ بغضاء هذه!
‘مولاتي… لقد كنتِ حقًّا غافلة عن الناس.’
كان ذاك عيبًا فادحًا.
أحسّت إيليا بثقله في صدرها.
غير أنّ الأوان لم يفت بعد للإصلاح.
فإن وقع الذنب فالاعتذار، ثم التوبة، ثم الإحسان فيما بعد كفيل بإصلاحه.
ثم إن الفتى الوحيد بين الجمع كان من سنّها، دون سائر الرجال والنساء. وكانت تشتهي لو تبني وُدًّا معه.
‘لو التقت عيوننا مرارًا، ربما تولدت بيننا الألفة ولو قليلا.’
لكن من بعد تلك اللحظة لم يرفع الفتى عينه إليها مرّة أخرى.
‘آه…’
لقد سُدَّ الباب في وجهها.
وكأنما أنذرها ألّا تحاول ثانية.
غير أنّ قلبها لم يطاوعها على الكفّ. فظلّت تسرق النظر إليه.
ولمّا أعرض عنها، أُتيح لها أن تُمعن في ملامحه أكثر.
كان الفتى جميلاً في سيمائه، ملامحه رقيقة على غير ما يُعرف في الأطفال.
أقصر قامةً من الرجال، غير أنّه أطول من أقرانه.
بشرته بيضاء، وشعره بلون الذهب المشرق، يتناغم تماما مع بشرته.
م. أطالب بحقوق الحنطيين والسود!
أما عيناه، فظلّتا في الغالب مغمضتين أو محنيّتين، فلم تستطع أن ترى لونهما.
‘أي لون يكون؟’
اشتدّت رغبتها في معرفة لون عينيه.
فلمّا تلاقت النظرات قليلًا من قبل لم تحسن النظر، والمسافة بينهما بعيدة، فحال دونها أن تتيقّن.
—
وبينما كانت إيليا مشغولة بتأمّل ملامح الغلام، إذا بالطقوس قد انقضت.
فحُمل جثمان الملكين إلى مدفن الأجداد في سراديب المعبد العظيم.
ولم يكن على إيليا أن تمضي معهم.
فلمّا أُغلق غطاء التابوت البلوري، وحُمل على الأكتاف إلى باطن الأرض، انقضت المراسيم.
“لقد أحسنتِ مولاتي.”
“لقد تجرّدتِ من الجزع كالكبار.”
“لا بدّ أن الأمر أثقلكِ، بوركتِ.”
فما إن انتهى المأتم حتى تدافع القوم نحوها.
وكان فيهم وجوه لم ترها إلا تلك الساعة.
فلما رأتهم بعين المتحفّظ، زادوا تودّدًا.
“هلا تذوقتِ كعكة حلوة وكأس كاكاو؟”
“لو ذقتِ فطيرة فاكهة لانشرح صدركِ.”
وكانت تلك الأطعمة تُغريها غاية الإغراء.
فاسمها وحده يحلي اللسان، فكيف بطعمها في الفم ذائبًا كالعسل؟
وما إن جاشت بها الخواطر حتى دوّى صوت أخيها في رأسها:
‘الحلو يفسد الأسنان!’
لم يكن يأذن لها من الحلوى إلا بقطعة صغيرة عقب الطعام.
وهذه الساعة ليست عقب طعام.
“لا، لا أريد…”
انطلقت الكلمة من لسانها ارتدادًا.
فقد أثمرت تربية الأخ.
“فالشوكولاتة إذن؟”
“أو فاكهة مغمورة بالعسل؟”
وليس في الطعام الداء، إنما في كثرة الإلحاح!
تعلّقوا بها تعلّقًا شديدًا.
وكانت صغيرة، يعسر عليها أن تتخلص من غوايتهم.
لكنها أطاعت وصية أخيها:
‘إذا فسدت الأسنان، فلن تأكلي شيئًا، فتموتين جوعًا.’
لا، ذلك ما لا يُحتمل.
كانت تشتهيهم شهوة عظيمة، لكن الموت جوعًا أشد رهبة.
وكانت غايتها أن تبقى حيّة إلى أن يجيء أخوها.
“لا! لا أريد! لا أريد أن أموت!”
“…ما هذا؟”
وإذا بالقاعة تصدح بصوت الأميرة، تصرخ: “لا أريد أن أموت!”
فسقط صمت ثقيل على المكان.
حتى الذين همّوا بالرحيل توقّفوا عن الخطو.
“مولاتي! ما بكِ؟!”
“الأميرة تصرخ أنها لا تريد الموت!”
“احموا الأميرة!”
وأقبل الحرّاس بعيون متقدة.
“ابتعدوا عن سموها!”
وكان أشدهم حزمًا فتاة قصيرة الشعر بلون البُني، فوضعت جسدها حاجزًا أمام إيليا.
“هل أنت بخير، مولاتي؟”
جثت على ركبتيها تحدّق فيها.
“آه، نعم…”
لكنها لم تُحسن جوابًا، إذ باغتها الموقف.
فما لبثت الحارسة أن حملتها بين ذراعيها قائلة:
“سأنقلكِ إلى موضع آمن.”
“آه؟ أأه؟”
لم تملك إلا أن تُحمل كدمية صغيرة.
‘أهو اختطاف؟!’
لكن لما رأت بقية الحرس يهرعون خلفها، علمت أنه ليس كذلك.
وكان بين قاعة المأتم وغرفتها مسافة بعيدة، فلم تمضِ بها بعيدًا، بل أدخلتها غرفة قريبة.
“شدّدوا الحراسة، وأغلقوا أبواب القصر، وحققوا مع كل من كان حاضرًا.”
“حاضر!”
فانطلق الجنود على الفور.
وكانت تأمرهم بوجه جاد، فبدت في نظر إليا مهيبة بديعة.
‘واو…’
كادت تهيم بها إعجابًا.
إنها… إنها الحارسة الكبرى.
تذكرت.
لم تحتج إلى الاسم لتعرف.
إنها القائدة التي كانت قد ضحّت بنفسها تحمي الأميرة من يد قاتل.
‘إنها من خاصّتي!’
كانت قد ذهبت ضحية، فلم يبق بعد ذلك من يحمي الأميرة بذلك الإخلاص.
ندمت إيليا أشد الندم يومًا بعد يوم.
وكانت كلما عانت في البراري بلا نصير، همست باسمها.
واسمها… نعم، ليلكيا.
“أيتها القائدة، الأميرة لا تزال مضطربة جسدًا ونفسًا إثر الحادثة الأخيرة، فهكذا تصرفك لا يُحتمل!”
دخلت السيدة لافال غاضبةً توبّخ الحارسة.
لكن ليلكيا لم ترمش عينها.
“إنما فعلت ما يمليه الحرص على سلامتها.”
“وما الخطر في دعوتها إلى بعض الحلوى؟”
“لقد استشعرت سموّها تهديدًا لحياتها.”
“أما أسلوبك المفاجئ فهو الخطر الأكبر!”
‘آه! الكبار يتشاجرون!’
ارتبكت إيليا بينهما.
كيف يتخاصمان وهما يريدان خيرها؟
“أيها السيدتان!”
صرخت إيليا مقاطعة.
“نعم يا مولاتي.”
“نعم، سيدتي الصغيرة.”
فأطبق الخصام في لحظة، والتفت كلتاهما إلى الأميرة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"