3
فشعرت أن وراء ذلك شيئاً غامضاً.
‘ليتني أستطيع التحقق منه.’
لكنها آثرت الصبر، فالأولى أن تؤدي مراسم الجنازة على وجهها.
فمشت الهوينا بين الصفوف، تضع في قلبها وجوه القوم لتذكرهم فيما بعد، لعل فيهم من يكون عوناً لها.
وكان بعضهم إذا لاقت عيناه عينيها أومأ برأسه أو ابتسم ابتسامة خفيفة.
حتى انتهت إلى حيث وقف الفرسان بلباس المراسم، يحرسون تابوتين في الوسط.
فقالوا: “تفضلي بوداع الملك والملكة للمرة الأخيرة.”
فاقتربت إيلي، وقلبها مضطرب، ونظرت إلى جسدي الملك والملكة وهما مسجيان بين الأزهار كأنهما نائمان.
‘أشعر بشيء غريب…’
وهي لم ترهما من قبل إلا في صفحات الكتاب، فإذا بها وجهاً لوجه أمامهما.
وتذكرت الحكاية: كيف انقلبت بهما العربة في المنحدر، فاحتضنا ابنتهما يحميانها، وخرجا من الدنيا لتخرج هي سالمة بغير خدش.
وذكرت كيف بكت يوم قرأت تلك القصة حتى غلبها النوم في حضن أخيها.
فأمسكت عبرتها، لكنها فجأة رأت ما لم يخطر لها: جرحاً على وجهي الملكين.
وكان مطليّاً بالأصباغ ليخفى، لكنه باقٍ للعين الفاحصة.
‘هذا أثر سحر!؟’
فتحدقت أكثر، فإذا الجرح غير عادي، بل جرحٌ من صنع سحر.
وقد عرفت ذلك لفرط ما رأته في أخيها حين تجرّب وفشلت تجاربه.
وكانت الجروح السحرية مختلفة عن الجراح الطبيعية اختلاف السواد عن البياض. لا سبيل إلى الاشتباه فيها.
‘لكن… لقد قيل إنهما ماتا في سقوط العربة، فمن أين جاء أثر السحر؟’
فهبط البرد على قلبها: ‘ألعلّ موتهما لم يكن قضاءً بل قتلاً متعمداً؟’
وإن صحّ ذلك، فمعنى الأمر أن أحدهم أراد القضاء على الملكين.
‘أفيمكن أن يكون خلع الأميرة عن العرش بعد ذلك جزءاً من هذه المؤامرة؟’
فذكرت إيلي روايات التحري التي كانت تقرؤها مع أخيها: حيث كلّ حادثةٍ تُوصل إلى أخرى بخيوط خفيّة.
‘فلعلّ الأميرة لم تُعزل لأنّها عاشت في لهوٍ وكسل، بل لأنّ مؤامرةً كانت تدبّر في الخفاء!’ابتداءً من الآن سأدبّر أمري بنفسي!”
“نَعم؟”
“هل سبّبنا لكِ يا مولاتي شيئاً من الضيق؟”
ضيقٌ كان حقّاً!
لكن لو صرّحتُ بذلك لاغتمّت الوصيفات.
فهزّت إيلي رأسها نافياً، ثم صاحت مرة أخرى بصوتٍ عالٍ:
“من الآن فصاعداً سأفعل كل شيءٍ وحدي!”
فكذلك تُنشَأ الفتاة تنشئةً صالحةً راسخة!
قالت إحدى الوصائف مترددة: “ولكن… هكذا بغتةً؟”
فأجابت إيلي بحزم: “الطفل ينمو فجأةً هكذا!”
واقتبست قولاً من كتاب تربية الأطفال الذي كان أخوها يطالعه بجدّ:
“هكذا ورد!”
لكن أن تخرج هذه الكلمة على لسان الطفلة نفسها فذلك عجيب!
ونظرَت الوصيفات بعضهنّ إلى بعض، ثم رمقنَ السيدة رافال، فهي المرجع فيما يخصّ شؤون الأميرة.
ورغم أن رافال اضطربت من تبدّل حال الأميرة، إلا أنها أومأت قائلةً:
“إن كانت رغبةُ الأميرة كذلك، فلْيكن. فإن عجزتِ في وقتٍ ما، أعناكِ.”
“سمعاً وطاعة.”
فابتهجت إيلي في نفسها: ‘ها قد خطوتُ خطوةً على طريق الاستقلال!’
ومضت بخطى واثقة إلى الحمّام.
فأما زينة الصباح، فقد رأت أنها قادرة على تدبيرها وحدها، إذ هي أمور تتكرر في كل يوم.
فقالت وصيفة بدهشة: “يا للعجب! الأميرة تغسل وجهها بنفسها!”
وقالت أخرى: “وما أعجب هذا! إن مولاتنا تنظّف أسنانها وحدها إتقاناً لا مزيد عليه!”
وقد كنّ يحدّقن فيها مأخوذات وهي تغسل وجهها بمهارة، وتفرش أسنانها بعناية، ثم تدهن الكريم على بشرتها باتقان.
فوقفت إيلي واجمة: ‘هذا غريب… غريبٌ جداً. أأمرٌ كهذا يستوجب الثناء؟’
فأما الأميرة إيليا فلم تكن لتقدر أن تمسّ حتى أنفها بغير مساعدة، وأما إيلي فقد نشّأها أخوها على الاعتماد على النفس.
وكان إذا رأى أختَه تفعل شيئاً بنفسها قال: “قد كبرتِ، فمن الطبيعي أن تعرفي كيف تفعلينه.”
فاستغربت إيلي مدائحهن، ورأتها مدائح في غير موضعها.
قالت وصيفة: “والآن يجب أن نذهب لتبديل الملابس. من هذا الطريق، مولاتي.”
واقترنت كلماتها بخفقان في صدر إيلي، إذ قد أزف الوقت لترى بعينيها صورة الأميرة إيليا.
فما في الكتب عنها سوى ذكر طول شعرها وقصّه وربطه، ونموّها المفاجئ. ولم يكن ثمّ وصف دقيق لملامحها.
فكانت إيلي دوماً تنسج في خيالها صورةً للأميرة.
‘فيا تُرى، كيف تكون الأميرة الحقيقية؟’
وقفت أمام المرآة مزيجاً من الترقب والوجل، ثم شهقت: ‘هاه!؟’
إذ ما ظهر لها في المرآة لم يكن صورة الأميرة، بل صورتها هي إيلي!
‘ولكن كيف!؟’
فرأت في الزجاج شعرها الوردي المتموّج الطويل، الذي يصطبغ أطرافه بلمعة بنفسجية، وعينيها البنفسجيتين المتسعتين دهشةً، وكلّها ملامحها الأصلية.
فقالت للوصيفة بارتباك: “قولي لي، أما أبدو كالأميرة إيليا؟”
فقالت الوصيفات حائرات: “بلى، سيدتي، بالطبع!”
“ألستُ أشبه شخصاً آخر؟”
“مهما نظرنا، فما نرى إلا الأميرة.”
“وشَعري… أهو وردي؟”
“نعم، ورديّ تصطبغ أطرافه بنفسجية.”
“وعيناي ما لونهما؟”
“بنفسجيتان يا سيدتي.”
وكان جوابهنّ مطابقاً لما تراه في المرآة.
فتحيّرت إيلي: ‘ما معنى هذا؟’
إنّ انتقال الروح إلى جسدٍ في الكتب إنما يكون بالسحر، فهل هذا كذلك؟
فلعلّ الوصف الذي خلا منه الكتاب قد ملأه السحر على نحوٍ يوافق هيئة إيلي نفسها.
وإذ نظرت إلى صورتها في المرآة، شعرت كأنها لم تستعر حياة الأميرة، بل بدأت حياتها الخاصة الجديدة.
فهبّت في صدرها عزيمة وحماسة: ‘حسناً! ما دمتُ هنا، فسأعيش حياة الأميرة عيشاً يليق حتى يعود أخي إليّ!’
فهزّت رأسها أمام المرآة بإصرار.
ارتدت إيلي ثياب الحداد، وسارت مستسلمة لأيدي الوصائف يقُدنها إلى الخارج.
“مولاتي، من هذا الطريق.”
وكانت أول أمرها ثابتة القلب، غير أنّها كلما تقدمت في الرواق الطويل نحو قاعة الجنازة، ازداد ثقل قلبها وخطواتها.
فهذا أول مأتم تحضره في حياتها.
ومهما كانت تعرف القصة من الكتاب، فهي ما تزال طفلة في السابعة.
‘لا بأس، سأتمالك نفسي.’
وشدّت على صدرها، ثم وصلت إلى باب القاعة.
فانفتحت الأبواب الهائلة المذهلة في ارتفاعها، وإذا الحضور فيها أضعاف من كان في الممر.
كلّ العيون انعطفت نحوها في لحظة.
‘واو…!’
لم تعهد من قبل نظرات هذا الجمع العظيم كلّه مسلّطاً عليها.
ورغم الارتجاف رفعت ذقنها في إباء. ‘ستتكرر هذه الحال كثيراً، فينبغي أن أعتادها من الآن.’
وانتظرها الناس مطأطئي الرؤوس.
ولولا ما قرأت في الكتاب، لارتبكت، لكنها قالت بصوت طفوليّ حازم: “ارفَعوا رؤوسكم.”
فرفعوا أعينهم بأسرع ما يكون، إذ كان ذلك إعلان دخول الأميرة إيليا.
فابتهجت إيلي في سرّها: ‘لقد استطعت أن أحركهم بأمر واحد! يا أخي، إنني أفعل حسناً!’
وبينما تقيس نفسها بالنجاح، أحسّت فجأة بنظرة لاذعة تخترقها.
‘مَن؟’
فإذا هو صبي ذو شعر ذهبي كالشمس.
‘من هذا؟’
ولم يكن في نظراته وُدّ، بل عداوة متقدة، عجيبة أن توجَّه لطفلة في السابعة.
‘هل فاتني ذكره في القصة؟ لا… لم يأتِ ذكرُ صبيٍّ كهذا أبداً.’
‘أتراها ضغينة قديمة؟’
تذكرت مثلاً: ‘الضارب ينسى، وأما المضروب فلا ينسى أبداً.’
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"