الفصل 37
… يا للعجب ، هل بذلتَ جُهدًا منذٌ ولادتِكَ ؟
حتى وأنا أفكر بِهذهِ الطريقة ، لم أستطع إيقاف شعوري بِالصغر اللامُتناهي أمامَ ” جيلبرت كونِلر “ كان الأمر كما لو أنَ قلبيّ وعقليّ لا يملِكان خيارًا سِوى الانكِماش أمامه .
” لم أعرف يومًا لحظة راحة مِن الضغط الذي يحملهُ إسم كونِلر ، قضيتُ الليالي ساهرًا وأنا أدرُس ، حريصًا دائمًا على ألا أُلحق العار بِمجد العائلة .. فهكذا كنتُ دائمًا “
” ….. “
” أُريد أن أسألكِ يا ماري كونِلر ، هل تملكين مِثلَ هذا الشعور في قلبكِ ؟”
ربما الآن فهمتُ لماذا كانت ماري تُلقب بـِ” الآنسة المُزعجة “ في الرواية .
بل لأن تصرُفاتُها لم تكُن تليّق بِمكانة عائلة كونِلر . وهذا لم يكُن إهانة للعائلة فحسب ، بل خُدعة لِكُل من يُحِبُها ويعشقُها .
وأنا التي وُلدتُ من جديد في جسَّدِ ” ماري كونِلر “ وجدتُ نفسيّ عاجزةٍ عن الإجابة بِسهولة عن مدى حُبيّ لهذهِ العائلة .
هل كنتُ أرى عائلة كونِلر مُجردَ محطة عابِرة في حياتيّ ؟
يبدو أن ” جيلبرت “ قرأ شيئًا في تعابير وجهيّ ، فأطلقَ تنهيدة عميّقة .
” عائلة كونِلر هيَ الآن العائلة الرائدة في إمبراطورية بريتينا ، التي تمتلِكُ قوةٍ لا تقِل عن العائلة الإمبراطورية ، وتتبعُها العديد مِن العائلات التابعة و المُخلصة . وفي أراضيّنا ، يعيش عدد لا يُحصى مِن الرعايا “
” …… “
” مِن أجلِهم ، يجب عليّنا ، نحن آلـ كونِلر أن نَنمو بِامتياز … كما فعلَ والدنا الدوق الأكبر ” إستين “
ما الذي يعنيه الدوق الأكبر ” إستين “ بِالنسبةِ لجيلبرت ؟
” وهذا ينطبق أيضًا على إخوتي الصِغار الذينَ يدرُسون في الأكاديمية الإمبراطورية “
و فجأةٍ ، شعرتُ بألم حاد في قلبيّ .
كلمة ” إخوتي ” التي قالها بدت وكأنها لا تشمِلُنيّ . كانَ الضرر عليّ أكبرَ مِما توقعت .
حتى الآن ، كنتُ أُعامل كجزء مِن عائلة كونِلر بِسبب لون شعري وعينيّ ، وقد قبلتُ ذلِكَ كأمر مُسلم بِه .
لم أتوقع أن أسمعَ كلامًا كهذا ، فغرقتُ في شعوريّ بِالصدمة .
تذكرتُ قصة ” البطة القبيحة ” ربما كنتُ أنا تِلك البطة القبيحة ، بينما هُم البجعات الراقيات . بين تُلك البجعات الأنيقة ، كنتُ أُكافح وحديّ كبطة قبيحة .
كانت البطة تحسُد البجعات بِشكل غامض على أناقتهُن ورفعتُهن الطبيعية ، مُعتقدةٍ أنها لا تستطيع أمتلاك ذلك ، ومُلقية اللوم على القَدر .
لكنها لم تعرِف أبدًا مِقدار الجُهد الذي تبذله البجعات تحتَ سطح الماء بِركلات أقدامِها .
رفعَ ” جيلبرت ” كِتابه الذي كانَ يقرأهُ وغادر الغُرفة تاركًا إيايّ مُنزلةٍ رأسيّ .
“… هل أنتِ بِخير ؟”
همس صوت صغير كشيء يُشبه صوت العصفور في أُذنيّ .
حاولتُ طمأنة “ريفِرس”، لكن كُل ما استطعتُ فعلهُ هوَ رسم إبتسامة صغيرة . جلستُ بِبطء ، مُمسكة بِالكتاب وفتحتهُ .
كان الكتاب الذي قرأتهُ سابقًا عن الأشباح .
كانَ هُناك شبح يبكي أمام طِفل الذي يُحاول طرده مِن القصر خوفًا مِنه ، قائلاً : ” كما تخافونَ الظلام ، أنا أخاف الضوء “.
وضعتُ ذقنيّ على الطاوِلة ، مُحدِقة في تِلكَ الجُملة .
” عِندما قرأتُها أولَ مرة ، ظننتُ أنَ الشبح كانَ مُثيرًا لِلشفقة …”
جلسَ ريفِرس بِجانبيّ بِحذر ، ونظرَ إلى الكِتاب المُصور الذي كنتُ أقرأهُ ، ثُمَ ابتسمَ إبتسامة حزينة .
قصة الشَبح الذي يخاف الضوء كما يخافُ البشر الظلام .
بينما كنتُ أعبث بِالكِتاب ، شعرتُ بيد حذِرة تُربت على رأسيّ .
التفتُ ، فوجدتُ ريفِرس بِعينيّن مغرورقتيّن بِالدموع لكن شفتيه كانتَ تبتَسم .
” كانت أُمي تفعلُ هذا عِندما أشعرُ بِالضيق “
” هل أبدو حَزينة ؟”
“… أجل “
لم يكُن لديّ مرآة لأرى مدى حُزني ، لكن يد ريفِرس كانت دافِئة ولطيفة كأشعة الشَمس .
شعرتُ بأنَ قلبيّ يهدأُ قليلاً . رُبما كانَ يُحاول تقليدَ يديّ أُمه قدرَ استطاعتهِ . تخيلتُ مدى لُطف والدته مِن خلالِ ذَلك .
وأُمي … كيفَ كانت ؟ سواء عِندما كنتُ ” ها سو هي “ أو ” هيلينا “ أردتُ أن أعرف .
رُبما كنتُ أشتاق إلى ” هيلينا “ أكثر .
قالت بونيتا إنها كانت لطيفة ، لكن عدم تذكُري لِلمستِها جعلنيّ أشعرُ بِالظُلم . اشتقتُ إلى شعرِ أُمي الأحمر الذي لم أرهُ قط .
قررتُ التنزُه مع ريفِرس في الحديقة لتغييّر مزاجيّ .
قال إن الزهور الجميلة والمُلونة ستجعلُنيّ سعيدة بِمجرد رؤيتُها .
” كيفَ أصبحَ هذا الفتى الشرير في القِصة ؟”
كُلما نظرتُ إليه ، أشعرُ بِالصدمة مِن جديد .
كيفَ يُمكن لشخص يسعدُ بِرؤية الزهور أن يُصبِح شريرًا ؟ ابتسامتهُ البراقة وهوَ ينظُر إليّ كانت لطيفة جدًّا .
رُبما أنا ضعيفة أمامَ الشعرِ الأشقر .
تُرى ، كيفَ حال أستينا ؟
بينما كُنا نسير في مَمر الحديقة ، لاحظنا ضجة أمامَ بوابة القَصر .
كانت هُناك عَربة فاخِرة مُتوقِفة ، وكانَ ” ألبرتو “ ، كبير خدم كونِلر ، و” بونيتا “ يُحاولان تهدئة شخص ما ، رُبما الزائر الذي جاءَ بِالعربة . كانَ ظهرهُ يوحيّ بِغضب شديّد .
” ما الذي يحدُث ؟”
تبادلتُ النظرات مع ريفِرس ، ثُمَ اقتربنا .
كانَ الرجُل الغريب يتجادل مع ألبرتو .
رأتنيّ بونيتا ، فبدت مُتفاجئة ، وأشارت بِرأسِها كأنها تقول ” ابتعِدا “.
” ريفِرس ، لِنذهب .”
أومأ ريفِرس موافِقًا على المُغادرة ، لكن قبلَ أن نتحرك ، سمعتُ صوتًا .
” ها أنتُما !”
تقدمَ نحونا رجل عجوز بِخطوات ثقيلة .
لم أُرد الالتِفات ، لكننيّ اضطررتُ .
كانَ وجههُ مليئًا بِالتجاعيد ، وانطباعيّ الأول عنه لم يكُن جيدًا .
” هذهِ الفتاة الصغيرة هيَ إبنة كونِلر الصُغرى !”
“… مرحبًا “
رحبَ بي بِحماس ، فأجبتهُ بإيماءة خفيفة ، مُتأثرةٍ بِتربيتيّ في بلد يحترمُ التقاليد .
لكن نظراتهُ التي تفحصتنيّ مِن رأسيّ إلى أخمصِ قدمايّ جعلتنيّ أشعُر و كأنَ حشرةٍ تزحفُ على جسديّ .
حتى نظرات جيلبرت لم تكُن بِهذا السوء .
” البارون ، سيّد القلعة غير موجود حاليًا “
وقفَ ألبرتو أماميّ وأمامَ ريفِرس ، مُتحدثًا بِصوت حازم .
كانَ ألبرتو شخصًا حذِرًا ومُجتهِدًا و لا يتدخلُ عادةً ، مِما يعنيّ أنَ هذا الرجُل قد يكون خطِرًا .
ابتسمتُ إبتسامة بارِدة .
كانت عائلة كونِلر النبيلة الأولى في إمبراطورية بريتينا ، قوية بما يكفيّ لتهديدِ العرش .
كان الإمبراطور يخشاها ويستغلُها في آنٍّ واحِد .
كثير مِن العائلات تخضعُ لهم ، لكن البعض يُحاول مُنافستهم أو التقليّل مِن شأنِهم .
إذا كانت ذاكرتيّ تَتذكروا جيّدًا ، فإن عائلة ” برونو “ كانت واحِدة مِن تِلك العائلات التابعة لِـ كونِلر .
أمسكتُ بِمُعصم ريفِرس بِقوة ، لأن نظرات ذلِكَ الرجُل السيّئة انتقلت إليه .
” أنتَ ريفِرس بِالُوس “
نظر َ” البارون برونو “ إلى ” ريفِرس ” بِبرود .
لم ينتبه ريفِرس لِشر الذي في عينيّة ، لكننيّ رأيتهُ بِوضوح فقد كأنَ : الطمّع .
في القِصة ، كان ” ميلر برونو “، رئيّس عائلة برونو ، يُحاول إضعاف كونِلر ليحصُل على لقب الدوق ، ويدفع بِابنته ” صوفيا “ لتُصبِح زوجة ولي العهد ، مُعاديًا ” أستينا “.
لكن قوتُهم لم تكُن كافية ، فاستخدموا ” ريفِرس “.
“حتى لو كنتَ مِن أصحابِ القُدرات العظيّمة ، فماذا بعد ؟”
” ….. “
” أيُها التافه و الوضيّع … بِنصفي دم “
” ……. “
” مِن المؤسف أن ترى نفسّكَ كـ كونِلر حقيقيّ ، أليسَ كذلِك ؟ مهما كانت قدُراتُك “
كانَ الأمر واضِحًا فهوَ يُريد أن يُحطم ثقة ” ريفِرس “ بِنفسه تدريجيًا ، زارع فيهِ الكراهية بإتجاهِ كونِلر .
كما أزعجنيّ استخدامهُ لِلغة غير رسميّة معيّ ، فأنا إبنة العائلته التي يتبِعُها ، مِما يُظهر مدى ضُعف مكانتيّ .
حاولَ أيضًا بِذكاء أن يُفرق بينيّ وبينَ ريفِرس شعرتُ بِيد ريفِرس ترتخيّ في يديّ .
” لا ، ليسَ كذلِك “
“… ماذا ؟”
” قلتُ إنهُ ليسَ كذلِك “
أجبتُ وأنا أهُز كتفيّ . بدا ” برونو “ مُتفاجئًا مِن رديّ الغير رسميّ .
لم أكُن أتوقع أن أتحدثَ بِهذهِ الطريقة مع رجل عجوز كهذا ، فحتى أنا تفاجأتُ بِنفسيّ .
قِصـة البطة القبيحة :
قصة ” البطة القبيحة “ و” البجعات الأنيقات ” هي مِن الكاتب و الشاعر هانس كريستيان أندرسن عام 1843 ..
تدور حَول عَدم تقبل عائلة البطة القبيحة لها مِما يجعلُها تهرب وتعزل حُزننا لكن مع مرورِ الأيام تُقرر ان تتغير و تتقرب من البجعات فتُقبل بينهُن فقد كانت جميلة مُنذٌ البداية .
و الرسالة مِن هذهِ القِصة هيَ أن تُلهم الكثيرين ، و خاصةً الأطفال ، لتقدير أنفسهم وعدم الاستسلام للتنمر أو الشعور بالنقص الصبر والتحمل و الثقة بالنفسهم .
” أنتم تخافون من الظلام ، وأنا أخاف من النور “
هو شَبح الأوبرا ، الشخصية الرئيسية في رواية ” شبح الأوبرا “مِن الكاتب الفرنسي غاستون ليرو ونُشرت لأول مرة عام 1910 .
تَدور حول الموسيقي و والمُهندس المعماري إريك الذي وُلد بوجه مشوه ، مما جعله يعيش في الظل مُختبئًا للأسفل في دار الأوبرا في باريس .
كان يرتدي قناعًا ليُخفي تشوهه ، وكان يُثير الرعب بين العاملين في الأوبرا فيُعبر في هذهِ الجملة عن حزن شبح الأوبرا وعزلته ، فهوَ مخلوق عاش طوال حياته في الظلام ، لأنه لا يستطيع الظهور في النور دون أن يُقابل بالاشمئزاز والخوف مِن بقية البشر .
بينما يخاف البشر من المجهول الذي يحملهُ الظلام ، فهوَ يخشى هو النور لأنه يكشف وجهه المشوّه ، مما يجعلهُ منبوذًا من المجتمع .
عمــل عــلى الفصــل : 𝒻𝑒𝒻𝑒
التعليقات لهذا الفصل " 37"