الفصــ 36 ــل .
في الصباح ، ما إن فتحتُ عينيّ حتى وجدت بونيتا تقترب منيّ بِابتسامة ماكِرة ، تمُد يدها بِزُجاجة دواء صغيرة . كان السائل الأخضر الفاتح بِداخلِها يبدو مُرًا لِمُجرد النظر إليه، فانعكس ذلك على وجهيّ بِتُجهم لا إرادي .
” عليكِ أن تشْربيه ”
” ما هذا ؟”
” دواء يُساعِدُكِ على الهضم . مصنوع مِن عشبة الترالو ، لذا سيكون فعالًا جدًّا ، أعدُكِ بِذلك “
يبدو أنَ الأدوية في هذا العالم تستند إلى علمِ الأعشاب . وهذا يعني وبلا شك ، أنها مُرة للغاية .
شعرتُ بتجهمي يزداد ، و عِندما لاحظت بونيتا خوفيّ ، ضحِكت بِهدوء وهيَ تفتحُ الغِطاء ، ثُمَ قالت .
” لقد أحضرها السيد جيلبرت خصيصًا لكِ الليّلة الماضية “
… جيلبرت ؟
تفحصتُ الدواء الذي ناولتني إياهُ بونيتا بِعين مُتفاجئة . لم أكُن أتوقعُ أن يكون هوَ من جاء بِه إلى هُنا .
” يبدو أنهُ كانَ قلقًا عليكِ بِالأمس . بعدَ أن غفوتِ ، جاءَ حاملًا هذا الدواء “
ابتسمت بونيتا بِسعادة ، وكأنَ فِكرة أن جيلبرت منحنيّ هذا الدواء كانت تُسعِدُها أكثرَ منيّ .
حسنًا أنا مُمتنة أيضًا ، خاصةٍ أننيّ كنتُ أظن أنهُ يكرهُني ، لكن …
هل يجب حقًا أن أتناولَ شيئًا تفوح منهُ هذهِ الرائحة المُرة ؟
” أنا حقًا بِخير ، معِدتيّ لا تؤلِمُنيّ …”
” لكنكِ ستذهبين قريبًا لتناولِ الغداء ، ولا نعلمُ ماذا قد يحدُث . لتتناوليه احتياطًا “
” سمعتُ أن توم أعدّ الحلوى الخاصة للأنسة ماري اليوم ، لذا يجب أن تكوني جاهِزة للاستمتاعِ بِها !”
تحت إلحاحِ بونيتا ، أغمضتُ عينيّ بِقوة وتناولتُ الدواء دُفعةٍ واحِدة . كيفَ أرفُض وهي تنظُر إليّ بِعينين تتوسلان إليّ بِتحقيق أُمنيتها؟
ثُمَ إن جيلبرت قد تحملَ مشقة إحضارِها في مُنتصفِ الليّل ، فلا يُمكِنُني أن أتجاهلَ هذا الجُهد .
” اهه …”
تأوهتُ وأنا أعبِسُ مِن المرارةِ ، لكن فجأةً شعرتُ بِشيء يدخُل و يُدس في فميّ . تلاشى الطعم المُر تدريجيًا ، وحلَ محلهُ حلاوةٍ رقيّقة تملأُ فميّ .
” لم أكُن أود إعطاءكِ هذا قبلَ الطعام ، لكن الدواء كان مُرًا جدًّا ، فاستثنيتُ لكِ هذهِ المرةَ فقط .”
غمزت بونيتا بِعينها اليُسرى . كان ما وضعتهُ في فميّ قِطعة مِن شوكولاتة بوفي ، تِلكَ التي قالت إنها نادِرة وصعبة المنال للحصول عليها .
شعرتُ بِفرح غامر ، فاحتضنتُ خِصرها بِقوة .
***
” هاااه …”
تنفستُ بعُمق قبلَ أن أدخُلَ غُرفة الطعام . مررتُ أصابعيّ في شعري الذي رتبته بونيتا ليّ بِعناية لأعيد ترتيبة .
أحسستُ ولو قليلاً ، أن جيلبرت رُبما لا يكرهُني كما كنتُ أعتقد ، لكن نظرتهُ الباردة بالأمس ظلت عالقةٍ في عقليّ كشوكة مُزعِجة .
” لا أُريد الدخول ”
لكن إن لم أتناول الإفطار ، سيقلق توم وبونيتا كثيرًا …
ألقيتُ نظرة خاطِفة إلى الغُرفة ، فلم أرَ أحدًا بعد .
هل أدخُل ؟ أم أنَ أحدهم قد يكون مُختبئًا في الداخِل ؟ حاولتُ أن أتأكدَ بِحذر ، لكن فجأةً شعرتُ بِلمسة خفيفة على ظهريّ .
” آآآهههه !”
كانت لمسة رقيقة ، لكننيّ كنتُ في حالة مِن التوتر الشديد ، فصرختُ دون وعيّ وأنا أُغطي أُذنيّ وأجلسُ جلستَ القرفُصاء .
مهلاً ، لم أفعل شيئًا خاطئًا ، فلِماذا أُصبتُ بِهذا الهلع ؟ شعرتُ بِالحرج من نفسيّ ، وبينما كنتُ أتردد في رفعِ رأسيّ مِن الخجل ، سمعتُ صوتًا خافتًا مِن الأعلى .
” أُختي ، هل أنتِ بخير …؟”
“… ريفِرس ؟”
” أنا آسف جدًّا ، هل أفزعتُكِ كثيرًا ؟”
رفعت رأسي ببطء، فوجدتُ ريفِرس ينظرُ إليّ بتعبير يملؤهُ الأسف .
والآن فقط أدركتُ أن تِلكَ اللمسة الحذِرة كانت مِنه . لعلهُ رآنيّ مُترددة في الدخول فأرادَ تنبيهيّ . حسنًا فلا بأس .
” كم أنتِ طفولية منذُ الصباح ”
في اللحظة التي شعرتُ فيها بالارتياح لأنَ مَن لمسنيّ كانَ ريفِرس ، رأيتُ جيلبرت يقفُ خلفيّ ، وينظر إليّ بنظرات مليئة بالازدراء ، حتى شعرتُ لِلحظة أن الموت قد يكون خيارًا أفضل ليّ .
رُبما تكون حياتيّ القادمة أكثر رحمه …
” هل أنتِ بخير حقًا …؟”
كنتُ أعِض على شفتيّ مِن الصدمة ، لكن ريفِرس جثا أماميّ ، وكان صوتهُ يرتجف وكأنهُ على وشكِ البُكاء . تنهدتُ ، وقررتُ أن أبتسِمَ مِن أجلهِ على الأقل .
” نعم ، أنا بِخير ! لقد تفاجأتُ قليلاً فقط “
حاولتُ النهوض وأنا أرسمُ إبتسامة مُتكلفة ، لكن ساقيّ خانتانيّ .
بعد كُل هذا الذُعر ، لم أستطع الوقوف .
هل كنتِ حقًا بِهذا الضعُف، يا ماري كونِلر ؟ صُدِمت بِنفسي ، أنا التي كنتُ أقوى طفلة في ذلِكَ الملجأ فوقَ الجبل !
” هل أنتِ مُتأكدة مِن أنكِ بِخير ؟”
” أجل ، أجل ، أنا حقًا بِخير ”
كان ريفِرس لا يزال جاثيًا أماميّ ، وجهه يبدو وكأنهُ سيبكي بأي لحظة ، بينما كانت ساقايّ ترفضُان الاستجابة ليّ . كنتُ في مأزق حقيقيّ .
يقولون إن الحياة مأساةٌ مِن قريب وملهاةٌ مِن بعيد ، وها نحن أنا وريفِرس غارقان فيها ، بينما قد يرانا الآخرون مُضحكين .
“.. .ما الذي تفعلانه ؟”
بالطبع ، ستكون مِن وجهة نظر جيلبرت .
” أخي ، إنَ أُختي …!”
سمعتُ صوت ريفِرس المتوتر يرتجف ، فأغمضتُ عينيّ وحدقتُ في الأرض .
لماذا أنا هكذا؟ سمعتُ تنهيدة خافِتة مِن جيلبرت بالخلف . أجل ، فانأ أعلم أننيّ أبدو مُثيرة للشفقة في عينيّك …
كنت أشُد قبضتيّ و أُحاول أن أدعم نفسيّ بِالأرض ، أُريد أن أضربها لأُفرغ هذا الإحباط . رُبما عليّ أن أطلُب مِن بونيتا عُشبة لتقوية …
أو رُبما عشبة لتقتُلنيّ دون ألم ؟ وفجأةٍ ، شعرتُ بِجسمي يرتفع عن الأرض .
أليسَ هذا ما يسمونهُ ” حمل الأميرة “؟ ومن رفعنيّ لم يكُن سِوى … جيلبرت .
” ابقِ هادئة قليلاً .”
عِندما أدركتُ مِن يحملُني ، بدأتُ أتحرك بِعصبية ، لكنهُ حذرني بِصوت مُنخفض .
تجمدتُ في مكانيّ على الفور . لِحُسن الحظ ، كُنا أمام غُرفة الطعام مُباشرةٍ ، فلم يتطلب الأمر سِوى بِضع خطوات حتى وضعنيّ جيلبرت على الكرسيّ بِرفق .
“هل يُمكن أن أُسمي هذا حظًا …؟”
يا لهُ مِن صباحٍ محموم . جلسَ جيلبرت مُقابلي بعد أن أوصلني ، بينما اختار ريفِرس مقعدًا بِجانبي وهوَ يُراقبنا بِحذر .
***
إنتهى الإفطار وسط الصمّت المُتقطع بِصوت الأطباق فقط .
كعكة الشوكولاتة التي أعدها توم كانت رائعة حقًا . رُبما بِسبب القلق والتوتر منذُ الصباح ، شعرتُ أنَ طعام اليوم كانَ ألذ مِن المُعتاد .
يبدو أنَ توم وضعَ كميّة مُناسبة في طبقيّ ، فقد أفرغتهُ بِالكامِل ، مِما دفعَ بونيتا لترفعَ إبهامها ليّ بِخفة .
” يجب أن أُزيد الكميّة تدريجيًا حتى أتمكنَ مِن تناول الحصة الكامِلة في المرةِ القادمة !”
كنتُ أُخطط لِقضاء اليوم مع ريفِرس في قراءة الكُتب بِالمكتبة . اندفعتُ معه بِحماس ، و فتحتُ الباب بِقوة ، ثُمَ أغلقتهُ فورًا .
” ألن تدخُلي ؟”
نظرَ إليّ ريفِرس بِاستغراب ، فأجبتُ بِابتسامة مُترددة . هُناك شيء مُخيف بُالداخل ، لا أُريد الدخول …
لكن عينايّ التقت بِعينيه ، لذا يجب أن أدخُل ، أليس كذلك ؟ فلقد أعطانيّ دواءً بالأمس ، وحملنيّ اليوم ، رُبما هوَ لا يكرهُني فعلاً .
” أجل ، سأدخُل …”
قلتُ ذلِك ، لكن يديّ ظلت مُمسِكة بِالمقبض دونَ حراك . لاحظَ ريفِرس تردديّ ، فدفعنيّ بِرفق وفتحَ الباب بِنفسه .
” أخي جيلبرت ، هل أنتَ هُنا ؟”
كان جيلبرت داخِل المكتبة ، مُحاطًا بِأكوام مِن الكُتب ، ويقرأُ بِهدوء .
أضاءت الشمس و تبينت ملامِحُه ، فبدأ كلوحة فنيّة . اقتربَ ريفِرس مِنه بِفرح ونظرَ إلى الكتاب بين يديه .
” هل تقرأ هذا بِسبب مشروع استصلاح الأراضيّ ؟”
” أردتُ أن أكون مُستعدًا “
” بما أنَ المسافة بينَ الساحِل والقلعة كبيرة ، فأنتَ تُفكر في نقِل المواد ، أليس كذلك ؟”
” أنتَ ذكيّ جدًّا ، يا ريفِرس “
مدَ جيلبرت يدهُ بِلُطف ومسحَ على شعرِ ريفِرس الأشقر ، فابتسمَ ريفِرس بِخجل .
كانَ المشهد دافئًا للغاية ، لدرجة أننيّ تساءلتُ : هل يجب أن أنضمَ إليهِما حقًا ؟ عِندها بدأتُ أتراجعُ بِهدوء .
لو كُنت شخصية ذكية فعلاً ، لكنت انضممتُ إليهِما وتحدثتُ بِثقة ، لكن ماري ليست بطلة القصة ، ولا أملكُ معلومات كافية لأتألق هُنا .
“… أنتِ هُنا لتقرئي أيضًا ؟”
التفت جيلبرت نحويّ فجأة ، فأومأتُ بُرأسي بِصمت . كنتُ أُحاول الهربَ خِلسة ، لكن الآن الأمر لا مفرَ مِنه ، يجب أن أتظاهرَ بِاختيار كتاب .
اقتربت مِن الرفوف وحملتُ كتابًا للأطفال بِحذر .
” كِتاب قصص للأطفال ؟”
” أنا … لا زلتُ أتعلم اللُغة ”
” إبنة عائلة كونِلر المُباشِرة لم تُتقن اللُغة بعد ؟ ألم تبلغيّ التاسعة ؟”
بدت صدمة جيلبرت واضحة .
في المكان الذي نشأتُ فيه ، كانَ البقاء هوَ الأولوية ، والتعليم و الرفاهية لا نعرِفُها .
في ذلِكَ الملجأ الجبليّ ، لم يكُن هُناك كُتب ، فقط معارِك يومية .
شعرتُ بِالحنين فجأةٍ إلى أصدقائي هُناك ، ريو ، هل أنتَ بِخير ؟
” أُختي تدرسُ بِجد ، وعِندما يأتي المُعلِم الخاص وتبدأُ تعليمًا مُنظمًا ، ستتألق و تُصبِحَ كونِلر حقيقيّة ”
دافعَ ريفِرس عنيّ بِصوت مُرتجف لكنهُ كانَ قوي . لكن تعبير جيلبرت ظلَ مُتصلبًا ، كأن أمليّ الضئيل في أنهُ لا يكرهُنيّ قد تبخرَ فجأةٍ .
” لِتُصبِحَ كونِلر حقيقيّة ؟”
” ….. ”
” هل يكفي بِنسبةِ لكِ أن يكونَ لون شعرُكِ وعينيّكِ أسودين لتكوني كونِلر ؟”
” أخي …”
” ريفِرس ، ابتعد قليلاً. “
أسكتَ جيلبرت ريفِرس بِصوت حاد كالجليّد ، ولم أجد ما أقولهُ أنا أيضًا . لو لم أدخُل هُنا ، بل بقيتُ ألعب بِالكُرة في الخارج ، لكانَ ذلِكَ أفضل .
” لقد عملتُ لِخمسةَ عشرَ عامًا لأُصبِحَ كونِلر حقيقيًا “
عمــل عــلى الفصــل : 𝒻𝑒𝒻𝑒
التعليقات لهذا الفصل " 36"