الفصل 35
كلِمات جيلبرت البارِدة جمّدت جسديّ .
لو كانَ يوجِهُها ليّ وحدي لما اهتممتُ كثيرًا ، لكن شعوري بالضيق اشتد لأن بونيتا وهيَ أفضلُ خادمة ، قد تُقلّل قيمتُها بِسببيّ . يا لهُ مِن شاب مُتعجرِف !
أثار تعجرُفه عِنادي ، فأمسكتُ الشوكة مُجددًا وبدأتُ أُهاجِم طبَقيّ .
انتبهت بونيتا إليّ ، فاقتربت مِن ظهري وهمست ليّ بصوتٍ لا يسمعهُ أحد سواي .
” آنستي ، إن لم تستطيعيّ تناولَ المَزيد ، لا بأس أن تَترُكيه ”
هززتُ رأسيّ بِرفق وأنا أرفُض .
لم أكُن لأجعل بونيتا تُهان بسببيّ . بدأتُ أدفع الطعام إلى فَميّ رُغمًا عنيّ ، لكن الطعم الشَهي تلاشى تدريجيًا .
آه ، لا يزال ثُلث الطَبق أماميّ !
” اترُكيها . تناول كُل ما يُقدم لكِ مِن الطعام هوَ أحترامٌ للطاهيّ ”
حسنًا ، كلامهُ ليسَ خاطئًا .
كنتُ دائمًا أشعرُ بِالأسف كُلما تركتُ طعامًا ، و أقوم بِلأعتذارِ للطاهيّ بِنفسيّ .
تذكرتُ إبتسامتهُ الطيبة وهوَ يقول إنهُ يُبالغ في الكَمية دونَ قصد . كُل العاملين في عائلة كونِلر طيبون للغاية ، و لا يُمكن لومهُم .
لكن … نظرتهُ الحادة .
حسنًا فصاحب العمل هوَ المُشكِلة !
شعرتُ بتوتر بونيتا خلفي ، وهيَ التي تكرهُ أن أترُكَ طعامي وتقلق عليَّ أكثر مِن أي أحد . وهوَ ما زاد عزميّ على إنهاء الطَبق .
حتى ريفِرس كان ينظُر إليّ بِعينين قلقتين .
أنهيتُ اللحم والمقبلات ، ملأتُ معدتي حتى لم يعُد فيها مُتسعٌ للحلوى . شعرتُ بثقلٍ في بطني ، فضربتُ صدري بِخفة دونَ أن يلاحظ أحد .
” حلوى العشاء لليوم هيَ فطيرة التوت ”
خرجَ الطاهي ليضعَ الحلوى ، ورأى طبقيّ الفارغ فاتسعت عيناه دهشةً .
وضعَ يدهُ على كتفي لِلحظة ، ثُمَ تنهد بِعُمق .
” يبدو أن فطيرة التوت الخاصة بالآنسة بِها عيبٌ ما . فهذا تقصيرٌ منيّ ”
” كلا ، فلا بأس !”
” غدًا في الإفطار ، سأُعِد لكِ حلوى خاصة و كثيرة ”
أومأتُ بحماسٍ . يبدو أن بونيتا أخبرتهُ في المطبخ .
جيلبرت لم يُعلق ، واكتفى بِغرسِ شوكتهِ في فطيرته . بدت التوتات المغروسة في الكريمة شهيةً للغاية .
نظرتُ إلى بطني بِتذمُر . لماذا أنتِ صغيرة هكذا وتمنعينني مِن الحلوى ؟ انتهى الطعام ، وقمتُ بِحذر . آه ، مِن كثرة ما أكلتُ ، شعرتُ بألمٍ في ظهري !
” هل أنتِ بخير ؟”
في طريقي إلى غرفتي ، دلكت بونيتا ظهري بِلِطف وسألتني . ابتسمتُ لها بِرفق لأطمئنها ، وأومأتُ برأسي .
ساعدتني في غسل وجهي وارتداء ثياب النوم ، ثم رقدتُ على السرير فبدأت تمسحُ على شعري بِحنان .
شعرتُ بالذنب لأنني جعلتُها تبقى بِجانبي بسبب اضطراب معِدتي ، لكنها بدت أكثر أسفًا منيّ .
يا لها من حلقة مِن المشاعرِ المؤلِمة !
” سيعود الدوق الأكبر بعدَ غْد “
” اوه …”
” الساحل بعيدٌ نسبيًا ، لذا السفر يستغرقُ وقتًا ”
عبوس بونيتا جعلني أشعرُ بأن الأمر جديّ . لماذا ؟ هل هُناكَ مُشكلة إن لم يعودوا سريعًا ؟
” لو كانت السيدة هيستيا هنا على الأقل ، لما اضطررتِ لإنهاءِ طعامكِ بِالقوة ”
” لا، فكلام جيلبرت لم يكُن خَاطِئاً “
” اتفقتُ مع توم أن يضعَ كميةٍ أقلَ في الغد . لأننا أردنا زيادة طعامكِ تدريجياً …”
يبدو أنَ الطاهي وبونيتا تعمدا عدم تقليل حِصتي ، آملينَ أن أتناولها كُلها يوماً ما .
من يظُن أنني سأرى مُعادلة R=VD هُنا ؟
– الإنجاز = تحقيق الأحلام –
” سأأكل كثيرًا في المُستقبل ، فلا تقلقي الآن ”
” اووهه ، يا ليت ذلِكَ اليوم يأتي قريبًا !”
خفّت ملامح بونيتا بِحديثي معها . وهيَ تبتسم وتُدلِكُ يدي حتى أنام ، شعرتُ بأن اضطرابي بدأ يهدأ .
استمرَ تدليكُها ليّ ، وغلبني النُعاس تدريجيًا .
” السيد جيلبرت لم يكُن بارداً هكذا مِن قبل . لكن بعدَ وفاة السيدة ، أصبحَ صارماً مع نفسهِ ” – توفيت بعد أختفاء ماري بِعدة أشهر – مِن كان عِنده ٦ سنين –
ليسَ مع نفسهِ فقط ، أليس كذلك ؟ أمالتُ رأسي مُتعجبةً مِن كلامِها .
” لأنهُ يراكِ أختهُ الوحيدة ، فقد أرادكِ مِثالية . فكابنٍ أكبر ، يشعرُ بِمسؤولية كبيرة . لا تدركينَ كم هوَ صارمٌ حتى مع إخوتهِ الآخرين أيضًا ”
حياة الابن الأكبر صعبة كما الأختُ الكُبرى ! وهوَ لايزال بِعمُر الخمسةَ عشر ، لا أتصورُ حجمَ المسؤولية التي يتحملُها منذُ صِغره .
” أبناء كونِلر المباشِرون لهم هالة يصعُب على العامة تحملُها ، لذا يختارونَ الخدم مِن العائلات الفرعية كالسيد لوكاس ، أو مِن البيوت المُخلصة مثلُنا . لهذا حظيتُ بِرعاية السادة منذُ طفولتِهم “
لهذا كان ولاء خدم كونِلر عميقًا جدًّا ، وطيبتُهم معيّ بِشكل صادق .
تذكرتُ أن الخدم في القصة غضبوا حينَ لطخت ماري سمعة العائلة .
بونيتا ، التي عرفت جيلبرت طَويلاً ، كانت تحمل لهُ عاطفةً خاصة .
صوتُها وهيَ تتحدث عنهُ جعَلنيّ أغارُ مِنه . فرُبما تلقى حُبًا كبيرًا دونَ أن يُدرك .
شعرت بونيتا بدموعي الناعِسة ، فضمتني وأنا مُستلقية .
” أنا أُحِّب كُلَ أطفال عائلة كونِلر “
ربما أنا أيضًا أتلقى حُبًا كبيرًا دونَ أن أُدرِكه .
***
” يا إلهي !”
بعد أن تأكدت بونيتا مِن نومِ ماري وتنفُسِها الهادئ ، رتبت فِراشها وغادرت الغُرفة . لكِنها فوجئت بشخصٍ واقِف عِندَ الباب .
” السيّد جيلبرت ؟”
صدمتُها تضاعفت حينَ عرفت هويتهُ . كان جيلبرت واقفاً أمام غُرفةِ ماري .
رغمَ أنهُ في الخامسةِ عشرة ، كانَ طولهُ يوازيها . لكن لماذا هوَ هُنا ؟
” لمَ أنتَ هُنا ؟”
“… كح ، أنهُ أمرٌ ما .”
” هل تبحثُ عنيّ؟ أهُناك شيء ما يُزعِجُكَ في فِراشك ؟”
” لا، ليسَ كذلِكَ .”
أوقفها جيلبرت وهيَ تستعدُ لِلذهابِ إلى غُرفتِه . بدا مُترددًا ، ولم يُجب على سؤالِها عن سبَبِ وجوده .
لاحظت بونيتا أنه يعبثُ بِشيء بِيده ، فنظرت لترى زِجاجة صغيرة تَحتوي سائلاً أخضر .
” هذا …”
كيف لا تعرفه خادمة قد ربْت الأطفال ؟ إنهُ دواء لتسهيلِ الهضم .
في هذا الوقت المُتأخر ، حيث تُغلق عيادات كونِلر مُبكرًا ، لا بدَ. مِن أنهُ أحضرهُ مِن الدكتور إدوارد بِنفسه .
” سيّدنا لم يتَغير ”
كتمت بونيتا ضحكتُها . مجيئه بِهذا الدواء تطلبَ شجاعةٍ كبيرة مِن جيلبرت ، ولم ترغب في إحراجه .
فهوَ يُحاول تقليد صرامة والده الدوق إستين ، لكن لطفهُ الفطري لا يختفي .
أم أنَ الأمر مُختلف ؟ تذكرت بونيتا وجه إستين الشاحب حينَ مرضت ماري ، وأمرهم بِجلب أندر الأدوية .
كان تعبير جيلبرت الآن شبيهًا بوالِده .
ليس تقليدًا ، بل هوَ تشابهٌ طَبيعي .
شعرت بِفخرٍ عارم بِهذا الفتى الذي كبُرَ أمامَ عينيّها ، فهوَ جديرٌ بِأُمهِ هيلينا .
لاحظ جيلبرت نظراتُها بين الدواء ووجهه ، فأدارَ عينيّه وناولها الزُجاجة .
” سيكون مُزعجاً إن مرِضت تِلكَ الضعيفةُ عبثًا .”
ضعيفة ؟ تذكرت بونيتا أن ماري ليست كذلك ، إنها فقط قليلةُ الطعام .
يبدو أن الأب والأخ لا يُطيقان رؤية صغيرتهُما ضئيلة .
بعدَ تسعِ سنوات مِن الغياب ، عادت هزيلة ، فكيفَ لا يقلقون ؟ فتلقت بونيتا الدواء بِفرح .
” شُكرًا يا سيدي . لِحُسن الحظ ، نامت الآنسة بِهدوء .”
“… جيد .”
” سأحتفظ بِالدواء ، وأُعطيها إياه عِندما تَستيقظ .”
” يا لها مِن حمقاء ، أكلت كُلَ شيء لأننيّ أخبرتُها بِذلك .”
فأنتَ من أخبرها ، أليسَ هذا واضحًا ؟ بونيتا ، وهيَ ترى ظهرهُ وهوَ يعود مُتذمراً إلى غُرفته ، أمسكت الزُجاجة بِقوة .
” رُبما يتعايشُ الأخ الأكبر و الأخت الصُغرى أفضلَ مِما توقعت ؟”
فكرت بونيتا بأنَ تأثير ماري على هذا المكان كبير حقًا .
التعليقات لهذا الفصل " 35"